أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَتَحَلَّلْ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ ".
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا مُسْلِمٌ قَبْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَبَعْدَهَا قَالَتْ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا "، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْأُولَى وَيَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ ; لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ فَصَحَّتِ الرِّوَايَاتُ. انْتَهَى مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّ رِوَايَةَ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي قَالَ: إِنَّهَا يَجِبُ تَأْوِيلُهَا بِتَفْسِيرِهَا بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْأُخْرَى فِيهَا مَا لَفْظُهُ: " وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ " ; لِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ كُلَّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ مُفْرِدًا، وَلَمْ يَسُقْ هَدْيًا أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ فِي عُمْرَةٍ، وَيَحِلَّ مِنْهَا الْحِلَّ كُلَّهُ، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهَا: وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُتِمَّ حَجَّتَهُ: يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وَتَفْسِيرُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ. وَقَوْل مَنْ قَالَ: إِنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي عُمْرَتِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِحْلَالِ مِنْهَا حَتَّى يَنْحَرَ يَوْمَ النَّحْرِ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ لِدُخُولِهِ فِي ظَاهِرِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [٢ ١٩٦]، وَهَذَا الْمُعْتَمِرُ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي سَاقَ مَعَهُ هَدْيَ التَّمَتُّعِ إِنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلْنَكْتَفِ هُنَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِغَيْرِ النَّذْرِ.
أَمَّا الْهَدْيُ الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ: وَهُوَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَيَنْحَرَهُ وَيُفَرِّقَهُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ وَهُوَ قَارِنٌ، وَيَكْفِي لِدَمِ الْقِرَانِ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ، بَلْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَبَقِيَّةُ الْمِائَةِ تَطَوُّعٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَا يُهْدِيهِ سَمِينًا حَسَنًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ الْآيَةَ [٢٢ ٣٢]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تَعْظِيمُهَا الِاسْتِسْمَانُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِعْظَامُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [٢٢ ٣٦]. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَقَلَّ الْهَدْيِ شَاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّهَا الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهِيَ: الْجَمَلُ، وَالنَّاقَةُ، وَالْبَقَرَةُ، وَالثَّوْرُ، وَالنَّعْجَةُ، وَالْكَبْشُ، وَالْعَنْزُ، وَالتَّيْسُ.