وإنما أورد هذا الكلام هاهنا لئلا يُفترَض أن القرآن نزل كما نزلت التوراة وحياً مكتوباً، لم تحتج إلى تلقين استدلالاً بهذه الآية، فيجاب بما سبق، ويضاف إليه أن ليس ثم تفصيل عن الهيئة التي تم بها إيحاء التوراة بدقة إلا قوله - عز وجل - :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ "الأعراف/١٤٥" وهي لا تنفي التلقين صراحة، على أنها تبين المقدار الكبير في التغاير بين إيحاء التوراة والقرآن من حيث أن التوراة كتبت لموسى - عليه السلام - كتابة ولم تتلقن تلقيناً، والقرآن سمي قرآناً علماً عليه أشهر من اسم كتاب مع كونه الاسم الثاني له في الشهرة، دلالة على اجتماع القراءة والكتابة في الحفاظ على القرآن الكريم، لكن التلقين يسبق الكتابة عند ذكر أساليب تعلم القرآن الكريم كما يسبق اسم (القرآن) اسم (الكتاب)، وهو الجاري عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وجماع القول أن جبريل - عليه السلام - قد بلغ أخص مبلغ في مكانته عند الله - سبحانه وتعالى - من بين الملائكة، ولذا أسند إليه تعليم النبي - ﷺ - لفظ القرآن، فصار كل ما سبق خادماً لنقل القرآن الكريم.
المطلب الثالث: من حيث خصوص الخصوص: أي من حيث كون جبريل - عليه السلام - هو المقرئ الوحيد للنبي - ﷺ - من الملائكة، فإن أبا حيان يُعَرِّفُ جبريل - عليه السلام - فيقول: "جبريل اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله - ﷺ -، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة" (١).
وجبريل - عليه السلام - هو المقرئ له صراحة: فعن ابن عباس - رضي الله عنه - حدثه أن رسول الله - ﷺ - قال: (أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف) (٢).

(١) البحر المحيط ١/٣١٦، مرجع سابق.
(٢) صحيح البخاري ٤/١٩٠٩، مرجع سابق.


الصفحة التالية
Icon