مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١١٢
أخرى. والثاني : أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى، والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز، أنه يقال بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل، ومنه قوله تعالى : فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان : ٧٠] ويقال : بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من صفة إلى صفة أخرى، ويقال : تبدل زيد إذا تغيرت أحواله، وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه قوله : بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء : ٥٦] وقوله : بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ : ١٦] إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان :
القول الأول : أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت.
وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال :«يبدل اللّه الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا»
وقوله : وَالسَّماواتُ أي تبدل السموات غير السموات، وهو
كقوله عليه السلام :«لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده»
والمعنى : ولا ذو عهد في عهده بكافر، وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها، وخسوف قمرها، وكونها أبوابا، وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان.
والقول الثاني : أن المراد تبديل الذات. قال ابن مسعود : تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة، فهذا شرح هذين القولين، ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله :
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ المراد هذه الأرض، والتبدل صفة مضافة إليها، وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجودا، فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل، ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل، وإلا لامتنع حصول التبدل، فوجب أن يكون الباقي هو الذات. فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية، والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون : إن عند قيام القيامة لا يعدم اللّه الذوات والأجسام، وإنما يعدم صفاتها وأحوالها.
واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى : كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين : ١٨] وقوله : كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين : ٧] واللّه أعلم.
أما قوله تعالى : وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فنقول أما البروز للّه فقد فسرناه في قوله تعالى : وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً وإنما ذكر الواحد القهار هاهنا، لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكان الأمر في غاية الصعوبة، ونظيره قوله : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر : ١٦] ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهارا بين عجزهم وذلتهم، فقال : وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ.
واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أمورا :
فالصفة الأولى : كونهم مقرنين في الأصفاد. يقال : قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته. والقرآن اسم للحبل الذي يشد به شيئان. وجاء هاهنا على التكثير لكثرة أولئك القوم والأصفاد جمع صفد وهو القيد.


الصفحة التالية
Icon