إن مشروع تحقيق هذا النوع من الشخصيات لا يتجلى إلا في تطبيق التجربة السحرية في حضرة فرعون وسحرته. لنلاحظ هذا المقطع: ﴿ قَالَ رَبِّ إنِّي قَتلْتُ مِنْهم نَفساً فأَخافُ أنْ يَقْتُلونِ وأخِي هَارُونُ هُو أفصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدءَاً يُصَدِّقْنِي إنِّي أخَافُ أنْ يُكَذّبُونِ ﴾
إذن وبعد نجاح التجربة التي اطمأنت إليها نفس موسى، كان لزاماً أن يساق إلى فضاء آخر يسمح بتطبيقها وتحقيق هذا النجاح، لينتصر الحق ويدحض الباطل.
ولكن عقابات واستفهامات كثيرة تقف في وجه هذا التصور الدعوي الجديد.
نحن نعلم أن موسى خرج من منف مدينة فرعون، بعد أن قتل بها قبطياً، والخطاب الرسالاتي هذا، سوف يكلفه مشقة من نوع خاص. حيث طُلِب إليه أن يعود إلى المدينة نفسها ليدعو فرعون وقومه إلى الله.
ولعل المفارقة عجيبة. فكيف يستقيم الفهم؟ موسى يذهب إلى مدينة كان فيها قاتلاً ليعود إليها داعياً!
إن هذا ما جعل موسى متردداً، لذلك وجدناه يبرر تردده بالقتل تارة، وبالعيّ أخرى.
فلقد كلِّف موسى بالتوجه إلى فرعون، غير أنه كان يعاني ضيقاً في صدره، وتلعثماً في لسانه، مما يمنعانه من التبليغ بفصاحة وبيان.
ويبدو أن هذا ناتج عن انفعال موسى وغضبه مما يسبب له ارتباكاً أو توقفاً في جهازه اللغوي. هذا ما "يدفعه إلى استعاضة عنه بالتعبير الفعلي حيث يوجه انفعاله نحو مصدر الإحباط"(١).
فما الشيء الباقي في موسى من شأنه النهوض بهذه المهمة الدعوية؟
إنه القوة. وهي الصفة المؤهلة لمواجهة فرعون القوي الذي يذبّح الأبناء ويستحي النساء.
غير أن القوة وحدها لا تكفي، بل يستلزم وجود عنصر آخر يعمل على تدعيم هذه القوة وتوجيهها. إنه عنصر التبليغ الذي به تتم المحاجة والجدال والإقناع. وهو- بالطبع- غير متوفر في شخصية موسى كما رأينا.

(١) ينظر حلمي المليجي: علم النفس المعاصر- دار المعرفة الجامعية- ط٥- ١٩٨٣- ص٩٤.


الصفحة التالية
Icon