البحر المحيط، ج ٩، ص : ١٢٦
التركيب، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ فالقول بالعطف لا يجوز، والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على اللّه، حيث جعلوا للّه الإناث في قولهم : الملائكة بنات اللّه، مع كراهتهم لهن، ووأدهم إياهن، واستنكافهم من ذكرهن.
وارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر : التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام وتفضيل أنفسهم، حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره للّه تعالى واستهانتهم بمن هو مكرم عند اللّه، حيث أنثوهم، وهم الملائكة.
بدأ أولا بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله : أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ، وعدل عن قوله :
ألربكم، لما في ترك الإضافة إليهم من تحسينهم وشرف نبيه بالإضافة إليه. وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة يقتضي المشاهدة، فأنكر عليهم بقوله : أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ : أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئا من حالهم، كما قال في الأخرى :
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «١» وكما قال ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ «٢». ثم أخبر عنهم ثالثا بأعظم الكفر، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد. ولما كان هذا فاحشا قال : وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد اللّه، ويكون تأكيدا لقوله : مِنْ إِفْكِهِمْ، واحتمل أن يعم هذا القول. فإن قلت : لم قال : وَهُمْ شاهِدُونَ، فخص علمهم بالمشاهدة؟ قلت : ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله : أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «٣»، وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق اللّه علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق، لا بطريق استدلال ولا نظر. ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولا عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقه. وقرأ : وَلَدَ اللَّهُ : أي الملائكة ولده، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. تقول : هذه ولدي، وهؤلاء ولدي. انتهى.
وقرأ الجمهور : أَصْطَفَى، بهمزة الاستفهام، على طريقة الإنكار والاستبعاد. وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة : بوصل الألف، وهو من كلام الكفار. حكى اللّه تعالى شنيع قولهم، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد اللّه، حتى جعلوا ذلك الولد بنات اللّه، واللّه تعالى اختارهم على البنين. وقال

(١) سورة الزخرف : ٤٣/ ١٩.
(٢) سورة الكهف : ١٨/ ٥١.
(٣) سورة الزخرف : ٤٣/ ١٩.


الصفحة التالية
Icon