البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٢١
أولئك بأخبار أربعة : الأول : ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، فمنهم من حمله على ظاهره وقال : إن ذلك يكون في الدنيا، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم نارا، فلا يحسون بها إلا بعد الموت. ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار، استدراجا وإملاء لهم. ويكون في هذا المعنى بعض تجوز، لأنه حالة الأكل لم يكن نارا، إنما بعد صارت في بطونهم نارا. وقيل : إن ذلك يكون في الآخرة، فهو حقيقة أيضا. واختلفوا فقيل :
جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل نارا في الآخرة، ثم يطعمهم اللّه إياه في النار. وقيل : يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه. وأكثر العلماء على تأويل قوله : ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، على معنى : أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل اللّه، والاشتراء به الثمن القليل، بالنار. وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار. وعبر بالأكل، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال.
وذكر في بطونهم، إما على سبيل التوكيد، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن، فصار نظير : وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «١». أو كناية عن ملء البطن، لأنه يقال : فلان أكل في بطنه، وفلان أكل في بعض بطنه. أو لرفع توهم المجاز، إذ يقال : أكل فلان ماله، إذا بذره، وإن لم يأكله. وجعل المأكول النار، تسمية له بما يؤول إليه، لأنه سبب النار، وذلك كما يقولون : أكل فلان الدم، يريدون الدية، لأنها بدل من الدم، قال الشاعر :
فلو أن حيا يقبل المال فدية لسقنا إليه المال كالسيل مفعما
ولكن لنا قوم أصيب أخوهم رضا العار واختاروا على اللبن الدما
وقال آخر :
أكلت دما إن لم أرعك بضربة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وقال آخر :
تأكل كل ليلة أكافا أي ثمن أكاف، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك. وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير، ومن ذلك : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً «٢»، ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وذكر في بطونهم تنبيها على شرههم وتقبيحا لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن
(١) سورة الأنعام : ٦/ ٣٨.
(٢) سورة النساء : ٤/ ١٠.