الْأَوَّلُ أَنَّ وُجُودَ التَّمَتُّعِ لَمْ يُحَقَّقْ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ بِسَبَبٍ عَائِقٍ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقْتَهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ، لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّمَتُّعُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ وُجُودُ حَقِيقَةِ التَّمَتُّعِ الَّتِي عُلِّقَ عَلَى وُجُودِهَا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
الثَّانِي أَنَّ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ بِالتَّمَتُّعِ لَهُ مَحَلٌّ مُعَيَّنٌ، لَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِهِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَقَدْ بَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ الثَّابِتِ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَقَوْلِهِ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي» الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَنَّ مَحِلَّهُ هُوَ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْهَدْيِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ بَعْضِهِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، فَجَازَ تَقْدِيمُ الْهَدْيِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، قِيَاسًا عَلَى بَدَلِهِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيَاسٌ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي فَعَلَهَا مُبَيِّنًا بِهَا الْقُرْآنَ.
وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ قَرِيبًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ فَوَارِقٍ تَمْنَعُ مِنْ إِلْحَاقِ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ.
مِنْهَا أَنَّ الْهَدْيَ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَبْحِهِ قَضَاءُ التَّفَثِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي ذَبْحِ الْهَدَايَا: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [٢٢ ٢٩]، وَهَذَا الْحُكْمُ الْمَوْجُودُ فِي الْأَصْلِ مُنْتَفٍ عَنِ الْفَرْعِ ; لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ تَفَثٍ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُنْتَفٍ عَنِ الْفَرْعِ، وَهُوَ الصَّوْمُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ.
وَمِنْهَا أَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا يُؤَدَّى جُزْؤُهُ الْأَكْبَرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [٢ ١٩٦]، وَهَذَا مُنْتَفٍ عَنِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْهَدْيُ، فَلَا يُفْعَلُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ كَمَا تَرَى. وَاسْتِدْلَالُهُمْ: بِأَنَّهُ دَمُ جُبْرَانٍ، فَجَازَ بَعْدَ وُجُوبِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قِيَاسًا عَلَى فِدْيَةِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا.
اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّا قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمْ مُنَاقِشَةً دَقِيقَةً فِي هَدْيِ التَّمَتُّعِ


الصفحة التالية
Icon