وَلَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ صَوْمِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ، الَّذِي لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الطَّحَاوِيِّ مِنْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخَذَا جَوَازَ صَوْمِهَا مِنْ ظَاهِرِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَالظَّاهِرُ سُقُوطُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحَاجَّ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقِ: أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ بِالْحَجِّ مِنَ النِّسَاءِ، وَالصَّيْدِ، وَالطِّيبِ، وَكُلِّ شَيْءٍ. فَقَدْ زَالَ عَنْهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَصَارَ حَلَالًا حِلًّا تَامًّا كُلَّ التَّمَامِ. وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْحَجِّ، فَإِنْ صَامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَقَدَ صَامَهَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ، وَقَضَى مَنَاسِكَهُ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا رَفَثَ فِي الْحَجِّ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ فِيهَا الرَّفَثُ بِالْجِمَاعِ فَمَا دُونَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرَّافِثَ فِيهَا لَيْسَ فِي الْحَجِّ، وَأَمَّا الرَّمْيُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَهُوَ مِنَ السُّنَنِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ تَابِعَةً لَهُ، وَكَذَلِكَ النَّحْرُ فِيهَا إِنْ لَمْ يَنْحَرْ يَوْمَ النَّحْرِ.
أَمَّا كَوْنُهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْحَجِّ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنْهُ، وَفَرَاغِهِ مِنْهُ، حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ عُمُومُ الْآيَةِ، فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ هُوَ جَوَازُ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ، الَّذِي لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ; لِأَنَّ الْمَشْهُورَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، أَوْ رُخِّصَ لَنَا فِي كَذَا، أَوْ أُحِلَّ لَنَا كَذَا لَهُ كُلُّهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ لَفْظًا مَرْفُوعٌ حُكْمًا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ الثَّانِي: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا مِنْ نَوْعِ الْمَرْفُوعِ، وَالْمُسْنَدِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ مُطْلَقَ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ بِظَاهِرِهِ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ
وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَقْرِيبِهِ: الثَّانِي قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، أَوْ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، أَوْ أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشْفِعَ الْأَذَانَ وَمَا أَشْبَهَهُ، كُلُّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَهُ انْتَهَى


الصفحة التالية
Icon