قوله :« تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ » : يجوز أن تكون « جعل » بمعنى « صَيَّرَ » وأن تكون بمعنى « ألقى » أي : يضعونه في كَاغدٍ.
وهذه الجلمة في محلِّ نصب على الحال، إما من « الكتاب » وإما من « الهاء » في « به » كما تقدم في « نوراً ».
قوله :« قَرَاطِيس » فيه ثلاثة أوجه :
والثاني : أنه على حذف مضاف، أي : يجعلونه ذَا قَرَاطِيسَ.
والثالث : أنهم نَزَّلوه مَنْزِلَةَ القراطيس، وقد تقدم تفسير القراطيس. والجملة من قوله :« تبدونها » في محل نصب صِفَةً ل « قراطيس » وأما « تخفون » فقال أبو البقاء : إنها صفة أيضاً لها، وقدر ضميراً محذوفاً، أي : تخفون منها كثيراً.
وأما مكي فقال :« وتخفون » متبدأ لا مَوْضِعَ له من الإعراب. انتهى.
كأنه لما رأى خُلُوَّ الجملة من ضمير يَعُودُ على « قراطيس » منع كونه صِفَةً، وقد تقدم أنه مُقَدَّرٌ، وهو أولى، وقد جوَّز الواحدي في « تبدون » أن يكون حالاً من ضمير « الكتاب » من قوله :« تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس » على أنه يجعل الكتاب القراطيس في معنى؛ لأنه مُكْتَتَبٌ فيها. انتهى.
قوله :« عَلَى أنْ تَجْعَلَ » اعْتِذَارٌ عن مجيء خبره مُؤنُّثاً، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع.
قوله :« وعُلِّمْتُمْ » يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في « يَجْعَلُونه »، وما عطف مُسْتَانفٌ، وأن يكون حالاً، وإنما أتى به مُخَاطباً لأجل الالْتفاتِ، وأما على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ، ومن اشترط « قد » في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا، أي : وقد علمتم ما لم تعلموا.
والأكثرون على أن الخطابَ هذا لليهود؛ يقول : علمتم على لسان محمد ﷺ [ فضيعوه ولم ينتفعوا به.
وقال مجاهدك هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد ﷺ ].
فإن قيل : إن كل كتاب لا بد وأن يوضع في القراطيس، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب، فما السبب في أن الله - تبارك وتعالى - حكى هذا المعنى في معرض الذَّمِّ لهم؟
فالجواب : أن الذَّمِّ لم يقع على هذا المعنى فقط، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس، وفَرَّقُوهُ وبعَّضُوُ، لا جَرَمَ قدروا على إبداء البَعْضِ وإخْفَاءٍ البعض، وهو الذي فيه صِفَةُ محمد ﷺ.
فإن قيل : كيف يقدرون على ذلك، مع أن التوراة كتابٌ وصل إلى أهل المَشْرِقِ والمغرب، وعرفه أكثر أهل العلم وحَفِظُوهُ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه، كما أن الرَّجُلَ في هذا الزمان إذا أراد إدخال الزِّيَادَةِ والنقصان في القرآن لم يقدر على ذلك، فكذا القول في التَّوْرَاةِ؟
فالجواب أنا ذكرنا في سورة « البقرة » أن المراد من التَّحْرِيف تفسير آيات التوراة بالوُجُوهِ الفاسدة الباكلة، كما يفعله المبطلون في زَمَانِنَا هذا بآيات القرآن.


الصفحة التالية
Icon