السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
- ١٣٤ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
- ١٣٥ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
- ١٣٦ - أُولَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الرِّبَا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدَّيْنُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ فِي الْمُدَّةِ وَزَادَهُ فِي الْقَدْرِ، وَهَكَذَا كُلُّ عَامٍ فَرُبَّمَا تَضَاعَفَ الْقَلِيلُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرًا مُضَاعَفًا، وَأَمَرَ تَعَالَى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ثُمَّ نَدَبَهُمْ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَارِعَةِ إِلَى نَيْلِ الْقُرُبَاتِ، فقال تَعَالَى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ كَمَا أُعِدَّتِ النَّارُ للكافرين. وقد قيل: إن في معنى قوله: ﴿عرضها السموات وَالْأَرْضُ﴾ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّسَاعِ طُولِهَا، كَمَا قَالَ فِي صِفَةِ فَرْشِ الْجَنَّةِ: ﴿بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ أَيْ فَمَا ظَنُّكَ بِالظَّهَائِرِ، وَقِيلَ: بَلْ عَرْضُهَا كطولها لأنها قبة تحت العرش، والشي الْمُقَبَّبُ وَالْمُسْتَدِيرُ عَرْضُهُ كَطُولِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عرش الرحمن» وهذه الآية كقوله في (سورة الحديد): ﴿سابقوا إلى غفرة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية. وَقَدْ رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ (هِرَقْلَ) كَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات وَالْأَرْضُ فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ فَأَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جاء النهار».
وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يَكُونَ فِي مَكَانٍ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُهُ، وَكَذِلَكَ النَّارُ تَكُونُ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وجل، وهذا أظهر، (الثَّانِي): أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّهَارَ إِذَا تَغَشَّى وَجْهَ الْعَالَمِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ الْجَنَّةُ في أعلى عليين فوق السموات تَحْتَ الْعَرْشِ وَعَرْضُهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجلّ: ﴿كعرض السموات والأرض﴾ وَالنَّارُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ كونها كعرض السموات وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ وُجُودِ النَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صفةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ أَيْ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، كَمَا قَالَ: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنهار سراً وعلانية﴾، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَشْغَلُهُمْ أَمْرٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِنْفَاقِ فِي مَرَاضِيهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ وَغَيْرِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، أَيْ إِذَا ثار بهم


الصفحة التالية
Icon