البحر المحيط، ج ٣، ص : ٦٦٣
تقول : سمعت منك بمعنى قبلت، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز، لا بالأسماع. ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ : واسمع غير مسموع منك.
وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ «١» أي فتلا بها. وتحريفا عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولا في أحد التقادير، وانتصاب ليا وطعنا على المفعول من أجله.
وقيل : هما مصدران في موضع الحال أي : لاوين وطاعنين. ومعنى : وطعنا في الدين، أي باللسان. وطعنهم فيه إنكار نبوّته، وتغيير نعته، أو عيب أحكام شريعته، أو تجهيله. وقولهم : لو كان نبيا لدرى أنا نسبه، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة. قال ابن عطية : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى.
وهو يحكي عن يهود الأندلس، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير. قال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين، بعد ما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ (قلت) : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به.
وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أي : لو تبدّلوا بالعصيان الطاعة، ومن الطاعة الإيمان بك، واقتصروا على لفظ اسمع، وتبدلوا براعنا قولهم : وانظرنا، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد، والموهمة إلى ما أمروا به، لكان أي : ذلك القول، خيرا لهم عند اللّه وأعدل أي : أقوم وأصوب. قال عكرمة ومجاهد وغيرهما : أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك، كما قال الحطيئة :

_
(١) سورة النساء : ٤/ ٤٦.


الصفحة التالية
Icon