البحر المحيط، ج ٨، ص : ٥٦١
معرفة لتقديره قيامكم للّه. وعطف البيان فيه مذهبان : أحدهما : أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة، وهو مذهب الكوفيين، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب، وإنما هو وهم من قائله. وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله : مَقامُ إِبْراهِيمَ «١» عطف بيان من قوله : آياتٌ بَيِّناتٌ «٢»، وذلك لأجل التحالف، فكذلك هذا. والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر، والنهوض فيه بالهمة، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده. والمعنى : إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم، وهي أن تقوموا لوجه اللّه متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به. وإنما قال : مَثْنى وَفُرادى، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، وتخليط الكلام، والتعصب للمذاهب، وقلة الإنصاف، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة، فلا يوقف فيها على تحقيق. وأما الاثنان، إذا نظرا نظر إنصاف، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له، فلا يكاد الحق أن يعدوهما. وأما الواحد، إذا كان جيد الفكر، صحيح النظر، عاريا عن التعصب، طالبا للحق، فبعيد أن يعدوه. وانتصب مَثْنى وَفُرادى على الحال، وقدم مثنى، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، إذا انقدح الحق بين الاثنين، فكر كل واحد منهما بعد ذلك، فيزيد بصيرة. قال الشاعر :
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة فيزداد بعض القوم من بعضهم علما
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا : عطف على أَنْ تَقُومُوا، فالفكرة هنا في حال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وفيما نسبوه إليه. فإن الفكرة تهدي غالبا إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر، والوقف عند أبي حاتم عند قوله : ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، نفي مستأنف. قال ابن عطية : وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين، ويكون على هذا في آيات اللّه والإيمان به. انتهى. واحتمل أن يكون تتفكروا معلقا، والجملة المنفية في موضع نصب، وهو محط التفكر، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم. فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلا، وأثبتهم ذهنا، وأصدقهم قولا، وأنزههم نفسا، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن، ولا يذهب إلى ذلك عاقل، وأن من