" صفحة رقم ٢٣٤ "
أراد فرعون أن يحاجّ موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملّة فرعون، أي قرون أهل مصر، أي ما حالهم، أفتزعم أنّهم اتفقوا على ضلالة. وهذه شنشنة من لا يجد حجّة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى ) قالوا أجِئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ( يونس : ٧٨ ).
ويجوز أن يكون المعنى أنّ فرعون أرَاد التشغيب على موسى حين نهضت حجّته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى : هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى : أنّ العذاب على من كذّب وتولّى ( ( طه : ٤٨ )، فإذا قال : إنّهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال : هم في سلام، نهضت حجّة فرعون لأنه متابع لدينهم، ولأنّ موسى لمّا أعلمه بربّه وكان ذلك مشعراً بالخلق الأوّل خطر ببال فرعون أن يسأله عن الإعتقاد في مصير النّاس بعد الفناء، فسأل : ما بال القرون الأولى ؟ ما شأنهم وما الخبر عنهم ؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب.
وقول موسى في جوابه ) عِلْمُهَا عند رَبِّي فِي كِتابٍ ( صالحٌ للاحتمالين، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن أحوال الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء، وهذا نظير قول النبي ( ﷺ ) لمّا سئل عن ذراري المشركين فقال :( الله أعلم بما كانوا عاملين ).
وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولاً عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله.
والحاصل أنّ موسى تجنّب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنّه لم يبعث بذلك. وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة