يقول الأستاذ الإمام محمد عبده :« وإنما عبر بالمضارع فى قوله تعالى :« تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ » وقوله :« فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » ـ مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدإ نزول الوحى ـ لوجهين :
الأول : لاستحضار الماضي، ولعظمته على نحو ما فى قوله تعالى :« وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ » (٢١٤ : البقرة).. فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا..
والثاني : لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب، وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام ـ كان فيما بعد.. فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر فى مستقبل الزمان، حتى يكمل الدين » !! وقوله تعالى :« من كل أمر » أي تتنزل الملائكة حاملة من كل أمرمن أوامر اللّه، ومن أحكامه، ما يأذن اللّه لها به، كما تقضى بذلك حكمته..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :« أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (٤ ـ ٥ : الدخان).
وقوله تعالى :« سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ». أي أنها ليلة ولد فيها الأمن والسلام.. من بدئها إلى ختامها.. فهى ليلة القرآن.. والقرآن من مبدئه إلى ختامه سلام وأمن كلّه، ورسالة القرآن هى « الإسلام » الذي هو السلام، والنجاة، لمن طلب السلامة والنجاة.! (١)
قال الإمام : سميت ليلة القدر، إما بمعنى ليلة التقدير ؛لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دِينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه، أو بمعنى العظمة والشرف، من قولهم : فلان له قدر، أي : له شرف وعظمة ؛ لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة، وقد جاء بما فيه الإشارة، بل التصريح، بأنها ليلة جليلة ؛ بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن. فقال :﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ أي : وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها.
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ فكرر ذكرها ثلاث مرات. ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به، ثم قال : إنها خير من ألف شهر لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهو يختبطون في ظلمات الضلال ؛ فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص، وتفوض الأمر، في تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر، إلى الله تعالى ؛ فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب. وذلك في الكتاب كثير، ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ فإنه جار على عادتهم في الخطاب، وإلا