البحر المحيط، ج ٢، ص : ٧٥٠
النيات، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين، وغاية الوعيد للعاصين.
والظاهر في : اللام، أنها للملك، وكان ملكا له لأنه تعالى هو المنشئ له، الخالق.
وقيل : المعنى للّه تدبير ما في السموات وما في الأرض، وخص السموات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات، وقدم السموات لعظمها، وجاء بلفظ : ما، تغليبا لما لا يعقل على من يعقل، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان، لا يعقل، وأجناس ذلك كثيرة. وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة : إنس وجنّ وملائكة.
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ظاهر : ما، العموم، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى، لأن علمه ليس ناشئا عن وجود الأشياء، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد، وبعد الإيجاد، وبعد الإعدام. بخلاف علم المخلوق، فإنه لا يعلم الشيء إلّا بعد إيجاده، فعلمه محدث. وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، واختاره ابن جرير : هو في معنى الشهادة، أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب، وقيل : من الاحتيال للربا، وقال مجاهد : من الشك واليقين، ومما يدل على أن اللّه تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب، قوله :
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «١».
وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد.
وقال القاضي عبد الجبار : بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم. انتهى كلامه. وإلى ما يهجس في النفس أشار، واللّه أعلم، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
بقوله :«إن اللّه تعالى تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم»
وقال :«إن تظهروا العمل أو تسروه»
.

(١) سورة البقرة : ٢/ ٢٣٥. [.....]


الصفحة التالية
Icon