فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم أعجب منهم وقال لهم : أخبروني أيها القوم خبركم، فإني قد أحصيت الأرض كلها... برها وبحرها، وشرقها وغربها، ونورها وظلمتها... فلم أجد فيها أحداً مثلكم... ! فأخبروني خبركم. قالوا : نعم، سلنا عما تريد. قال : أخبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قال : عمداً فعلنا ذلك، لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا : ليس فينا متّهم وليس فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا : ليس فينا مظالم. قال : فما بالكم ليس بينكم حكام؟ قالوا : لا نختصم. قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم أشراف؟ قالوا : لا نتنافس. قال : فما بالكم لا تتفاوتون ولا تتفاضلون؟ قالوا : من قبل أنا متواصلون متراحمون. قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال : فما بالكم لا تقتتلون ولا تستّبون؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم وسُسْنا أنفسنا بالحلم. قال : فما بال كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع، فلا يغتاب بعضنا بعضاً. قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صحت صدورنا فنزع الله بذلك الغل والحسد من قلوبنا. قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا : من قبل أنا نقسم بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع. قال : فما بالكم جُعِلْتُم أطول الناس أعماراً؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل. قال : فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحردون؟ قالوا : من قبل أنا وطّنا أنفسنا للبلاء منذ كنا، وأحببناه وحرصنا عليه فعرينا منه. قال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ولا نعمل بأنواء النجوم. قال : حدثوني... أهكذا وجدتم آبائكم يفعلون؟ قالوا : نعم، وجدنا آبائنا يرحمون مساكينهم، ويواسون فقراءهم ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون على من جهل عليهم، ويستغفرون لم سبهم، ويصلون أرحامهم، ويردون أماناتهم، ويحفظون وقتهم لصلاتهم، ويوفون بعهودهم، ويصدقون في مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفائهم ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلح الله بذلك أمرهم وحفظهم به ما كانوا أحياء، وكان حقاً عليه أن يخلفهم في تركتهم.