وسُئِلَ ابنُ مسعود عن هذه الآية، فقال : سألنا عنها، فقيل لنا : إن الشهداء على نهر بباب الجنّة في قُبَّةٍ خضراءَ. وفي رواية : في روضةٍ خضراء.
وعن جابرٍ بن عبد الله، قال : قال رسول الله ﷺ « ألاَ أبَشرُكَ أنَّ أباكَ -حَيْثُ أصِيبَ بأحُدٍ -أحْيَاهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ : مَا تُرِيدُ يا عبدَ اللهِ بنَ عَمرو أن أَفْعَلَ لَكَ؟ قَالَ : يَا رَبِّ، أحِبُّ أن تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيَا فأقْتَلَ فيك مرةً أخْرَى ».
الاحتمالُ الثاني -وهو أنهم أحياءٌ في الحالِ- والقائلون بهذا القولِ، منهم من أثبت الحياةَ للروح، ومنهم من أثبتها للبدنِ، فمن أثبتها للروح قال : لقوله تعالى :﴿ ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي ﴾ [ الفجر : ٢٧- ٣٠ ] والمراد : الروح.
وروي انه ﷺ يوم بدرٍ كان ينادي المقتولين، ويقول :﴿ فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ] فقيل : يا رسول الله، إنهم أمواتٌ، فكيف تُناديهم؟ فقال ﷺ :« إنهم أسمع منكم » وقال ﷺ :« أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار ».
الاحتمالُ الثالثُ : من أثبت الحياة للأجساد، وهؤلاء اختلفوا، فقال بعضهم : أنه -تعالى- يُصْعد أجسادَ الشهداءِ إلى السموات، وإلى قناديل تحت العرش، ويوصل إليها الكرامات.
وقد طعنوا في هذا، وقالوا : إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع، ونرى المقتول يبقى أياماً إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه، فَعَوْدُ الحياة إليها مُسْتبعدٌ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة، متنعمة عارفة : لزم القول بالسفسطة.
الاحتمالُ الرابعُ : إن كونهم أحياء من طريق المجاز.
قال الأصمُّ البلخيُّ : إذا كان الميِّتُ عظيم المنزلةِ في الدينِ، وكانت عاقبته يومَ القيامةِ إلى السعادة والكرامة، صحَّ أن يقالَ : أنه حَيّ، وليس بميتٍ، كما يقال -في الجاهلِ الذي لا ينفع نفسه ولا غيره- : إنه ميتٌ، وكما يقال -للبليد- : إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، كما قال عبد الملك بن مروان -لما رأى الزُّهريَّ، وعلم فقهه وتحقيقه- : مَا مَاتَ مَنْ خَلْفَهُ مِثْلُكَ. وإذا مَاتَ الإنسانُ، وخلف ثناء جميلاً، وذكراً حَسَناً، يقال -على سبيل المجاز : أنه مَا مَاتَ.
وقال آخَرونَ : مجازُ هذه الآية أن أجسادَهم لا تَبْلى تحت الأرضِ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يُجري العينَ إلى قبور الشهداء، أمر أن ينادى : مَن كان له قَتيل فليخْرجه من هذا الموضع، قال جابرٌ : فخرجنا إليهم، فأخرجناهم رِطاب الأبدان فأصابَ المسحاةُ أصبعَ رَجُلٍ مَنْهُمْ، فانفطرت دماً.
وقيل : المراد -بكونهم أحياء- أنهم لا يُغَسَّلون كما يُغَسَل الأموات.
قال القرطبي : إذا كان الشهيدُ حيًّا -حكماً- فلا يُصَلَّى عليه، كالحَيِّ حِسًّا.
قوله :﴿ فَرِحِينَ ﴾ فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون حالاً من الضمير في « أحياء ».
ثانيها : أن يكون حالاً من الضمير في الظرف.


الصفحة التالية
Icon