البحر المحيط، ج ٩، ص : ٣٢٩
عليه الواجبات، وأوضح له الأدب في الديانات. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمه اللّه بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقرب بصالح الأعمال، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا، أو ملة متحدة، لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ : أي اجعلوه قائما، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب. انتهى. وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار باللّه وطاعته، فهو إقامة الدين. وقال أبو العالية : إقامة الدين : الإخلاص للّه وعبادته، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه. وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا، فإن كل نبي مصدق. وقيل : لا تتفرقوا فيه، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض.
وَما تَفَرَّقُوا، قال ابن عباس : يعني قرشيا، والعلم : محمد عليه الصلاة والسلام، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي، كما قال : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ «١»، يريدون نبيا. وقيل : الضمير يعود على أمم الأنبياء، جاءهم العلم، فطال عليهم الأمد، فآمن قوم وكفر قوم. وقال ابن عباس أيضا : عائد على أهل الكتاب، والمشركين دليله : وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «٢»، قال المشركون : لم خص بالنبوة، واليهود والنصارى حسدوه. وَلَوْ لا كَلِمَةٌ : أي عدة التأخر إلى يوم القيامة، فحينئذ يقع الجزاء، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ : لجوزوا بأعمالهم في الدنيا لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة. وقال الزجاج : الكلمة قوله : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «٣». وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ : هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مِنْ بَعْدِهِمْ : أي من بعد أسلافهم، أو هم المشركون، أورثوا الكتاب من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرأ زيد بن علي : ورثوا مبنيا للمفعول مشدد الراء، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ : أي من كتابهم، أو من القرآن، أو مما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم، أو من الدين الذي

(١) سورة فاطر : ٣٥/ ٤٢.
(٢) سورة البينة : ٩٨/ ٤. [.....]
(٣) سورة القمر : ٥٤/ ٤٦.


الصفحة التالية
Icon