البحر المحيط، ج ٩، ص : ٣٣١
وَما يُدْرِيكَ أيها المخاطب، لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف : أي لعل مجيء الساعة ولعل الساعة في موضع معمول، وما يدريك، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء : وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ «١».
وتواقفت هذه الجملة مع قوله : اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ. الساعة :
يوم الحساب، ووضع الموازين : القسط، فكأنه قيل : أمركم اللّه بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بها بطلب وقوعها عاجلة، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم، أي هي مما لا يقع عندهم. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ ويلحون في أمر الساعة، لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق، لأن البعث غير مستبعد من قدرة اللّه، ودل عليه الكتاب المعجز، فوجب الإيمان به. اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ : أي بر بعباده المؤمنين، ومن سبق له الخلود في الدنيا، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف، إنما هو إملاء، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام. وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا. وقال الزمخشري : يوصل بره إلى جميعهم، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ : أي من يشاء يرزقه شيئا خاصا، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص، وكل منهم مرزوق، وإن اختلف الرزق، وَهُوَ الْقَوِيُّ : أي البالغ القوة، وهي القدرة الْعَزِيزُ : الغالب الذي لا يغلب.
ولما ذكر تعالى الرزق، ذكر حديث الكسب. ولما كان الحرث في الأرض أصلا من أصول المكاسب، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة، أي من كان يريد عمل الآخرة، وسعى لها سعيها، نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ : أي جزاء حرثه من تضعيف الحسنات، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها : أي العمل لها لا لآخرته، نُؤْتِهِ مِنْها : أي نعطه شيئا منها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ، لأنه لم يعمل شيئا للآخرة. والجملة الأولى وعد منجز، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه، وكل ما يريده هو. واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة، كأنه غير معتبر، فلا يناسب ذكره مع ما أعد اللّه له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء. وجعل فعل الشرط ماضيا، والجواب مجزوم لقوله تعالى : مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها «٢»، ولا نعلم خلافا في جواز الجزم، فإنه فصيح مختار، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب، وهو
(٢) سورة هود : ١١/ ١٥.