مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٨٥
الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز. وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعدا لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل، ولما حكم اللّه باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل. ثم حكى اللّه تعالى عن موسى أنه قال : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج الطاعنون في عصمة اللّه الأنبياء بهذه الآية فقالوا : إن الخضر قال لموسى : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وقال موسى : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي / لَكَ أَمْراً وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام، والجواب أن يحمل قوله : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه.
المسألة الثانية : لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً معناه ستجدني صابرا إن شاء اللّه كوني صابرا، وهذا يقتضي وقوع الشك في أن اللّه هل يريد كونه صابرا أم لا. ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب، فهذا يقتضي أن اللّه تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه، وهذا يدل على صحة قولنا :
إن اللّه تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده، قالت المعتزلة : هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب، وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل؟
المسألة الثالثة : قوله تعالى : وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية، والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى : وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن : ٢٣] وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب.
المسألة الرابعة : قول الخضر لموسى عليه السلام : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نسبة إلى قلة العلم والخبر، وقول موسى له : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد، وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات، وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعا وإرشادا إلى الخير. فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال : فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا المبتدئ لتعليمك إياه وإخبارك به، وفي قراءة ابن عامر فلا تسألن محركة اللام مشددة النون بغير ياء. وروى عنه لا تسألني مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع، وفي قراءة الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧١ إلى ٧٣]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)