مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٠٣
بد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية اللّه، فإن قالوا : أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر، فكذلك هاهنا جعل جملة الجنة نزلا للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة، والجواب : قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوبا عن رؤية اللّه كما قال تعالى : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين : ١٥، ١٦] فجعل الصلاء بالنار متأخرا في المرتبة عن كونه محجوبا عن اللّه، ثم قال تعالى : لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا الحول التحول، يقال : حال من مكانه حولا كقوله عاد في حبها عودا يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها، وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٩ إلى ١١٠]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال : قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط، والمعنى لو كتبت كلمات علم اللّه وحكمه وكان البحر مدادا لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات، وتقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات اللّه غير متناهية والمتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهي، قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات، وروي أن حيي بن أخطب قال : في كتابكم : وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة : ٢٦٩] ثم تقرأون : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء : ٨٥] فنزلت هذه الآية
يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات اللّه.
المسألة الثانية : احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام اللّه تعالى واحد بهذه الآية، وقالوا : إنها صريحة في إثبات كلمات اللّه تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم اللّه تعالى، قال الجبائي : وأيضا قوله : قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يدل على أن كلمات اللّه تعالى قد تنفد في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه، وأيضا قال : وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثا والذي يكون المحدث مثلا له فهو أيضا محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية، واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام اللّه أمر محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بأن يسلك طريقة التواضع فقال : قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن اللّه تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا اللّه الواحد الأحد الصمد، والآية تدل على مطلوبين : الأول : أن كلمة إِنَّما تفيد الحصر / وهي قوله : أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. والثاني : أن كون الإله تعالى : إلها واحدا يمكن إثباته بالدلائل السمعية، وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية، ثم قال : فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ


الصفحة التالية
Icon