البحر المحيط، ج ٣، ص : ٥٧٦
وطئ آباؤكم. وما وطئ يشمل الموطوءة بزنا وغيره، والتقدير : ما وطئ آباؤكم إلا التي تقدم هو أي : وطؤها بزنا من آبائكم فانكحوهن. ومن جعل ما في قوله : ما نكح مصدرية كما قررناه، قال : المعنى إلا ما تقدم منكم من تلك العقود الفاسدة فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذا كان مما تقرر الإسلام عليه. وقال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف استثنى ما قد سلف من ما نكح آباؤكم؟ (قلت) : كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله : ولا عيب فيهم. يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد في نحو قولهم : حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. انتهى كلامه. وقال الأخفش المعنى : فإنكم تعذبون به إلا ما قد سلف، فقد وضعه اللّه عنكم.
وقيل : في الآية تقديم وتأخير، تقديره : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف، وهذا جهل بعلم النحو، وعلم المعاني. أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها، وكذلك المستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه. وأما من حيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزمان الماضي، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة، وهذا معنى لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام عربي لتهافته. والذي يظهر من الآية أن كل امرأة نكحها أبو الرجل بعقد أو ملك فإنه يحرم عليه أن ينكحها بعقد أو ملك، لأن النكاح ينطلق على الموطوءة بعقد أو ملك، لأنه ليس إلا نكاح أو سفاح، والسفاح هو الزنا، والنكاح هو المباح، وأشار إلى تحريم ذلك بقوله :
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا أي أن نكاح الأبناء نساء آبائهم هو فاحشة أي :
بالغة في القبح. ومقت : أي يمقت اللّه فاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي. أو تمقته العرب أي : مبغض محتقر عندهم، وكان ناس من ذوي المروءات في الجاهلية يمقتونه. قال أبو عبيدة وغيره : كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المقتى، نسبة إلى المقت. ومن فسر الا ما قد سلف بالزنا جعل الضمير في أنه عائد عليه أي : انّ ما قد سلف من زنا الآباء كان فاحشة، وكان يستعمل كثيرا بمعنى لم يزل، فالمعنى : أنّ ذلك لم يزل فاحشة، بل هو متصف بالفحش في الماضي والحال والمستقبل، فالفحش وصف لازم له.


الصفحة التالية
Icon