لأنّ نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإذا لم يفقهوا)، أي: جُعلوا في أن نظرهم لم يُثمر التوحيد، كأنهم نظروا ولم يفقهوا، وتحريره أن المشركين لما نظروا إلى ملكوت السماوات والأرض وعلموا أن الله خالقه، ومع هذا الإقرار جعلوا معه آلهة، فكأنهم بالحقيقة ما فقهوا، وهو على هذا تجريد لاستعارة التسبيح للدلالة. ويمكن أن يُجرى على الترشيح لها على أن معنى: (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لا يفقهون نُطقهم به، كقوله تعالى: (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) [الكهف: ٩٣]، كأنه قيل: الكائنات تنطق بلسانها تنزيه ذات الباري عز شأنه وجل سلطانه عن الشريك، والمشركون صُمٌّ لا يسمعون ذلك. والأصل: ودلت الموجودات على توحيد صانعها، وهم لا يعقلون ذلك.
قال صاحب "الانتصاف": إن كان الخطاب للمشركين، فما تصنع بقوله: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)؟ وإنما يُخاطب بالحلم والمغفرة المؤمن، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين، وأما عدم فقهنا لتسبيح الجمادات، فكناية عن عدم العمل بمقتضى تسبيحها، ولو تفطن الإنسان إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة في الكون تنزه الله تعالى وتشهد لجلاله وكبريائه وقهره، لشغله عن قوته، فضلاً عن فضولا لكلام والغيبة. والظاهر أن الآية وردت على الغالب من أحوال الغافلين، وإن كانوا مؤمنين، فالحمد لله الذي كان حليماً غفوراً.
وقلت: أخطأ في جعل الخطاب للمؤمنين؛ لأن معنى النزاهة والبراءة في قوله: (سُبْحَانَهُ)، ومعنى العلو والكبرياء في قوله تعالى: (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً) راجع على ما وصفوه من اتخاذ الملائكة بنات في قوله: (وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً) ومن اتخاذ الآلهة شُركاء في قوله: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ)، وأن مجيء قوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) لتأكيد التنزيه وتذييله، فكيف يُقال: الخطاب للمؤمنين؟ وأما معنى قوله: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) فعلى التعجب، فكأنه قيل: ما أحلمه وأشد غفرانه! حيثُ يعلمُ من هؤلاء المعاندة


الصفحة التالية
Icon