البحر المحيط، ج ٢، ص : ٥١
وجملة الأمر بالشكر، وجملة النهي عن الكفران. فبدىء أولا بجملة الذكر، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى، وذكر له جواب مترتب عليه. وثنى بجملة الشكر، لأنه ثناء على شيء خاص، وقد اندرج تحت الأول، فهو بمنزلة التوكيد، فلم يحتج إلى جواب. وختم بجملة النهي، لأنه لما أمر بالشكر، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان، وذلك ممكن لأنه من باب التروك. وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي، بدىء بالأمر. وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله : وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ»
، فأغنى عن إعادته هنا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، قيل : سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا : سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا. هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف، وهو الإيمان مجعولا فعلا ماضيا في صلة الذين، دالا على الثبوت والالتباس به في تقدّم زمانهم، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام. فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة، وهو أمر قلبي والصلاة ثمرته، وهي من أشق التكاليف لتكررها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيرا، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. وقد قيد بعضهم الصبر هنا : بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض. وروي عن ابن عباس وبعضهم قال : هو كناية عن الصوم، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر، وبعضهم قال : هو كناية عن الجهاد لقوله، بعد : وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ، وهو قول أبي مسلم. والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ، فتندرج هذه الأفراد تحته. وروي عن علي كرم اللّه وجهه أنه قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له.
وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله : اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ : أي بالمعونة والتأييد، كما قال : اهجهم، وروح القدس
(١) سورة البقرة : ٢/ ٤١.