" صفحة رقم ٢٥١ "
ففي قوله تعالى :( اجتنبوا كثيراً من الظن ( تأديب عظيم يبطل ما كان فاشياً في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذراً من اعتداء مظنون ظناً باطلاً، كما قالوا : خذ اللص قبْلَ أن يَأخُذَك.
وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى :( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ( ( آل عمران : ١٥٤ ) وقال :( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ( ( الزخرف : ٢٠ ) وقال :( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من شيء ( ( الأنعام : ١٤٨ ) ثم قال :( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ( ( الأنعام : ١٤٨ ).
وقال النبي ( ﷺ ) ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ). ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة، فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.
والمراد ب ) الظن ( هنا : الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلّق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم. وجملة ) إن بعض الظن إثم ( استئناف بياني لأن قوله :( اجتنبوا كثيراً من الظن ( يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم. وليس هذا البيان توضيحاً لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه، لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وتُرك التفصيل لأن في إبهامه بعثاً على مزيد الاحتياط.
ومعنى كونه إثماً أنه : إمّا أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدِّر الظانّ أن ظنه كاذب ثم لينظر بعدُ في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه