واعلم أن من يقول : إن الفَارِقَ بين الصُّورَتَيْنِ يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لَسَقَطَتْ حُجَّةُ الله في هذه الآية الكريمة، لأن اليهود كانوا يقولون : معجزات موسى ﷺ أظْهَرُ وأبهرِ من معجزاتك، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثبات هاهنا، ولو كان هذا الفرق [ مقبولاً لسقطت هذه الحدة، وحيث لا يجوز القول بسقوطها، علمنا أن النقض ] على الإطلاق مبطل.
قوله :﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاس ﴾
وصف الكتاب بصفتين :
أحدهما : قوله :« نوراً » وهو مَنْصُوبٌ على الحال، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه « الهاء » في « به »، فالعامل فيها « جاء ».
والثاني : أنه « الكتاب »، فالعامل فيه « أنزل »، و « للناس » صِفَةٌ ل « هدى » وسمَّاه « نوراً » تشبيهاً له بالنُّورِ الذي يبين به الطريق.
فإن قيل : فعلى هذا لا يَبْقَى بَيْنَ كونه نوراً، وبين كونه هُدًى للناس فَرْقٌ، فعطف أحدهما على الآخر يوجب التَّغَايُرَ.
فالجواب : أن للنور صفتان :
أحدهما : كونه في نَفْسِه ظَاهراً جَليَّا.
والثانية : كونه بحيث يكون سَبَاً لظهرر غيره، فالمراد من كونه « نوراً وهدى » هذان الأمران وقد وُصِفَ القرآن أيضاً بهذين الوصفْينِ، فقال :﴿ ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ].
قوله :« تَجْعَلُونَهُ » قرا ابن كثير وابن عمرو بياء الغَيْبَةِ، وكذلك « يُبْدُونَهَا ويُخفُون كَثِيراً » والباقون بتاء الخطاب في الثلاثة الأفعال، فأما الغَيْبَةُ فلِلحَمْلِ على ما تقدم من الغَيْبةِ في قوله تعالى :﴿ وَمَا قَدَرُوا ﴾ إلى آخره.
وعلى هذا فيكون في قوله :« وعُلِّمْتُمْ » تأويلان :
أحدهما : أنه خطاب لهم أيضاً وإنماء جاء به على طريق الالْتِفَاتِ.
والثاني : أنه خطابٌ إلى المؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله :﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب ﴾ وبين قوله :« قل الله ».
وأما القرءاة بتاء الخطاب ففيها مناسبة لقوله :« وعلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ » ورَجَّحَهَا مكي وجماعة كذلك قال مكي :« وذلك حَسَنٌ في المُشَاكَلَةِ والمُطابَقَةِ، واتِّصالِ بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأن أكثر القراء عليه ».
قال أبو حيَّان :« ومن قال : إن المكرين العرب، أو كفار قريش لم يكن جَعْلُ الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال خلال السُّؤال والجواب : تجعلونه قراطيس [ يبدونها ]، ومثل هذا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ؛ لأن فيه تَفْكِيكاً للنَّظْمِ، حيث جعل أول الكلام خِطَاباً لكفار قريش، وآخره خطاباً لليهود ».
قال :« وقد أجيب بالجميع لما اشتركوا في إنكار نُبُوَّةِ رسالة رسول الله ﷺ جاء بَعْضُ الكلام خِطَاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل ».