مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ٧٩
اعلم أن اللّه تعالى لما وصف الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين فقال : إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وهو نعيم الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وهو النار، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن القاطعين بوعيد أصحاب الكبائر تمسكوا بهذه الآية، فقالوا : صاحب الكبيرة فاجر، والفجار كلهم في الجحيم، لأن لفظ الجحيم إذا دخل عليه الألف واللام أفاد الاستغراق والكلام في هذه المسألة قد استقصيناه في سورة البقرة، وهاهنا نكت زائدة لا بد من ذكرها : قالت الوعيدية حصلت في هذه الآية وجوه دالة على دوام الوعيد أحدها : قوله تعالى : يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ويوم الدين يوم الجزاء ولا وقت إلا ويدخل فيه، كما تقول يوم الدنيا ويوم الآخرة الثاني : قال الجبائي : لو خصصنا قوله : وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لكان بعض الفجار يصيرون إلى الجنة ولو صاروا إليها لكانوا من الأبرار وهذا يقتضي أن لا يتميز الفجار عن الأبرار، وذلك باطل لأن اللّه تعالى ميز بين الأمرين، فإذن يجب أن لا يدخل الفجار الجنة كما لا يدخل الأبرار النار والثالث : أنه تعالى قال : وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وهو كقوله : وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة : ٣٧] وإذا لم يكن هناك موت ولا غيبة فليس بعدهما إلا الخلود في النار أبد الآبدين، ولما كان اسم الفاجر يتناول الكافر والمسلم صاحب الكبيرة ثبت بقاء أصحاب الكبائر أبدا في النار، وثبت أن الشفاعة للمطيعين لا لأهل الكبائر والجواب عنه : أنا بينا أن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق دلالة ظنية ضعيفة والمسألة قطعية. والتمسك بالدليل الظني في المطلوب القطعي غير جائز، بل هاهنا ما يدل على قولنا : لأن استعمال الجمع المعرف بالألف واللام في المعهود السابق شائع في اللغة، فيحتمل أن يكون اللفظ هاهنا عائدا إلى الكافرين الذين تقدم ذكرهم من المكذبين بيوم الدين، والكلام في ذلك قد تقدم على سبيل الاستقصاء، سلمنا أن العموم يفيد القطع، لكن لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر، والدليل عليه قوله تعالى في حق الكفار :
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس : ٤٢] فلا يخلو إما أن يكون المراد أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الذين يكونون من جنس الفجرة أو المراد أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ وهم الْفَجَرَةُ والأول : باطل لأن كل كافر فهو فاجر بالإجماع، فتقييد الكافر بالكافر / الذي يكون من جنس الفجرة عبث، وإذا بطل هذا القسم بقي الثاني، وذلك يفيد الحصر، وإذا دلت هذه الآية على أن الكفار هم الفجرة لا غيرهم، ثبت أن صاحب الكبيرة ليس بفاجر على الإطلاق، سلمنا إن الفجار يدخل تحته الكافر والمسلم، لكن قوله : وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ معناه أن مجموع الفجار لا يكونون غائبين، ونحن نقول بموجبه : فإن أحد نوعي الفجار وهم الكفار لا يغيبون، وإذا كان كذلك ثبت أن صدق قولنا إن الفجار بأسرهم لا يغيبون، يكفي فيه أن لا يغيب الكفار، فلا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون، سلمنا ذلك لكن قوله : وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ يقتضي كونهم في الحال في الجحيم وذلك كذب، فلا بد من صرفه عن الظاهر، فهم يحملونه على أنهم بعد الدخول في الجحيم يصدق عليهم قوله : وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ونحن نحمل ذلك على أنهم في الحال ليسوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم، إلا أن ثبوت الاستحقاق لا ينافي العفو، سلمنا ذلك لكنه معارض بالدلائل الدالة على العفو وعلى ثبوت الشفاعة لأهل