أ-عالم الكوخ: بقراءة واعية، نتوصل إلى أن البطل(١) يولد في كوخ تحت ضغط فرعون وحاشيته وفي جو مرعب. حيث "روي أنها حين أَقْرَبَت وضربها الطلق، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبك اليوم. فعالجتها. فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه... ثم قالت: ما جئتك إلا لأقبل مولودك.. فلما خرجت. جاء عيون فرعون، فلفته في خرقة، ووضعته في تنور مسجور، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا، فلم يلقوا شيئاً. فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في اليم"(٢).
فالسردية القرآنية لم تشر إلى لحظة التوتر، لحظة الولادة وما اكتنفها من خوف واضطراب وفقدان التوازن، بل ابتُدِئت القصة من لحظة أخرى،
لحظة الرضاعة.
ولعل هذا يجعلنا ندرك أن القرآن- في قصّه- ينطلق من طبيعة انتظام الأحداث وفاعلية السرد الدلالية، ويعتمد على نموذجية الحدث التأسيسي للقصة. فهو قد انطلق من مرحلة الرضاعة، موقف العطاء وفيض العواطف ولم ينطلق من لحظة الولادة الحاسمة، موقف التوتّر في الزمن الفرعوني.
بـ-عالم البحر: عالم الأمواج والظلام. صمت السرد عنه صمت البحر.
في هذا الجو تضع الأم ابنها "في تابوت مطلي بالقار من داخل، وأغلقته وألقته في بحر النيل ليلاً"(٣) الشيء الذي يدفعنا إلى القول: إن موسى ينتقل من حدث مرعب إلى حدث أكثر رعباً يكون له، انعكاس على تصرفاته وهو فتى كما سنوضح لاحقاً.

(١) استعمالنا للبطل هنا، -وإن كنا نبحث عن نيابة مرضية تليق بسمعة النبي- ليس بغرض استعراض عضلي يجعله المتفوق والمنتصر بل لأنه شخصية رئيسية في العمل القصصي هذا.
(٢) الزمخشري: تفسير الكشاف- سورة القصص- /ج٣/ دار المعرفة بيروت لبنان/ ص١٥٧.
(٣) جلال الدين السيوطي: -تفسير الجلالين- ص٥١١


الصفحة التالية
Icon