الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ: قِسْمَتُهَا أَثْلَاثًا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٥]، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِيُجَزَّأَ أَثْلَاثًا؛ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَيْسَ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ ثُمَّ قَالَ لِي: أَصْلِحْ لَحْمَهَا، فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ، حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَدَقَةً». وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
[الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا]
وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: ٣٧].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ﴾ [الحج: ٣٧] مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ؛ فَإِنَّ النَّيْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَارِئِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ عَبَّرَ بِهِ تَعْبِيرًا مَجَازِيًّا عَنْ الْقَبُولِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا نَالَ الْإِنْسَانَ مُوَافِقٌ أَوْ مُخَالِفٌ؛ فَإِنْ نَالَهُ مُوَافِقٌ قَبِلَهُ، أَوْ مُخَالِفٌ كَرِهَهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَفْعَالِ بَدَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَالِيَّةً بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ إذْ لَا يُخْتَلَفُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِمُقْتَضَى نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا مَرَاتِبُهَا الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالتَّقْوَى مِنْهَا.
وَلِذَلِكَ قَالَ: لَنْ يَصِلَ إلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ التَّقْوَى مِنْكُمْ، فَيَقْبَلُهُ وَيَرْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ﴾ [الحج: ٣٧]
امْتَنَّ عَلَيْنَا سُبْحَانَهُ بِتَذْلِيلِهَا لَنَا وَتَمْكِينِنَا مِنْ تَصْرِيفِهَا، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَّا أَبْدَانًا، وَأَقْوَى أَعْضَاءً، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْأُمُورَ لَيْسَتْ عَلَى مَا تَظْهَرُ إلَى الْعَبْدِ مِنْ التَّدْبِيرِ