وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، وَأَنَّ خَيْرَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا هُوَ أَوَّلًا وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ»، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ فَقَالَ مَرَّةً: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وَقَالَ مَرَّةً: «الصَّلَاةُ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا»، وَقَالَ مَرَّةً: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُقَدِّمُ إِيمَانًا بِاللَّهِ.
فَعَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ خَيْرُ الْعَمَلِ، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَهُوَ بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ وَحَالَةِ كُلِّ شَخْصٍ، فَمَنْ كَانَ قَوِيًّا وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَقٌّ لِوَالِدَيْهِ، فَالْجِهَادُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فِي حَقِّهِ مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ ذَا وَالِدَيْنِ، فَبِرُّهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ، وَلِمَ لَا! فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالصَّلَاةِ خَيْرُ الْعَمَلِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ لَا يَصِحُّ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلِهَذَا مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا أَنْ يَقُولَهَا، وَجَعَلَهَا: خَيْرًا مِنَ النَّوْمِ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَلَا بِالنِّسْبَةِ لِأَيِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الصَّلَاةُ بَيْنَ أَذَانِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَذَانِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ
تَعَوَّدَ النَّاسُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ، وَالَّذِي يَقَعُ الْآنَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَقَبْلَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِأَذَانِ عُثْمَانَ، وَقَدْ تَسَاءَلَ النَّاسُ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ، أَهِيَ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ وَيَتَجَدَّدُ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ حِينٍ إِلَى آخَرَ، وَأَجْمَعُ مَا رَأَيْتُ فِيهِ هُوَ كَلَامُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ، جَوَابًا عَلَى سُؤَالٍ وُجِّهَ إِلَيْهِ هَذَا نَصُّهُ:
هَلِ الصَّلَاةُ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوِ الْأَئِمَّةِ، أَمْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَمْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ:
أَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْأَذَانِ شَيْئًا، وَلَا نُقِلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُؤَذَّنُ عَلَى عَهْدِهِ إِلَّا إِذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ ثُمَّ يَخْطُبُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُطْبَتَيْنِ، ثُمَّ يُقِيمُ بِلَالٌ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْأَذَانِ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا وَقَّتَ بِقَوْلِهِ: «صَلَاةٌ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ» بَلْ أَلْفَاظُهُ فِيهَا التَّرْغِيبُ


الصفحة التالية
Icon