مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٠٢
والجواب عن السؤال الثالث من وجوه : الأول : قال صاحب «الكشاف» : قوله وَبَنِيَّ أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله : وَاجْنُبْنِي. والثاني : قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم. الثالث : قال مجاهد :
لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنما، والصنم هو التمثال المصور وما ليس بمصور فهو وثن. وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجارا مخصوصة وأشجارا مخصوصة، وهذا الجواب ليس بقوي، لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير اللّه تعالى والحجر كالصنم في ذلك. الرابع : أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية : فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى لنوح : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود : ٤٦]. والخامس : لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن اللّه تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام، ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة : ١٢٤].
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بقوله : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ على أن الكفر والإيمان من اللّه تعالى، وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من اللّه أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من اللّه تعالى، وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد، لأنه عدول عن الظاهر، ولأنا قد ذكرنا وجوها كثيرة في إفساد هذا التأويل.
ثم حكى اللّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ واتفق كل الفرق على أن قوله : أَضْلَلْنَ مجاز لأنها جمادات، والجماد لا يفعل شيئا البتة، إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها.
ثم قال : فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني، أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته، والدليل عليه أن قوله : وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول : أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك، والأول باطل من وجهين : الأول : أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وأيضا قوله : فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه / على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم بإصلاح مهماته. والثاني : أن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، ولما بطل هذا ثبت أن قوله : وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار.
وإذا ثبت هذا فنقول : تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة، والأول والثاني باطلان لأن قوله : وَمَنْ عَصانِي اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضا فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم


الصفحة التالية
Icon