مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٥١٣
ذلك، واعلموا أن اللَّه غفور ما أقدمتم عليه في الماضي من الزلة، رحيم ما أتيتم من الجرم والمعصية، فقوله :
وَاتَّقُوا اللَّهَ إشارة إلى المستقبل. وقوله : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إشارة إلى الحالة الماضية.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٠ إلى ٧١]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
[في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ] اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم، ذكر اللَّه هذه الآية استمالة لهم فقال : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى
قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : نزلت في العباس، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث، كان العباس أسيراً يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر، فقال العباس : كنت مسلماً إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه السلام :«إن يكن ما تذكره حقاً فاللَّه يجزيك» فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال العباس : فكلمت رسول اللَّه أن يرد ذلك الذهب علي، فقال :«أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا» قال : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحرث، فقال العباس :
تركتني يا محمد أتكفف قريشاً، فقال رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه سلّم :«أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد اللَّه وعبيد اللَّه والفضل» فقال العباس :
وما يدريك؟ قال :«أخبرني به ربي» قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا اللَّه وأنك عبده ورسوله، واللَّه لم يطلع عليه أحد إلا اللَّه، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتاباً في أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس : فأبدلني اللَّه خيراً من ذلك، لي الآن عشرون عبداً، وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
وروي أنه قدم على رسول اللَّه مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني، وأنا أرجو المغفرة.
واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة، أو في جملة الأسارى. قال قوم : إنها في العباس خاصة، وقال آخرون : إنها نزلت في الكل، وهذا أولى، لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه : أحدها : قوله : قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ وثانيها : قوله : مِنَ الْأَسْرى وثالثها : قوله : فِي قُلُوبِكُمْ / ورابعها : قوله : يُؤْتِكُمْ خَيْراً وخامسها : قوله : مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وسادسها : قوله : وَيَغْفِرْ لَكُمْ فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم، فما الموجب للتخصيص؟ أقصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول الآية هو العباس، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما قوله : إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يجب أن يكون المراد من هذا الخير : الإيمان والعزم على طاعة اللَّه وطاعة رسوله في جميع التكاليف، والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي، ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول، والتوبة عن محاربته.