فِي الصَّلَاةِ إِذَا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ كَقَوْلِهِ: «مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ»... الْحَدِيثَ.
وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا إِذَا أَتَوُا الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلُّونَ مِنْ حِينِ يَدْخُلُونَ مَا تَيَسَّرَ، مِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ مُقَدَّرَةٌ بِعَدَدٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ قَبْلَهَا سُنَّةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَرْبَعًا تَشْبِيهًا لَهَا بِسُنَّةِ الظُّهْرِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْجُمُعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ وَسَاقَهُمَا، وَخُلَاصَةُ مَا سَاقَهُ فِيهِمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ لَهَا خَصَائِصُ لَا تُوجَدُ فِي الظُّهْرِ فَلَيْسَتْ ظُهْرًا مَقْصُورَةً.
وَكَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي سَفَرِهِ سُنَّةً لِلظُّهْرِ، أَيْ: وَهِيَ مَقْصُورَةٌ فِي السَّفَرِ فَلَا تَمَسُّكَ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا عَنْ حَدِيثِ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إِنْ قِيلَ الْجُمُعَةُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ رَاتِبَةٍ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا عَلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَعَارَضَ غَيْرُهُ قَائِلًا: الْأَذَانُ الَّذِي عَلَى الْمَنَارَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْأَذَانُ الثَّالِثُ لَمَّا سَنَّهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ صَارَ أَذَانًا شَرْعِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَذَانِ الثَّانِي جَائِزَةً حَسَنَةً، وَلَيْسَتْ سُنَّةً رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ.
وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَكُونُ تَرْكُهَا أَفْضَلَ إِذَا كَانَ الْجُهَّالُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا دَاوَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي تَرْكُهَا أَحْيَانًا، كَمَا يَنْبَغِي


الصفحة التالية
Icon