وفي سورة الشعراء ألفيناه يؤخر هارون ويقدم موسى للعلة السابقة. حيث يقول: ﴿قَال لهُم مُوسَى ألْقُوا ما أنْتُم مُلْقُونَ... إنَّا لنَحْنُ الغَالِبونَ.. يأْفكُونَ﴾ فالمقاطع تنتهي بفونيم (نون). فناسب أن يقول: ﴿ قالوا آمنا بِربِّ مُوسَى
وهَارُونَ ﴾
. ولو استعمل العكس لحدث الفتور.
فإذن. التكرار- في هذه المقامات- نسبي تجديدي يخضع لمنظومة الإيقاع القرآنية حتى لكأنك تسمعه لأول مرة، فلا تشعر فيه بالتفاوت.
وفي هذا السياق يشير الباقلاني "وفي النظم معنى ثالث. وهو أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين"(١).
ويضيف: "وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتاً بيناً، ويختلف اختلافاً كبيراً، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت. بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة"(٢).
وإن كنا نفضل استعمال كلمة (تمايز) بدل (تفاوت).
وفي هذا التوجه ألفينا أندري جيد يقول: "أريد ألا يحكي المؤلف أبداً حوادث قصته حكاية مباشرة، بل يعرضها، ويعرضها مرات كثيرة من زوايا مختلفة، على لسان الأبطال الذين يمكن أن تكون حوادث القصة التي يحكيها هؤلاء الأشخاص، محوّرةً بعض التحوير، فإنّ ما يثير اهتمام القارئ إشراكه في إقامة المعوج مما يقرأ"(٣).
ولعل هذه الإشارة من شأنها تحقيق المسلسل التواصلي بين الباث والمتلقي. وبخاصة لما يتعلق الأمر بالرسالات ذات الوظيفة المرجعية كالمتن القرآني.

(١) الباقلاني: إعجاز القرآن- تحقيق السيد أحمد صقر- ط٢- دار المعارف بمصر- ص٤٥.
(٢) المصدر نفسه ٥٦.
(٣) أندري جيد: Jaurnal des foux monnoyeurs- ص٣٣-٣٤.


الصفحة التالية
Icon