البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٢٥
سخاءك بحاتم، أي بسخاء حاتم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو قول الكسائي وقطرب، وهو قريب من قول المؤرج. وقيل : اصبر هنا بمعنى أجرأ، وهي لغة يمانية، فيكون لفظ اصبر إذ ذاك مشتركا بين معناها المتبادر إلى الذهن من حبس النفس على الشيء المكروه، ومعنى الجراءة، أي ما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار، قاله الحسن وقتادة والربيع وابن جبير. قال الفراء : أخبرني الكسائي قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما، فحلف له خصمه، فقال له : ما أصبرك على اللّه! أي ما أجرأك على اللّه! والقائلون بأنه مجاز. فقيل : هو مجاز أريد به العمل، أي ما أعلمهم بأعمال أهل النار! قاله مجاهد. وقيل : هو مجاز أريد به قلة الجزع، أي ما أقل جزعهم من النار! وقيل : هو مجاز أريد به الرضا، وتقريره أن الراضي بالشيء يكون راضيا بمعلوله ولازمه، إذا علم ذلك اللزوم. فلما أقدموا على ما يوجب النار، وهم عالمون بذلك، صاروا كالراضين بعذاب اللّه والصابرين عليه، وهو كما يقول لمن تعرض لغضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن! وقال الزمخشري : فما أصبرهم على النار! تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم.
انتهى كلامه، وانتهى القول في أن الكلام تعجب. وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم، أي : أيّ شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهو قول ابن عباس والسدي. يقال : صبره وأصبره بمعنى : أي جعله يصبر، لا أن أصبر هنا بمعنى : حبس واضطر، فيكون أفعل بمعنى :
فعل، خلافا للمبرد، إذ زعم أن أصبر بمعنى : صبر، ولا نعرف ذلك في اللغة، وإنما تكون الهمزة للنقل، أي يجعل ذا صبر. وذهب قوم إلى أن ما نافية، والمعنى : أن اللّه ما أصبرهم على النار، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب، فتلخص في معنى قوله : فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ التعجب والاستفهام والنفي، وتلخص في التعجب، أهو حقيقة أم مجاز؟
وكلاهما : أذلك في الدنيا أو في الآخرة؟.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، ذلك : إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، قاله الزجاج أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار، قاله الحسن، أو العذاب، قاله الزمخشري أو الاشتراء، قاله ابن عطية، تقريعا على بعض التفاسير في الكتاب من قوله : نَزَّلَ الْكِتابَ، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم اللّه وورد أخباره به، أو الكتمان. وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار اللّه أنه ختم على قلوبهم، وعلى


الصفحة التالية
Icon