البحر المحيط، ج ٥، ص : ٤٣٦
الدنيا، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة انتهى. ويكون إنما يريد اللّه ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب، لأنّ من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها، إلا أنّ تقييد الإيجاب المنهي عنه الذي يكون ناشئا عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا، فنفى ذلك، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب، فإنه قد يكون في الدنيا، كما يكون في الآخرة، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة. وقال الحسن : الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل اللّه، فالضمير في قوله : بها، عائد في هذا القول على الأموال فقط. وقال ابن زيد وغيره : التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب، إذ لا يؤجرون عليها انتهى. ويتقوى هذا القول بأنّ تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله : ابن عطية، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال : إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. وقيل : أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون، مثل عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي وغيره، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري.
وقيل : يتمكن حب المال من قلوبهم، والتعب في جمعه، والوصل في حفظه، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده، ثم يقدم على ملك لا يعذره. وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم، ونفوسهم أميل إليها، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم. قال تعالى : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «١».
قال الزمخشري :(فإن قلت) : إن صح تعليق العذاب بإرادة اللّه تعالى، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون؟ (قلت) : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «٢» كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى. وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني، وهما كلاهما معتزليان. قال ابن عيسى : المعنى إنما يريد اللّه أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى
(٢) سورة آل عمران : ٧/ ١٧٨.