وثانيها : قال الجُبَّائي :« إنَّ مخاطبته - سبحانه جلَّ ذكره - لعباده، على لسان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بمنزلة الخبر عن الغائب، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يردَّه مرة أخرى إلى الغائب ».
وثالثها : قال ابن الخطيب :« إن الانتقال من لفظ الغيبة، إلى لفظِ الحضور، يدلُّ على مزيد التقريب، والإكرام، وأمَّا الانتقال من لفظ الحضور، إلى لفظ الغيبة، فإنه يدلُّ على المقتِ، والتعذيب، وهو اللاَّئق بحال هؤلاء، لأنَّ من كان صفته، أنَّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر، أن يكون اللاَّئقُ به ذلك ». والأول كما في الفاتحة، فإن قوله :﴿ بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم ﴾ [ الفاتحة : ١-٣ ] خطاب غيبة، ثم قال :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ] : وهذا يدل على أن العبد، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب عُلُو الدرجة، وكمال القرب.
ثم قال :« بريحٍ طيبةٍ » : لينة، « وفَرِحُوا بها » أي : بالرِّيح، « جَاءَتْهَا » أي : جاءت الفلك، أو جاءت الريح اللينة كما تقدَّم، « ريح عاصف » شديدة، ولم يقل عاصفة؛ لاختصاص الرِّيح بالعُصُوف، وقيل :« الرِّيح » يُذكَّر ويؤنث.
قال الفراء، والزجاج : يقال : ريحٌ عاصفٌ، وعاصفةٌ، وقد عصفتْ عُصُوفاً وأعْصَفَتْ فهي مُعْصِف ومُعْصِفَة، وعصفت الريح : اشتدتْ وأصلُ العَصْف : السُّرعة، يقال : ناقةٌ عاصفٌ، وعصُوفٌ؛ سريعة، وإنما قيل :« ريحٌ عاصفٌ » لأنَّه يُراد ذات عُصُوف، كما قيل : لابنٌ وتامرٌ؛ أو لأنه لفظ يذكَّر ويؤنَّث.
فإن قيل : الضميرُ في « جَاءتْهَا » يعودُ على الفلك، وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله :« وجَريْنَ بهمْ » عائد على الفلك، وهو ضميرُ الجمع، فما السببُ فيه؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : لا نُسَلِّم أن الضمير في « جَاءتْهَا »، عائدٌ إلى الفلك، بل يعُود على الرِّيح الطيِّبة.
الثاني : لو سلَّمنا ذلك، إلاَّ أنّض لفظ الفكل يصلح للواحد والجمع. ثم قال :« وجَاءَهُم » أي : ركَّاب السفينة « الموج مِن كُلِّ مكانٍ » وهو حركةُ الماءِ واختلاطهُن وقيل : المَوْج ما ارتفع من الماء فوق البحر، « وظَنُّوا » : أيْقَنُوا « أنَّهُم أحيطَ بهم » أي : ظنُّوا القرب من الهلاك، وأصله : أنَّ العدوَّ إذا أحاط بقوم أو بلدٍ، فقد دنوا من الهلاك، ﴿ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ أي : أخلصُوا لله في الدعاء، ولم يدعُوا أحداً سواه، قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : يريد : ترك الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً، وقال الحسن - رحمه الله :« دَعَوُا اللهُ مُخْلصينَ؛ جارياً مُجْرَى الإيمان الاضطراري »، وقال ابن زيد :« هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضُّرُّ والبلاء لم يدعُوا إلاَّ الله » وعن أبي عبيدة : أنَّ المراد من ذلك الدعاء قولهم : أهْيَا شر هَيَا، أي : يا حيُّ يا قيُّوم، وقالوا : لَئِنْ أنْجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف، أو من هذه الأمواج، أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ، وإن لم يسبق ذكرها؛ إلا أنه سبق ما يدلُّ عليها، ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ لك بالإيمان والطَّاعة.


الصفحة التالية
Icon