البحر المحيط، ج ٣، ص : ٦٦٢
وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر، جاء من بعد مواضعه. ألا ترى إلى قوله : يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا «١» وقوله بعد : فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ «٢» فكأنهم لم يبادروا بالتحريف، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها. وقد يقال : أنهما شيئان، لكنه حذف هنا. وفي أول المائدة : من بعد مواضعه، لأن قوله : عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه. لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه. فحذف هنا البعدية، وهناك حذف عنها. كل ذلك توسع في العبارة، وكانت البداءة هنا بقوله : عن مواضعه، لأنه أخصر. وفيه تنصيص باللفظ على عن، وعلى المواضع، وإشارة إلى البعدية.
وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي : سمعنا قولك، وعصينا أمرك، أو سمعناه جهرا، وعصيناه سرا قولان. والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مبالغة منهم في عتوهم في الكفر، وجريا على عادتهم مع الأنبياء. ألا ترى إلى قوله : خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا «٣».
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ هذا الكلام غير موجه، ويحتمل وجوها. والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله : سمعنا وعصينا، فيكون معناه : اسمع لا سمعت.
دعوا عليه بالموت أو بالصمم، وأرادوا ذلك في الباطن، وأروا في الظاهر تعظيمه بذلك. إذ يحتمل أن يكون المعنى : واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأمورا بذلك. وقال الزمخشري : أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه : غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا انتهى، وقاله ابن عباس. قال الزمخشري : أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع، أي :
اسمع كلاما غير مسمع إياك، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه. ويحتمل المدح أي : اسمع غير مسمع مكروها من قولك : أسمع فلان فلانا إذا سبه. قال ابن عطية : ومن قال : غير مسمع غير مقبول منك، فإنه لا يساعده التصريف، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى.
ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك، وإنما

_
(١) سورة المائدة : ٥/ ٤١.
(٢) سورة المائدة : ٥/ ٤٢.
(٣) سورة البقرة : ٢/ ٩٣.


الصفحة التالية
Icon