تفسير سورة سورة يس من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة يس بمسمى الحرفين الواقعين في أولها في رسم المصحف لأنها انفردت بها فكانا مميزين لها عن بقية السور، فصار منطوقهما علما عليها. وكذلك ورد اسمها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يس على موتاكم. وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.
ودعاها بعض السلف ﴿ قلب القرآن ﴾ لوصفها في قول النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس، رواه الترمذي عن أنس، وهي تسمية غير مشهورة.
ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة ١٠٧٨ أحسبه في بلاد العجم عنونها سورة حبيب النجار وهو صاحب القصة وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى كما يأتي. وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي سورة التين عنونها سورة الزيتون.
وهي مكية، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال إلا أن فرقة قالت قوله تعالى ﴿ ونكتب ما قدموا وآثارهم ﴾ نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم : دياركم تكتب آثاركم. وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة اه.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم ونكتب ما قدموا وآثارهم وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري، نزلت بعد سورة قل أوحي وقبل سورة الفرقان.
وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين. وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين.
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس. ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات. قال الترمذي : هذا حديث غريب، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول. قال أبو بكر بن العربي : حديثها ضعيف.
أغراض هذه السورة
التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة، وبالقسم بالقرآن تنويها به، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.
ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام، وتمثيل حالهم الشنيعة، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.
وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.
وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.
ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.
والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.
وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى.
مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.
ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.
ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا، فهلك من كذب، ونجا من آمن.
ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.
والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.
وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.
وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.
والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.
واتباع دعاة الخير.
ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.
فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة، ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر، وعلم الله، الحشر، والتوحيد، وشكر المنعم، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى « قلب القرآن » لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله، وإلى وتينها ينصب مجراها.
قال الغزالي : إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد.
روى أبو داود عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا يس على موتاكم. وبهذا الاسم عنون البخاري والترمذي في كتابي التفسير.
ودعاها بعض السلف ﴿ قلب القرآن ﴾ لوصفها في قول النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس، رواه الترمذي عن أنس، وهي تسمية غير مشهورة.
ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة ١٠٧٨ أحسبه في بلاد العجم عنونها سورة حبيب النجار وهو صاحب القصة وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى كما يأتي. وهذه تسمية غريبة لا نعرف لها سندا ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي سورة التين عنونها سورة الزيتون.
وهي مكية، وحكى ابن عطية الاتفاق على ذلك قال إلا أن فرقة قالت قوله تعالى ﴿ ونكتب ما قدموا وآثارهم ﴾ نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم : دياركم تكتب آثاركم. وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية بمكة ولكنها احتج بها عليهم في المدينة اه.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم ونكتب ما قدموا وآثارهم وهو يؤول ما في حديث الترمذي بما يوهم أنها نزلت يومئذ.
وهي السورة الحادية والأربعون في ترتيب النزول في قول جابر بن زيد الذي اعتمده الجعبري، نزلت بعد سورة قل أوحي وقبل سورة الفرقان.
وعدت آياتها عند جمهور الأمصار اثنتين وثمانين. وعدت عند الكوفيين ثلاثا وثمانين.
وورد في فضلها ما رواه الترمذي عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس. ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات. قال الترمذي : هذا حديث غريب، وفيه هارون أبو محمد شيخ مجهول. قال أبو بكر بن العربي : حديثها ضعيف.
أغراض هذه السورة
التحدي بإعجاز القرآن بالحروف المقطعة، وبالقسم بالقرآن تنويها به، وأدمج وصفه بالحكيم إشارة إلى بلوغه أعلى درجات الإحكام. والمقصود من ذلك تحقيق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتفضيل الدين الذي جاء به في كتاب منزل من الله لإبلاغ الأمة الغاية السامية وهي استقامة أمورها في الدنيا والفوز في الحياة الأبدية، فلذلك وصف الدين بالصراط المستقيم كما تقدم في سورة الفاتحة.
وأن القرآن داع لإنقاذ العرب الذين لم يسبق مجيء رسول إليهم، لأن عدم سبق الإرسال إليهم لنفوسهم لقبول الدين إذ ليس فيها شاغل سبق يعز عليهم فراقه أو يكتفون بما فيه من هدى.
ووصف إعراض أكثرهم عن تلقي الإسلام، وتمثيل حالهم الشنيعة، وحرمانهم من الانتفاع بهدي الإسلام وأن الذين اتبعوا دين الإسلام هم أهل الخشية وهو الدين الموصوف بالصراط المستقيم.
وضرب المثل لفريقي المتبعين والمعرضين من أهل القرى بما سبق من حال أهل القرية الذين شابه تكذيبهم الرسل تكذيب قريش.
وكيف كان جزاء المعرضين من أهلها في الدنيا وجزاء المتبعين في درجات الآخرة.
ثم ضرب المثل بالأعم وهم القرون الذين كذبوا فأهلكوا.
والرثاء لحال الناس في إضاعة أسباب الفوز كيف يسرعون إلى تكذيب الرسل.
وتخلص إلى الاستدلال على تقريب البعث وإثباته بالاستقلال تارة وبالاستطراد أخرى.
مدمجا في آياته الامتنان بالنعمة التي تتضمنها تلك الآيات.
ورامزا إلى دلالة تلك الآيات والنعم على تفرد خالقها ومنعمها بالوحدانية إيقاظا لهم.
ثم تذكيرهم بأعظم حادثة حدثت على المكذبين للرسل والمتمسكين بالأصنام من الذين أرسل إليهم نوح نذيرا، فهلك من كذب، ونجا من آمن.
ثم سيقت دلائل التوحيد المشوبة بالامتنان للتذكير بواجب الشكر على النعم بالتقوى والإحسان وترقب الجزاء.
والإقلاع عن الشرك والاستهزاء بالرسول واستعجال وعيد العذاب.
وحذروا من حلوله بغتة حين يفوت التدارك.
وذكروا بما عهد الله إليهم مما أودعه في الفطرة من الفطنة.
والاستدلال على عداوة الشيطان للإنسان.
واتباع دعاة الخير.
ثم رد العجز على الصدر فعاد إلى تنزيه القرآن عن أن يكون مفترى صادرا من شاعر بتخيلات الشعراء.
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه قولهم وأن لهم بالله أسوة إذ خلقهم فعطلوا قدرته عن إيجادهم مرة ثانية ولكنهم راجعون إليه.
فقامت السورة على تقرير أمهات أصول الدين على أبلغ وجه وأتمه من إثبات الرسالة، ومعجزة القرآن، وما يعتبر في صفات الأنبياء وإثبات القدر، وعلم الله، الحشر، والتوحيد، وشكر المنعم، وهذه أصول الطاعة بالاعتقاد والعمل، ومنها تتفرع الشريعة. وإثبات الجزاء على الخير والشر مع إدماج الأدلة من الآفاق والأنفس بتفنن عجيب، فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى « قلب القرآن » لأن من تقاسيمها تتشعب شرايين القرآن كله، وإلى وتينها ينصب مجراها.
قال الغزالي : إن ذلك لأن الإيمان صحته باعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، كما سميت الفاتحة أم القرآن إذ كانت جامعة لأصول التدبر في أفانيه كما تكون أم الرأس ملاك التدبر في أمور الجسد.
ﰡ
ﭬ
ﰀ
فَقَامَتِ السُّورَةُ عَلَى تَقْرِيرِ أُمَّهَاتِ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَتَمِّهِ مِنْ إِثْبَات الرسَالَة، وَالْوَحي، وَمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِي صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَعِلْمِ اللَّهِ، وَالْحَشْرِ، وَالتَّوْحِيدِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَهَذِهِ أُصُولُ الطَّاعَةِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، وَمِنْهَا تَتَفَرَّعُ الشَّرِيعَةُ. وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعَ إِدْمَاجِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ بِتَفَنُّنٍ عَجِيبٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسَمَّى «قَلْبَ الْقُرْآنِ» لِأَنَّ مِنْ تَقَاسِيمِهَا تَتَشَعَّبُ شَرَايِينُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَإِلَى وَتِينِهَا يَنْصَبُّ مَجْرَاهَا.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِاعْتِرَافٍ بِالْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ
السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، كَمَا سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ إِذْ كَانَتْ جَامِعَةً لِأُصُولُ التدبر فِي أفانينه كَمَا تَكُونُ أُمُّ الرَّأْسِ مَلَاكَ التَّدَبُّرِ فِي أُمُور الْجَسَد.
[١]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١]
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: يَا إِنْسَانُ، بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِلُغَةِ طَيِّءٍ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا يَصِحُّ عَنْهُ لِأَنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى حَرْفَيْنِ تُنَافِي ذَلِكَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ يس مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَنَى عَلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنِ بِكْرٍ الْحِمْيَرِيُّ شَاعِرُ الرَّافِضَةِ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ بِالسَّيِّدِ الْحِمْيَرِيِّ قَوْلَهُ:
وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [١٣٠] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَعْنِي آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ يس اخْتِزَالُ: يَا سَيِّدُ، خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوهِنُهُ نُطْقُ الْقُرَّآءِ بِهَا بِنُونٍ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي ابْنَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ يس بن زين الدِّينِ الْعُلَيْمِيُّ الْحِمْصِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ١٠٦١ صَاحِبُ
قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِاعْتِرَافٍ بِالْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ
السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، كَمَا سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ إِذْ كَانَتْ جَامِعَةً لِأُصُولُ التدبر فِي أفانينه كَمَا تَكُونُ أُمُّ الرَّأْسِ مَلَاكَ التَّدَبُّرِ فِي أُمُور الْجَسَد.
[١]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١)الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: يَا إِنْسَانُ، بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِلُغَةِ طَيِّءٍ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا يَصِحُّ عَنْهُ لِأَنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى حَرْفَيْنِ تُنَافِي ذَلِكَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ يس مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَنَى عَلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنِ بِكْرٍ الْحِمْيَرِيُّ شَاعِرُ الرَّافِضَةِ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ بِالسَّيِّدِ الْحِمْيَرِيِّ قَوْلَهُ:
يَا نَفْسُ لَا تَمْحَضِي بِالْوِدِّ جَاهِدَةً | عَلَى الْمَوَدَّةِ إِلَّا آلَ يَاسِينَا |
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ يس اخْتِزَالُ: يَا سَيِّدُ، خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوهِنُهُ نُطْقُ الْقُرَّآءِ بِهَا بِنُونٍ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي ابْنَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ يس بن زين الدِّينِ الْعُلَيْمِيُّ الْحِمْصِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ١٠٦١ صَاحِبُ
التَّعَالِيقِ الْقَيِّمَةِ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ اسْمَهُ بِحَسَبِ مَا يَنْطِقُ بِهِ لَا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَغْفُلُونَ فَيَكْتُبُونَهُ بِحَرْفَيْنِ كَمَا يُكْتَبُ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ١، ٢] يَقُولُ هَذَا: اسْمِي يس.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ كَلَامٌ بَدِيعٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بَاسِمٍ اللَّهِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ وَقَادِرٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يَدْرِي مَعْنَاهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَيُقْدِمَ عَلَى خَطَرٍ فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالنُّطْقُ بِاسْمِ (يَا) بِدُونِ مَدٍّ تَخْفِيفٌ كَمَا فِي كهيعص.
[٢- ٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢ إِلَى ٤]
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ كِنَايَةٌ عَنْ شَرَفِ قَدْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ مَعَ ذَلِكَ التَّنْوِيهِ.
والْقُرْآنِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُوحَى بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِهِ إِلَى وَفَاتِهِ لِلْإِعْجَازِ وَالتَّشْرِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦١].
والْحَكِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيِ الْمَجْعُولِ ذَا إِحْكَامٍ، وَالْإِحْكَامُ: الْإِتْقَانُ بِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَاحِبَ الْحِكْمَةِ، وَوَصْفُهُ بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ مُحْتَوٍ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ١، ٢] يَقُولُ هَذَا: اسْمِي يس.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ كَلَامٌ بَدِيعٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بَاسِمٍ اللَّهِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ وَقَادِرٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يَدْرِي مَعْنَاهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَيُقْدِمَ عَلَى خَطَرٍ فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالنُّطْقُ بِاسْمِ (يَا) بِدُونِ مَدٍّ تَخْفِيفٌ كَمَا فِي كهيعص.
[٢- ٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢ إِلَى ٤]
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ كِنَايَةٌ عَنْ شَرَفِ قَدْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ مَعَ ذَلِكَ التَّنْوِيهِ.
والْقُرْآنِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُوحَى بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِهِ إِلَى وَفَاتِهِ لِلْإِعْجَازِ وَالتَّشْرِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦١].
والْحَكِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيِ الْمَجْعُولِ ذَا إِحْكَامٍ، وَالْإِحْكَامُ: الْإِتْقَانُ بِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَاحِبَ الْحِكْمَةِ، وَوَصْفُهُ بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ مُحْتَوٍ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالرِّسَالَةِ فَهُوَ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، فَالتَّأْكِيدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ، وَالنُّكَتُ لَا تَتَزَاحَمُ.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خَبَرٌ ثَانٍ لِ (إِنَّ)، أَوْ حَالٌ مِنِ اسْمِ (إِنَّ). وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ:
الْإِيقَاظُ إِلَى عَظَمَةِ شَرِيعَتِهِ بَعْدَ إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]. وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِفَادَةَ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدَ الْمُرْسَلِينَ. فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ حَالِ دِينِهِ لِيَكُونَ الْعِلْمُ بِأَنَّ دِينَهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا لَا ضِمْنِيًّا.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْهُدَى الْمُوَصِّلُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخُلُقُ الَّذِي لَقَّنَهُ اللَّهُ، شُبِّهَ بِطَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ فِي أَنَّهُ مَوْثُوقٌ بِهِ فِي الْإِيصَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ دُونَ أَنْ يَتَرَدَّدَ السَّائِرُ فِيهِ.
فَالْإِسْلَامُ فِيهِ الْهُدَى فِي الْحَيَاتَيْنِ فَمُتَّبِعُهُ كَالسَّائِرِ فِي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا حَيْرَةَ فِي سَيْرِهِ تَعْتَرِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَكَانَ الْمُرَادَ.
وَالْقُرْآنُ حَاوِي الدِّينِ فَكَانَ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَتَنْكِيرُ صِراطٍ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى تَعْظِيمه.
[٥- ٦]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)
رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ٢] إِذْ هُوَ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَبَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى الْقَسَمُ جَوَابَهُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى بَعْضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْقَسَمِ وَهُوَ تَشْرِيفُ الْمُقْسَمِ بِهِ فَوُسِمَ بِأَنَّهُ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
وَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا مِنْ مَوَاقِعِ
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خَبَرٌ ثَانٍ لِ (إِنَّ)، أَوْ حَالٌ مِنِ اسْمِ (إِنَّ). وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ:
الْإِيقَاظُ إِلَى عَظَمَةِ شَرِيعَتِهِ بَعْدَ إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥]. وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِفَادَةَ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدَ الْمُرْسَلِينَ. فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ حَالِ دِينِهِ لِيَكُونَ الْعِلْمُ بِأَنَّ دِينَهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا لَا ضِمْنِيًّا.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: الْهُدَى الْمُوَصِّلُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخُلُقُ الَّذِي لَقَّنَهُ اللَّهُ، شُبِّهَ بِطَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ فِي أَنَّهُ مَوْثُوقٌ بِهِ فِي الْإِيصَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ دُونَ أَنْ يَتَرَدَّدَ السَّائِرُ فِيهِ.
فَالْإِسْلَامُ فِيهِ الْهُدَى فِي الْحَيَاتَيْنِ فَمُتَّبِعُهُ كَالسَّائِرِ فِي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا حَيْرَةَ فِي سَيْرِهِ تَعْتَرِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَكَانَ الْمُرَادَ.
وَالْقُرْآنُ حَاوِي الدِّينِ فَكَانَ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَتَنْكِيرُ صِراطٍ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى تَعْظِيمه.
[٥- ٦]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)
رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ٢] إِذْ هُوَ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَبَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى الْقَسَمُ جَوَابَهُ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى بَعْضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْقَسَمِ وَهُوَ تَشْرِيفُ الْمُقْسَمِ بِهِ فَوُسِمَ بِأَنَّهُ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
وَقَدْ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا مِنْ مَوَاقِعِ
346
حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ الْحَذْفُ الْجَارِي عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا أَجْرَوْا حَدِيثًا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ أَخْبَرُوا عَنْهُ الْتَزَمُوا حَذْفَ ضَمِيرِهِ الَّذِي هُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى التَّنْوِيهِ بِهِ كَأَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَاتِبِ، وَهِيَ مِنْ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ فِي بَابِ الْأَضْيَافِ:
تَقْدِيرُهُ: هُوَ فَتًى.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِنَصْبِ تَنْزِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَعْنِي. وَالْمَعْنَى: أَعْنِي مِنْ قَسَمِي قُرْآنًا نَزَّلْتُهُ، وَتِلْكَ الْعِنَايَةُ زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ وَهِيَ تُعَادِلُ حَذْفَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ.
وَالتَّنْزِيلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أُخْبِرَ عَنْهُ بِالْمَصَدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا.
وَأُضِيفَ التَّنْزِيلُ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ صِفَتَيِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِأَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ عِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الْهُدَى دُونَ مُصَانَعَةٍ وَلَا ضَعْفٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرَانِ.
وَأَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ وَكَشْفِ
الْحَقَائِقِ لِلنَّاظِرِينَ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ لِلَّذِينِ يَكُونُونَ عِنْدَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ مَا وَرَدَ بَيَانُهُ بَعْدُ إِجْمَالًا مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ، [يس: ٦] ثُمَّ تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: ٧] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١].
فَاللَّامُ فِي لِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تَنْزِيلَ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ الْقَوْمُ مِنَ التَّبْلِيغِ إِنْذَارُهُمْ جَمِيعًا بِمَا
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا أَجْرَوْا حَدِيثًا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ أَخْبَرُوا عَنْهُ الْتَزَمُوا حَذْفَ ضَمِيرِهِ الَّذِي هُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى التَّنْوِيهِ بِهِ كَأَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَاتِبِ، وَهِيَ مِنْ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ فِي بَابِ الْأَضْيَافِ:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي | أَيَادِيَ لَمْ تَمْنُنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ |
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ | وَلَا مُظْهِرِ الشَّكْوَى إِذِ النَّعْلُ زَلَّتِ |
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِنَصْبِ تَنْزِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَعْنِي. وَالْمَعْنَى: أَعْنِي مِنْ قَسَمِي قُرْآنًا نَزَّلْتُهُ، وَتِلْكَ الْعِنَايَةُ زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ وَهِيَ تُعَادِلُ حَذْفَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ.
وَالتَّنْزِيلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أُخْبِرَ عَنْهُ بِالْمَصَدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا.
وَأُضِيفَ التَّنْزِيلُ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ صِفَتَيِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِأَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ عِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الْهُدَى دُونَ مُصَانَعَةٍ وَلَا ضَعْفٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرَانِ.
وَأَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ وَكَشْفِ
الْحَقَائِقِ لِلنَّاظِرِينَ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ لِلَّذِينِ يَكُونُونَ عِنْدَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ مَا وَرَدَ بَيَانُهُ بَعْدُ إِجْمَالًا مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ، [يس: ٦] ثُمَّ تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: ٧] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١].
فَاللَّامُ فِي لِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تَنْزِيلَ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ الْقَوْمُ مِنَ التَّبْلِيغِ إِنْذَارُهُمْ جَمِيعًا بِمَا
347
تَضَمَّنَتْهُ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] الْآيَةَ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمِيعًا كَانُوا عَلَى حَالَةٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ لِيُسْرِعُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مُرْتَبِكُونَ.
وَالْقَوْمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ: إِمَّا الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيُّونَ فَإِنَّهُمْ مَضَتْ قُرُونٌ لَمْ يَأْتِهِمْ فِيهَا نَذِيرٌ، وَمَضَى آبَاؤُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا نَذِيرًا، وَإِنَّمَا يُبْتَدَأُ عَدُّ آبَائِهِمْ مِنْ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى فِي عَمُودِ نَسَبِهِمُ الَّذِينَ تَمَيَّزُوا بِهِ جِذْمًا وَهُوَ عَدْنَانُ، لِأَنَّهُ جِذْمُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَهْلُ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا بَاشَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ بِعْثَتِهِ دَعْوَةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ وَأَنْ تَتَأَصَّلَ مِنْهُمْ جَامِعَةُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَانُوا هُمْ حَمَلَةَ الشَّرِيعَةِ وَأَعْوَانَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. فَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ أَهْلُ يَثْرِبَ وَهُمْ قَحْطَانِيُّونَ فَكَانُوا أَنْصَارًا ثُمَّ تَتَابَعَ إِيمَانُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَهُمْ غافِلُونَ أَيْ فَتَسَبَّبَ عَلَى عَدَمِ إِنْذَارِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْغَفْلَةِ وَصْفًّا ثَابِتًا، أَيْ فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا تَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ فَهُمْ فِي جَهَالَةٍ وَغَوَايَةٍ إِذْ تَرَاكَمَتِ الضَّلَالَاتُ فِيهِمْ عَامًا فَعَامًا وَجِيلًا فَجِيلًا.
فَهَذِهِ الْحَالَةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَنْ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ مَنْ آمَنَ بَعْدُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ.
وَالْغَفْلَةُ: صَرِيحُهُا الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ، وَهِيَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهْمَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَحِقُّ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
[٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٧]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)
هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَهُمْ، فَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لم تَنْفَع
فيهم النِّذَارَةُ، وَقِسْمٌ اتَّبَعُوا الذِّكْرَ وَخَافُوا اللَّهَ فَانْتَفَعُوا بِالنِّذَارَةِ. وَبَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَبَلَ عَلَيْهِ
وَالْقَوْمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ: إِمَّا الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيُّونَ فَإِنَّهُمْ مَضَتْ قُرُونٌ لَمْ يَأْتِهِمْ فِيهَا نَذِيرٌ، وَمَضَى آبَاؤُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا نَذِيرًا، وَإِنَّمَا يُبْتَدَأُ عَدُّ آبَائِهِمْ مِنْ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى فِي عَمُودِ نَسَبِهِمُ الَّذِينَ تَمَيَّزُوا بِهِ جِذْمًا وَهُوَ عَدْنَانُ، لِأَنَّهُ جِذْمُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَهْلُ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا بَاشَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ بِعْثَتِهِ دَعْوَةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ وَأَنْ تَتَأَصَّلَ مِنْهُمْ جَامِعَةُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَانُوا هُمْ حَمَلَةَ الشَّرِيعَةِ وَأَعْوَانَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. فَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ أَهْلُ يَثْرِبَ وَهُمْ قَحْطَانِيُّونَ فَكَانُوا أَنْصَارًا ثُمَّ تَتَابَعَ إِيمَانُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَهُمْ غافِلُونَ أَيْ فَتَسَبَّبَ عَلَى عَدَمِ إِنْذَارِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْغَفْلَةِ وَصْفًّا ثَابِتًا، أَيْ فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا تَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ فَهُمْ فِي جَهَالَةٍ وَغَوَايَةٍ إِذْ تَرَاكَمَتِ الضَّلَالَاتُ فِيهِمْ عَامًا فَعَامًا وَجِيلًا فَجِيلًا.
فَهَذِهِ الْحَالَةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَنْ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ مَنْ آمَنَ بَعْدُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ.
وَالْغَفْلَةُ: صَرِيحُهُا الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ، وَهِيَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهْمَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَحِقُّ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
يَقُولُ أُنَاسٌ يَجْهَلُونَ خَلِيقَتِي | لَعَلَّ زيادا لَا أَبَاك غافل |
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٧]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)
هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَهُمْ، فَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لم تَنْفَع
فيهم النِّذَارَةُ، وَقِسْمٌ اتَّبَعُوا الذِّكْرَ وَخَافُوا اللَّهَ فَانْتَفَعُوا بِالنِّذَارَةِ. وَبَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَبَلَ عَلَيْهِ
عُقُولَهُمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ، فَحَقَّقَ فِي عِلْمِهِ وَكَتَبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ انْتِفَاءِ إِيمَانِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي حَقَّ عَلَى أَكْثَرِهِمْ.
وحَقَّ: بِمَعْنَى ثَبَتَ وَوَقَعَ فَلَا يَقْبَلُ نَقْضًا. والْقَوْلُ: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ فَهُوَ قَوْلٌ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، أَوْ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى رُسُلِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ، أَيِ الْقَوْلُ النَّفْسِيُّ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ لَا يُؤمنُونَ.
[٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧] فَإِنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَعْلِ أَغْلَالٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَقِيقَةً أَوْ تَمْثِيلًا.
وَالْجَعْلُ: تَكْوِينُ الشَّيْءِ، أَيْ جَعَلْنَا حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمِحُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِأَنْ شُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حُجَجِهِ الْوَاضِحَةِ بِحَالِ قَوْمٍ جُعِلَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ غَلِيظَةٌ تَرْتَفِعُ إِلَى أَذْقَانِهِمْ فَيَكُونُونَ كَالْمُقْمَحِينَ، أَي الرافعين رؤوسهم الْغَاضِّينَ أَبْصَارَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَوْلَهُمْ فَتَكُونُ تَمْثِيلِيَّةً.
وَذَكَرَ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِ الْأَغْلَالِ مَلْزُوزَةً إِلَى عِظَامِ الْأَذْقَانِ بَحَيْثُ إِذَا أَرَادَ الْمَغْلُولُ مِنْهُمُ الِالْتِفَاتَ أَو أَن يطاطىء رَأْسَهُ وَجِعَهُ ذَقَنُهُ فَلَازَمَ السُّكُونَ وَهَذِهِ حَالَةُ تَخْيِيلِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَلَيْسَ كُلُّ الْأَغْلَالِ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ أَجْزَاءِ الْمَرْكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ إِلَى تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْحَالَيْنِ بِجُزْءٍ مِنَ الْحَالَةِ الْأُخْرَى بِأَنْ يُشَبَّهَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ بِالْأَغْلَالِ، وَيُشَبَّهُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالْإِنْصَافِ بِالْإِقْمَاحِ.
وحَقَّ: بِمَعْنَى ثَبَتَ وَوَقَعَ فَلَا يَقْبَلُ نَقْضًا. والْقَوْلُ: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ فَهُوَ قَوْلٌ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، أَوْ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى رُسُلِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ، أَيِ الْقَوْلُ النَّفْسِيُّ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ لَا يُؤمنُونَ.
[٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧] فَإِنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَعْلِ أَغْلَالٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَقِيقَةً أَوْ تَمْثِيلًا.
وَالْجَعْلُ: تَكْوِينُ الشَّيْءِ، أَيْ جَعَلْنَا حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمِحُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِأَنْ شُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حُجَجِهِ الْوَاضِحَةِ بِحَالِ قَوْمٍ جُعِلَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ غَلِيظَةٌ تَرْتَفِعُ إِلَى أَذْقَانِهِمْ فَيَكُونُونَ كَالْمُقْمَحِينَ، أَي الرافعين رؤوسهم الْغَاضِّينَ أَبْصَارَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَوْلَهُمْ فَتَكُونُ تَمْثِيلِيَّةً.
وَذَكَرَ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِ الْأَغْلَالِ مَلْزُوزَةً إِلَى عِظَامِ الْأَذْقَانِ بَحَيْثُ إِذَا أَرَادَ الْمَغْلُولُ مِنْهُمُ الِالْتِفَاتَ أَو أَن يطاطىء رَأْسَهُ وَجِعَهُ ذَقَنُهُ فَلَازَمَ السُّكُونَ وَهَذِهِ حَالَةُ تَخْيِيلِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَلَيْسَ كُلُّ الْأَغْلَالِ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ أَجْزَاءِ الْمَرْكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ إِلَى تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْحَالَيْنِ بِجُزْءٍ مِنَ الْحَالَةِ الْأُخْرَى بِأَنْ يُشَبَّهَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ بِالْأَغْلَالِ، وَيُشَبَّهُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالْإِنْصَافِ بِالْإِقْمَاحِ.
فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ
أَغْلالًا
، أَيْ جَعَلْنَا أَغْلَالًا، أَيْ فَأَبْلَغْنَاهَا إِلَى الْأَذْقَانِ.
وَالْجَعْلُ: هُنَا حَقِيقَةٌ وَهُوَ مَا خُلِقَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ خُلُقِ التَّكَبُّرِ وَالْمُكَابَرَةِ.
وَالْأَغْلَالُ: جَمَعُ غُلٍّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ حَلْقَةٌ عَرِيضَةٌ مِنْ حَدِيدٍ كَالْقِلَادَةِ ذَاتُ أَضْلَاعٍ مِنْ إِحْدَى جِهَاتِهَا وَطَرَفَيْنِ يُقَابِلَانِ أَضْلَاعَهُمَا فِيهِمَا أَثْقَابٌ مُتَوَازِيَةٌ تَشُدُّ الْحَلْقَةُ مِنْ طَرَفَيْهَا عَلَى رَقَبَةِ الْمَغْلُولِ بِعَمُودٍ مِنْ حَدِيدٍ لَهُ رَأْسٌ كَالْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْعَمُودُ فِي الْأَثْقَابِ فَإِذَا انْتَهَى إِلَى رَأْسِهِ الَّذِي كَالْكُرَةِ اسْتَقَرَّ لِيَمْنَعَ الْغُلَّ مِنَ الِانْحِلَالِ وَالتَّفَلُّتِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٥].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ مُقْمَحُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ.
وَالْمُقْمَحُ: بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ الْمَجْعُولِ قَامِحًا، أَيْ رَافِعًا رَأْسَهُ نَاظِرًا إِلَى فَوْقِهِ يُقَالُ: قمحه الغلّ، إِذا جَعَلَ رَأَسَهُ مَرْفُوعًا وَغَضَّ بَصَرَهُ، فَمَدْلُولُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ.
وَالْأَذْقَانُ: جَمَعُ ذَقَنٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي الْإِسْرَاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إِلَخْ وَعِيدًا بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي الْأَغْلَالِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٧١، ٧٢]، فَيَكُونُ فِعْلُ جَعَلْنا مُسْتَقْبَلًا وَعُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]، أَيْ سَنَجْعَلُ فِي أَعْنَاقهم أغلالا.
[٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٩]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩)
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا.
هَذَا ارْتِقَاءٌ فِي حِرْمَانِهِمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ لَوْ أَرَادُوا تَأَمُّلًا بِأَنَّ فَظَاظَةَ قُلُوبِهِمْ لَا تَقْبَلُ الِاسْتِنْتَاجَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ بِحَيْثُ لَا يَتَحَوَّلُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ، فَمُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالَةِ مَنْ جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ، أَيْ جِدَارَيْنِ: سَدًّا أَمَامَهُمْ، وَسَدًّا خَلْفَهُمْ، فَلَوْ رَامُوا
أَغْلالًا
، أَيْ جَعَلْنَا أَغْلَالًا، أَيْ فَأَبْلَغْنَاهَا إِلَى الْأَذْقَانِ.
وَالْجَعْلُ: هُنَا حَقِيقَةٌ وَهُوَ مَا خُلِقَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ خُلُقِ التَّكَبُّرِ وَالْمُكَابَرَةِ.
وَالْأَغْلَالُ: جَمَعُ غُلٍّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ حَلْقَةٌ عَرِيضَةٌ مِنْ حَدِيدٍ كَالْقِلَادَةِ ذَاتُ أَضْلَاعٍ مِنْ إِحْدَى جِهَاتِهَا وَطَرَفَيْنِ يُقَابِلَانِ أَضْلَاعَهُمَا فِيهِمَا أَثْقَابٌ مُتَوَازِيَةٌ تَشُدُّ الْحَلْقَةُ مِنْ طَرَفَيْهَا عَلَى رَقَبَةِ الْمَغْلُولِ بِعَمُودٍ مِنْ حَدِيدٍ لَهُ رَأْسٌ كَالْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْعَمُودُ فِي الْأَثْقَابِ فَإِذَا انْتَهَى إِلَى رَأْسِهِ الَّذِي كَالْكُرَةِ اسْتَقَرَّ لِيَمْنَعَ الْغُلَّ مِنَ الِانْحِلَالِ وَالتَّفَلُّتِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٥].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ مُقْمَحُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ.
وَالْمُقْمَحُ: بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ الْمَجْعُولِ قَامِحًا، أَيْ رَافِعًا رَأْسَهُ نَاظِرًا إِلَى فَوْقِهِ يُقَالُ: قمحه الغلّ، إِذا جَعَلَ رَأَسَهُ مَرْفُوعًا وَغَضَّ بَصَرَهُ، فَمَدْلُولُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ.
وَالْأَذْقَانُ: جَمَعُ ذَقَنٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي الْإِسْرَاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إِلَخْ وَعِيدًا بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي الْأَغْلَالِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٧١، ٧٢]، فَيَكُونُ فِعْلُ جَعَلْنا مُسْتَقْبَلًا وَعُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]، أَيْ سَنَجْعَلُ فِي أَعْنَاقهم أغلالا.
[٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٩]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩)
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا.
هَذَا ارْتِقَاءٌ فِي حِرْمَانِهِمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ لَوْ أَرَادُوا تَأَمُّلًا بِأَنَّ فَظَاظَةَ قُلُوبِهِمْ لَا تَقْبَلُ الِاسْتِنْتَاجَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ بِحَيْثُ لَا يَتَحَوَّلُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ، فَمُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالَةِ مَنْ جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ، أَيْ جِدَارَيْنِ: سَدًّا أَمَامَهُمْ، وَسَدًّا خَلْفَهُمْ، فَلَوْ رَامُوا
350
تَحَوُّلًا عَنْ مَكَانِهِمْ وَسَعْيَهِمْ إِلَى مُرَادِهِمْ لَمَا اسْتَطَاعُوهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ [يس:
٦٧]، وَقَوْلِ أَبِي الشِّيصِ:
وَتَقَدَّمَ السَّدُّ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : مَانِعُ الْإِيمَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا. وَلَهُمُ الْمَانِعَانِ جَمِيعًا: أَمَّا فِي النَّفْسِ فَالْغُلُّ، وَأَمَّا مِنَ الْخَارِجِ فَالسَّدُّ فَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَرَوُا الْآيَاتِ الَّتِي فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْمُقْمَحَ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى الْآفَاقِ لِأَنَّ مَنْ بَيْنَ السَّدَّيْنِ لَا يُبْصِرُونَ الْآفَاقَ فَلَا تَتَبَيَّنُ لَهُمُ الْآيَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣].
وَإِعَادَةُ فَعْلِ وَجَعَلْنا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: ٨] الْآيَةَ، تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْجَعْلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَإِعَادَةُ فِعْلِ وَجَعَلْنا لِأَنَّهُ جَعْلٌ حَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْجَعْلِ الْحَاصِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَدًّا بِالضَّمِّ وَهُوَ اسْمُ الْجِدَارِ الَّذِي يَسُدُّ بَيْنَ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُسَدُّ بِهِ.
فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.
تَفْرِيعٌ على كلا الْفِعْلَيْنِ جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: ٨] وجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا لِأَنَّ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَانِعًا مِنْ أَحْوَالِ النَّظَرِ.
وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَفَرَّعُ ثَانِيًا عَلَى تَمْثِيلِهِمْ بِمَنْ جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ التَّحَوُّلِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ.
٦٧]، وَقَوْلِ أَبِي الشِّيصِ:
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتَ فَلَيْسَ لِي | مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ |
وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَالَكَ أَنَنِي | ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ |
لَا أَهْتَدِي فِيهَا لِمَوْضِعِ تَلْعَةِ | بَيْنَ الْعَذِيبِ وَبَيْنَ أَرْضِ مُرَادِ |
وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : مَانِعُ الْإِيمَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا. وَلَهُمُ الْمَانِعَانِ جَمِيعًا: أَمَّا فِي النَّفْسِ فَالْغُلُّ، وَأَمَّا مِنَ الْخَارِجِ فَالسَّدُّ فَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَرَوُا الْآيَاتِ الَّتِي فِي أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْمُقْمَحَ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى الْآفَاقِ لِأَنَّ مَنْ بَيْنَ السَّدَّيْنِ لَا يُبْصِرُونَ الْآفَاقَ فَلَا تَتَبَيَّنُ لَهُمُ الْآيَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣].
وَإِعَادَةُ فَعْلِ وَجَعَلْنا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: ٨] الْآيَةَ، تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْجَعْلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَإِعَادَةُ فِعْلِ وَجَعَلْنا لِأَنَّهُ جَعْلٌ حَاصِلٌ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْجَعْلِ الْحَاصِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَدًّا بِالضَّمِّ وَهُوَ اسْمُ الْجِدَارِ الَّذِي يَسُدُّ بَيْنَ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُسَدُّ بِهِ.
فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.
تَفْرِيعٌ على كلا الْفِعْلَيْنِ جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: ٨] وجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا لِأَنَّ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَانِعًا مِنْ أَحْوَالِ النَّظَرِ.
وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ عَنْ ذِكْرِ مَا يَتَفَرَّعُ ثَانِيًا عَلَى تَمْثِيلِهِمْ بِمَنْ جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ التَّحَوُّلِ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ.
351
وَالْإِغْشَاءُ: وَضْعُ الْغِشَاءِ. وَهُوَ مَا يُغَطِّي الشَّيْءَ. وَالْمُرَادُ: أَغْشَيْنَا أَبْصَارَهُمْ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَأَكَّدَهُ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، أَيْ تَحْقِيقِ عدم إبصارهم.
[١٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٠]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يُبْصِرُونَ [يس: ٩]، أَيْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَحَرْفُ (عَلَى) مَعْنَاهُ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ هُنَا الملابسة، مُتَعِلِّقٌ بِ سَواءٌ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى (اسْتَوَى)، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَمْزَةُ التَّسْوِيَةِ أَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى عُدَّتِ التَّسْوِيَةُ مِنْ مَعَانِي الْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي ذَلِكَ مَعَ كَلِمَةِ سَوَاءٍ وَهِيَ تُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ. وَلِمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْهَمْزَةُ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ اسْتُعْمِلَتْ أَمْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ جَاءَ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ قَوْلُ بُثَيْنَةَ:
وَجُمْلَةُ لَا يُؤْمِنُونَ مُبِيِّنَةٌ اسْتِوَاءَ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم.
[١١]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١١]
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [يس: ١٠] أَنَّ الْإِنْذَارَ فِي جَانِبِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يُوهِمُ انْتِفَاءَ الْجَدْوَى مِنَ الْغَيْرِ وَبَعْضٍ مِنْ فَضْلِ أَهَلِ الْإِيمَانِ أَعْقَبَ بِبَيَانِ جَدْوَى الْإِنْذَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اتَّبَعَ الذّكر وخشي الرحمان بِالْغَيْبِ.
والذِّكْرَ الْقُرْآنُ.
وَالِاتِّبَاعُ: حَقِيقَتُهُ الِاقْتِفَاءُ وَالسَّيْرُ وَرَاءَ سَائِرٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْبَالِ عَلَى
[١٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٠]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يُبْصِرُونَ [يس: ٩]، أَيْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، فَحَرْفُ (عَلَى) مَعْنَاهُ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ هُنَا الملابسة، مُتَعِلِّقٌ بِ سَواءٌ الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى (اسْتَوَى)، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَمْزَةُ التَّسْوِيَةِ أَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى عُدَّتِ التَّسْوِيَةُ مِنْ مَعَانِي الْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي ذَلِكَ مَعَ كَلِمَةِ سَوَاءٍ وَهِيَ تُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ. وَلِمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْهَمْزَةُ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ اسْتُعْمِلَتْ أَمْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ جَاءَ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقِيِّ قَوْلُ بُثَيْنَةَ:
سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنَ مَعْمَرٍ | إِذَا مِتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ وَلِينُهَا |
[١١]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١١]
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [يس: ١٠] أَنَّ الْإِنْذَارَ فِي جَانِبِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يُوهِمُ انْتِفَاءَ الْجَدْوَى مِنَ الْغَيْرِ وَبَعْضٍ مِنْ فَضْلِ أَهَلِ الْإِيمَانِ أَعْقَبَ بِبَيَانِ جَدْوَى الْإِنْذَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اتَّبَعَ الذّكر وخشي الرحمان بِالْغَيْبِ.
والذِّكْرَ الْقُرْآنُ.
وَالِاتِّبَاعُ: حَقِيقَتُهُ الِاقْتِفَاءُ وَالسَّيْرُ وَرَاءَ سَائِرٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْبَالِ عَلَى
352
الشَّيْءِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ لِأَنَّ الْمُتَّبِعَ شَيْئًا يَعْتَنِي بِاقْتِفَائِهِ، فَاتِّبَاعُ الذِّكْرِ تَصْدِيقُهُ وَالْإِيمَانُ بِمَا فِيهِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ فِيهِ يُفْضِي إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ إِيمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ وَجَدَ لَوْحًا فِيهِ سُورَةُ طه عِنْدَ أُخْتِهِ فَأَخَذَ يَقْرَأُ وَيَتَدَبَّرُ فَآمَنَ.
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَمَاعِهِ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ ابْنِ سَلُولَ فِي مَبْدَأِ حُلُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ فَنَزَلَ فَسَلَّمَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ: يَا هَذَا إِنَّه لَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِكَ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَحَدِّثْهُ وَمَنْ لَمْ يَأْتِكَ فَلَا تَغُتَّهُ بِهِ». وَلَمَّا كَانَ الْإِقْبَالُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ مُفْضِيًا إِلَى
الْإِيمَانِ بِمَا فِيهِ لِأَنَّهُ يُدَاخِلُ الْقَلْبَ كَمَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ «إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ». أُتْبِعَتْ صِلَةُ اتَّبَعَ الذِّكْرَ بِجُمْلَةِ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنِ اتِّبَاعِ الذِّكْرِ أَكْمَلَ أَنْوَاعِهِ الَّذِي لَا يَعْقُبُهُ إِعْرَاضٌ فَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى امْتِثَالِ الْمُتَّبِعِينَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وخشية الرحمان: تَقْوَاهُ فِي خُوَيْصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ وَبِشَأْنِ الْإِنْذَارِ، فَهَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: ٧] وَهُوَ بَقِيَّةُ تَفْصِيلِ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً [يس: ٦]. وَالْغَرَضُ تَقْوِيَةُ دَاعِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْذَارِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ قَبِلُوا نِذَارَتَهُ فَآمَنُوا.
فَمَعْنَى فِعْلِ تُنْذِرَ هُوَ الْإِنْذَارُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالِامْتِثَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
إِنَّمَا تُنْذِرُ فَيَنْتَذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، أَيْ مِنْ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَيَتَّقُونَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الِاتِّبَاعِ وَالْخَشْيَةِ. وَالْمُرَادُ: ابْتِدَاءُ الِاتِّبَاعِ.
ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّنْوِيهِ الْأَمْرُ بِتَبْشِيرِ هَؤُلَاءِ بِمَغْفِرَةِ مَا كَانَ مِنْهُم فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا يَقْتَرِفُونَ مِنَ اللَّمَمِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ تُنْذِرُ وَ «بَشِّرْ» فِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، مَعَ بَيَانِ أَنَّ أَوَّلَ أَمْرِهِمُ الْإِنْذَارُ وَعَاقِبَتَهُ التَّبْشِيرُ.
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَمَاعِهِ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ ابْنِ سَلُولَ فِي مَبْدَأِ حُلُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ فَنَزَلَ فَسَلَّمَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ: يَا هَذَا إِنَّه لَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِكَ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَحَدِّثْهُ وَمَنْ لَمْ يَأْتِكَ فَلَا تَغُتَّهُ بِهِ». وَلَمَّا كَانَ الْإِقْبَالُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ مُفْضِيًا إِلَى
الْإِيمَانِ بِمَا فِيهِ لِأَنَّهُ يُدَاخِلُ الْقَلْبَ كَمَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ «إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ». أُتْبِعَتْ صِلَةُ اتَّبَعَ الذِّكْرَ بِجُمْلَةِ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنِ اتِّبَاعِ الذِّكْرِ أَكْمَلَ أَنْوَاعِهِ الَّذِي لَا يَعْقُبُهُ إِعْرَاضٌ فَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى امْتِثَالِ الْمُتَّبِعِينَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وخشية الرحمان: تَقْوَاهُ فِي خُوَيْصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِمْ وَبِشَأْنِ الْإِنْذَارِ، فَهَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: ٧] وَهُوَ بَقِيَّةُ تَفْصِيلِ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً [يس: ٦]. وَالْغَرَضُ تَقْوِيَةُ دَاعِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْذَارِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ قَبِلُوا نِذَارَتَهُ فَآمَنُوا.
فَمَعْنَى فِعْلِ تُنْذِرَ هُوَ الْإِنْذَارُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالِامْتِثَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
إِنَّمَا تُنْذِرُ فَيَنْتَذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، أَيْ مِنْ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَيَتَّقُونَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الِاتِّبَاعِ وَالْخَشْيَةِ. وَالْمُرَادُ: ابْتِدَاءُ الِاتِّبَاعِ.
ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّنْوِيهِ الْأَمْرُ بِتَبْشِيرِ هَؤُلَاءِ بِمَغْفِرَةِ مَا كَانَ مِنْهُم فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا يَقْتَرِفُونَ مِنَ اللَّمَمِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ تُنْذِرُ وَ «بَشِّرْ» فِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، مَعَ بَيَانِ أَنَّ أَوَّلَ أَمْرِهِمُ الْإِنْذَارُ وَعَاقِبَتَهُ التَّبْشِيرُ.
353
وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ، وَوَصْفُهُ بِالْكَرِيمِ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
وَالتَّعْبِيرُ بِوَصْفِ الرَّحْمنَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنكرُونَ اسْم الرحمان، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠]. وَالثَّانِي:
الْإِشَارَة إِلَى أَن رَحْمَتِهِ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ خَشْيَتِهِ فَالْمُؤْمِنُ يَخْشَى اللَّهَ مَعَ عِلْمِهِ بِرَحْمَتِهِ فَهُوَ يَرْجُو الرَّحْمَةَ.
فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَهُوَ قَصْرُ الْإِنْذَارِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ اللَّهَ هُوَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي تُؤُوِّلَ بِهِ مَعْنَى فِعْلِ تُنْذِرُ، أَيْ حُصُولُ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ يَكُونُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا إِبْقَاءَ فِعْلِ تُنْذِرُ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوعِ مَصَادِرِهَا فَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتْبِعُوا الذِّكْرَ وَلَمْ يَخْشَوْا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْإِنْذَارِ فِي انْتِفَاء فَائِدَته.
[١٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٢]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
لَمَّا اقْتَضَى الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس:
١١] نُفِيَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِنْذَارُ بِالَّذِينِ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ وَلم يخشوا الرحمان، وَكَانَ فِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْإِنْذَارِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا يَنْفَعُ كُلَّ عَاقِلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذَرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَكَمَا قَالَ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠] اسْتُطْرِدَ عَقِبَ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّصِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ فَإِنَّ التَّوْفِيقَ الَّذِي حَفَّ بِمَنِ اتَّبَعَ الذّكر وخشي الرحمان هُوَ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ لِأَنَّ حَالَةَ الشِّرْكِ حَالَةُ ضَلَالٍ يُشْبِهُ الْمَوْتَ، وَالْإِخْرَاجَ مِنْهُ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ بِصَرِيحِهَا عَلَى عِلْمٍ بِتَحْقِيقِ الْبَعْثِ وَاشْتَمَلَتْ بِتَعْرِيضِهَا عَلَى رَمْزٍ وَاسْتِعَارَتَيْنِ ضِمْنِيَّتَيْنِ: اسْتِعَارَةِ الْمَوْتَى لِلْمُشْرِكِينَ، وَاسْتِعَارَةِ الْأَحْيَاءِ لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَام لما يومىء إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ سَبْقِ الْحُضُورِ فِي الْمُخَيِّلَةِ فَيَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ مِمَّا كَانَ يُتَكَلَّمُ فِي شَأْنِهِ إِلَى الْكَلَامِ فِيمَا خَطَرَ لَهُ. وَهَذِه الدّلَالَة مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ
وَالتَّعْبِيرُ بِوَصْفِ الرَّحْمنَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنكرُونَ اسْم الرحمان، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠]. وَالثَّانِي:
الْإِشَارَة إِلَى أَن رَحْمَتِهِ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ خَشْيَتِهِ فَالْمُؤْمِنُ يَخْشَى اللَّهَ مَعَ عِلْمِهِ بِرَحْمَتِهِ فَهُوَ يَرْجُو الرَّحْمَةَ.
فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَهُوَ قَصْرُ الْإِنْذَارِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ اللَّهَ هُوَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي تُؤُوِّلَ بِهِ مَعْنَى فِعْلِ تُنْذِرُ، أَيْ حُصُولُ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ يَكُونُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا إِبْقَاءَ فِعْلِ تُنْذِرُ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوعِ مَصَادِرِهَا فَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتْبِعُوا الذِّكْرَ وَلَمْ يَخْشَوْا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْإِنْذَارِ فِي انْتِفَاء فَائِدَته.
[١٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٢]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
لَمَّا اقْتَضَى الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس:
١١] نُفِيَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِنْذَارُ بِالَّذِينِ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ وَلم يخشوا الرحمان، وَكَانَ فِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْإِنْذَارِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا يَنْفَعُ كُلَّ عَاقِلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذَرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَكَمَا قَالَ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠] اسْتُطْرِدَ عَقِبَ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّصِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ فَإِنَّ التَّوْفِيقَ الَّذِي حَفَّ بِمَنِ اتَّبَعَ الذّكر وخشي الرحمان هُوَ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ لِأَنَّ حَالَةَ الشِّرْكِ حَالَةُ ضَلَالٍ يُشْبِهُ الْمَوْتَ، وَالْإِخْرَاجَ مِنْهُ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ بِصَرِيحِهَا عَلَى عِلْمٍ بِتَحْقِيقِ الْبَعْثِ وَاشْتَمَلَتْ بِتَعْرِيضِهَا عَلَى رَمْزٍ وَاسْتِعَارَتَيْنِ ضِمْنِيَّتَيْنِ: اسْتِعَارَةِ الْمَوْتَى لِلْمُشْرِكِينَ، وَاسْتِعَارَةِ الْأَحْيَاءِ لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَام لما يومىء إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ سَبْقِ الْحُضُورِ فِي الْمُخَيِّلَةِ فَيَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ مِمَّا كَانَ يُتَكَلَّمُ فِي شَأْنِهِ إِلَى الْكَلَامِ فِيمَا خَطَرَ لَهُ. وَهَذِه الدّلَالَة مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ
354
الْمَقَامِ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى التَّرْكِيبِ. وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ التَّخَلُّصِ بِحَرْفٍ (إِنَّ) لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ تَحْتَاجُ إِلَى فِطْنَةٍ، وَهَذَا مَقَامُ خِطَابِ الذَّكِيِّ الْمَذْكُورِ فِي مُقَدِّمَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي.
فَيَكُونُ مَوْقِعَ جُمْلَةِ «إِنَّا نُحْيِي الْمَوْتَى» اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِقَصْدِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ، وَلم يخشوا الرحمان، وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَضَاهُمْ جَانِبُ النَّفْيِ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْيَاءُ مُسْتَعَارًا لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَوْتَى: اسْتِعَارَة لأهل الشُّكْر، فَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى تَوْفِيقُ مَنْ آمَنَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَام: ١٢٢] الْآيَةَ.
فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَيْسِيرِ الْإِيمَانِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: ١٢٥]، وموقع الْجُمْلَة موقع التَّعْلِيل لِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١].
وَالْمُرَادُ بِكِتَابَةِ مَا قَدَّمُوا الْكِنَايَةَ عَنِ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالثَّوَابِ عَلَى آثَارِهِمْ.
وَهَذَا الِاعْتِبَار يُنَاسِبه الِاسْتِئْنَافَ الِابْتِدَائِيَّ لِيَكُونَ الِانْتِقَالُ بِابْتِدَاءِ كَلَامٍ مُنَبِّهًا السَّامِعَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي مَطَاوِي كَلَامِهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى معنى الصَّرِيحِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ، ونَحْنُ ضَمِيرُ فَصْلٍ لِلتَّقْوِيَةِ وَهُوَ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ. وَالْمَعْنَى: نُحْيِيهِمْ لِلْجَزَاءِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، أَيْ نُحْصِي لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ قَدَّمُوهَا فِي الدُّنْيَا لِنُجَازِيَهِمْ.
وَعَطْفُ ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِأَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَمُجَازَوْنَ عَلَيْهَا.
وَالْكِنَايَةُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْصَاءِ وَعَدَمِ إِفْلَاتِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ إِغْفَالِهِ. وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسَجِّلُهَا الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ.
فَيَكُونُ مَوْقِعَ جُمْلَةِ «إِنَّا نُحْيِي الْمَوْتَى» اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِقَصْدِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ، وَلم يخشوا الرحمان، وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَضَاهُمْ جَانِبُ النَّفْيِ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْيَاءُ مُسْتَعَارًا لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَوْتَى: اسْتِعَارَة لأهل الشُّكْر، فَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى تَوْفِيقُ مَنْ آمَنَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَام: ١٢٢] الْآيَةَ.
فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَيْسِيرِ الْإِيمَانِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: ١٢٥]، وموقع الْجُمْلَة موقع التَّعْلِيل لِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١].
وَالْمُرَادُ بِكِتَابَةِ مَا قَدَّمُوا الْكِنَايَةَ عَنِ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالثَّوَابِ عَلَى آثَارِهِمْ.
وَهَذَا الِاعْتِبَار يُنَاسِبه الِاسْتِئْنَافَ الِابْتِدَائِيَّ لِيَكُونَ الِانْتِقَالُ بِابْتِدَاءِ كَلَامٍ مُنَبِّهًا السَّامِعَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي مَطَاوِي كَلَامِهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى معنى الصَّرِيحِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ، ونَحْنُ ضَمِيرُ فَصْلٍ لِلتَّقْوِيَةِ وَهُوَ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ. وَالْمَعْنَى: نُحْيِيهِمْ لِلْجَزَاءِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، أَيْ نُحْصِي لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ قَدَّمُوهَا فِي الدُّنْيَا لِنُجَازِيَهِمْ.
وَعَطْفُ ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِأَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَمُجَازَوْنَ عَلَيْهَا.
وَالْكِنَايَةُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْصَاءِ وَعَدَمِ إِفْلَاتِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ إِغْفَالِهِ. وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسَجِّلُهَا الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ.
355
فَالْمُرَادُ بِ مَا قَدَّمُوا مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ قَبْلَ الْمَوْتِ شُبِّهَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَشْيَاءَ يُقَدِّمُونَهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا يُقَدِّمُ الْمُسَافِرُ ثِقْلَهُ وَأَحْمَالَهُ.
وَأَمَّا الْآثَارُ فَهِيَ آثَارُ الْأَعْمَالِ وَلَيْسَتْ عَيْنَ الْأَعْمَالِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِ مَا قَدَّمُوا مِثْلِ مَا يَتْرُكُونَ مِنْ خير أَو يثير بَيْنَ النَّاسِ وَفِي النُّفُوسِ.
وَالْمَقْصُودُ بذلك مَا عملوه مُوَافِقًا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مُخَالِفًا لَهَا وَآثَارَهُمْ كَذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا»
. فَالْآثَارُ مُسَبَّبَاتُ أَسْبَابٍ عَمِلُوا بِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ كِتَابَةَ كُلِّ مَا عَمِلُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ. فَهَذَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ كُلٌّ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ مِنْهُ.
وَقَدْ
وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: الْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
. وَيَعْنِي آثَارَ أَرْجُلِهِمْ فِي الْمَشْيِ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ زَادَ: أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فَجَعَلَ الْآثَارَ عَامًّا لِلْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَهَذَا يُلَاقِي الْوَجْهَ الثَّانِي فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِ الْمَوْتى
. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا أَسَّسْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَتَوَهَّمَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُخَالِفُهُ وَمَكِّيَّتُهَا تُنَافِيهِ.
وَالْإِحْصَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعَدُّ وَالْحِسَابُ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ وَالضَّبْطِ وَعَدَمِ تَخَلُّفِ شَيْءٍ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّعْيِينِ لِأَنَّ الْإِحْصَاءَ وَالْحِسَابَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَفُوتَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَحْسُوبَاتِ.
وَالْإِمَامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الِاقْتِدَاء وَيعْمل عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَأَمَّا الْآثَارُ فَهِيَ آثَارُ الْأَعْمَالِ وَلَيْسَتْ عَيْنَ الْأَعْمَالِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِ مَا قَدَّمُوا مِثْلِ مَا يَتْرُكُونَ مِنْ خير أَو يثير بَيْنَ النَّاسِ وَفِي النُّفُوسِ.
وَالْمَقْصُودُ بذلك مَا عملوه مُوَافِقًا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مُخَالِفًا لَهَا وَآثَارَهُمْ كَذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا»
. فَالْآثَارُ مُسَبَّبَاتُ أَسْبَابٍ عَمِلُوا بِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ كِتَابَةَ كُلِّ مَا عَمِلُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ. فَهَذَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ كُلٌّ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ مِنْهُ.
وَقَدْ
وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: الْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
. وَيَعْنِي آثَارَ أَرْجُلِهِمْ فِي الْمَشْيِ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ زَادَ: أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فَجَعَلَ الْآثَارَ عَامًّا لِلْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَهَذَا يُلَاقِي الْوَجْهَ الثَّانِي فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِ الْمَوْتى
. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا أَسَّسْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَتَوَهَّمَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُخَالِفُهُ وَمَكِّيَّتُهَا تُنَافِيهِ.
وَالْإِحْصَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعَدُّ وَالْحِسَابُ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ وَالضَّبْطِ وَعَدَمِ تَخَلُّفِ شَيْءٍ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّعْيِينِ لِأَنَّ الْإِحْصَاءَ وَالْحِسَابَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَفُوتَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَحْسُوبَاتِ.
وَالْإِمَامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الِاقْتِدَاء وَيعْمل عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
356
بَنَوْا مَجْدَ الْحَيَاةِ عَلَى إِمَامِ أَطْلَقَ الْإِمَامَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ يُتَّبَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالشُّرُوطِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَالْمرَاد ب كُلَّ شَيْءٍ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَذِكْرُ كُلَّ شَيْءٍ لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَالْعُمُومِ لِمَّا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ مِنْ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ.
فَكَلِمَةُ كُلَّ نَصٌّ عَلَى الْعُمُومِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَمِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، وَمُبَيِّنَةً لِمُجْمَلِهَا، وَيَكُونُ عَطْفُهَا دُونَ فَصْلِهَا مُرَاعًى فِيهِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ شَيْءٍ كَلُّ مَا يُوجَدُ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ الْإِحْصَاءُ إِحْصَاءَ عِلْمٍ، أَيْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَيَكُونُ الْإِمَامُ الْمُبِينُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ إِحَاطَةٍ، أَيْ عَدَمُ تَفَلُّتِ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَا يَنْفَلِتُ الْمَظْرُوفُ عَنِ الظَّرْفِ.
وَجُعِلَ عِلْمُ اللَّهِ إِمَامًا لِأَنَّهُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِهِ تَعَلُقَاتُ الْإِرَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا مُفِيدًا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَعْمَالِ النَّاسِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّكَالِيفِ أَوْ ضِدِّهَا بَلْ تَعُمُّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الشَّيْءُ يُرَادِفُ الْمَوْجُودَ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِ كُلَّ شَيْءٍ الْمَوْجُودُ بِالْفِعْلِ أَو مَا يقبل الْإِيجَادِ وَهُوَ الْمُمْكِنُ، فَيَكُونُ إِحْصَاؤُهُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ وَمَقَادِيرُ كَوْنِهِ وَأَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنّ: ٢٨].
[١٣، ١٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
أَعْقَبَ وَصْفَ إِعْرَاضِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ بِتَهْدِيدِهِمْ
حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ | قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاء |
فَكَلِمَةُ كُلَّ نَصٌّ عَلَى الْعُمُومِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَمِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، وَمُبَيِّنَةً لِمُجْمَلِهَا، وَيَكُونُ عَطْفُهَا دُونَ فَصْلِهَا مُرَاعًى فِيهِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ شَيْءٍ كَلُّ مَا يُوجَدُ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ الْإِحْصَاءُ إِحْصَاءَ عِلْمٍ، أَيْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَيَكُونُ الْإِمَامُ الْمُبِينُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ إِحَاطَةٍ، أَيْ عَدَمُ تَفَلُّتِ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَا يَنْفَلِتُ الْمَظْرُوفُ عَنِ الظَّرْفِ.
وَجُعِلَ عِلْمُ اللَّهِ إِمَامًا لِأَنَّهُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِهِ تَعَلُقَاتُ الْإِرَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا مُفِيدًا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَعْمَالِ النَّاسِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّكَالِيفِ أَوْ ضِدِّهَا بَلْ تَعُمُّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الشَّيْءُ يُرَادِفُ الْمَوْجُودَ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِ كُلَّ شَيْءٍ الْمَوْجُودُ بِالْفِعْلِ أَو مَا يقبل الْإِيجَادِ وَهُوَ الْمُمْكِنُ، فَيَكُونُ إِحْصَاؤُهُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ وَمَقَادِيرُ كَوْنِهِ وَأَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنّ: ٢٨].
[١٣، ١٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
أَعْقَبَ وَصْفَ إِعْرَاضِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ بِتَهْدِيدِهِمْ
357
بِعَذَابِ الدُّنْيَا إِذْ قَدْ جَاءَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلُهُ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ [يس:
٢٩].
وَالضَّرْبُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي مَعْنَى الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ، وَمِنْهُ: ضَرَبَ خَتْمَهُ. وَضَرَبْتُ بَيْتًا، وَهُوَ هُنَا فِي الْجَعْلِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمَعْنَى: اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ شَبَهًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ.
ولَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ اضْرِبْ أَيِ اضْرِبْ مَثَلًا لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَعْتَبِرُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: ٢٨]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ صِفَةٌ لِ (مَثَلَ)، أَيِ اضْرِبْ شَبِيهًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: ٧٤].
وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ، فَقَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مَعْنَاهُ وَنَظِّرْ مَثَلًا، أَيْ شَبِّهْ حَالَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِكَ بِشَبِيهٍ مِنَ السَّابِقَيْنَ، وَلَمَّا غَلَبَ الْمَثَلُ فِي الْمُشَابِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ الضَّرْبُ أَعَمَّ جُعِلَ مَثَلًا مَفْعُولًا لِ اضْرِبْ، أَيْ نَظِّرْ حَالَهُمْ بِمُشَابِهٍ فِيهَا فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ اضْرِبْ، ومَثَلًا بِالِاعْتِبَارِ. وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى الْحَالِ.
وَانْتَصَبَ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَيَانِ لِ مَثَلًا، أَوْ بَدَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِ اضْرِبْ ومَثَلًا مَفْعُولًا ثَانِيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً [النَّحْل:
١١٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَالِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ.
والْقَرْيَةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ (أَنْطَاكِيَةُ) وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ مُتَاخِمَةٌ لِبِلَادِ الْيُونَانِ.
وَالْمُرْسَلُونَ إِلَيْهَا قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ بَعَثَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ رُفِعَ عِيسَى. وَذَكَرُوا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ.
٢٩].
وَالضَّرْبُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي مَعْنَى الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ، وَمِنْهُ: ضَرَبَ خَتْمَهُ. وَضَرَبْتُ بَيْتًا، وَهُوَ هُنَا فِي الْجَعْلِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمَعْنَى: اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ شَبَهًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ.
ولَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ اضْرِبْ أَيِ اضْرِبْ مَثَلًا لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَعْتَبِرُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: ٢٨]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ صِفَةٌ لِ (مَثَلَ)، أَيِ اضْرِبْ شَبِيهًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: ٧٤].
وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ، فَقَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مَعْنَاهُ وَنَظِّرْ مَثَلًا، أَيْ شَبِّهْ حَالَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِكَ بِشَبِيهٍ مِنَ السَّابِقَيْنَ، وَلَمَّا غَلَبَ الْمَثَلُ فِي الْمُشَابِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ الضَّرْبُ أَعَمَّ جُعِلَ مَثَلًا مَفْعُولًا لِ اضْرِبْ، أَيْ نَظِّرْ حَالَهُمْ بِمُشَابِهٍ فِيهَا فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ اضْرِبْ، ومَثَلًا بِالِاعْتِبَارِ. وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى الْحَالِ.
وَانْتَصَبَ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَيَانِ لِ مَثَلًا، أَوْ بَدَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِ اضْرِبْ ومَثَلًا مَفْعُولًا ثَانِيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً [النَّحْل:
١١٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَالِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ.
والْقَرْيَةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ (أَنْطَاكِيَةُ) وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ مُتَاخِمَةٌ لِبِلَادِ الْيُونَانِ.
وَالْمُرْسَلُونَ إِلَيْهَا قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ بَعَثَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ رُفِعَ عِيسَى. وَذَكَرُوا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ.
358
وَتَحْقِيقُ الْقِصَّةِ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَدْعُ إِلَى دِينِهِ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنِ الدِّينُ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ إلّا تكلمة لِمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِكْمَالَهُ من شَرِيعَة التَّوْرَاة، وَلَكِنَّ
عِيسَى أَوْصَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ نَهْيِ النَّاسِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا رُؤْيَا أَوْ خَطَرَ لَهُمْ خَاطِرٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِمَّا جَاوَرَهَا، أَوْ خَطَرَ فِي نُفُوسِهِمْ إِلْهَامٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لِتَحْقِيقِ وَصِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَوَقَعَتِ اخْتِلَافَاتٌ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ وَتَحْرِيفَاتٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَالَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ (١) أَنَّ (بِرْنَابَا) وَ (شَاوَل) الْمَدْعُو (بُولُس) مِنْ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ وَوُصِفَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَا فِي أَنْطَاكِيَةَ مُرْسَلَيْنِ لِلتَّعْلِيمِ، وَأَنَّهُمَا عُزِّزَا بِالتِّلْمِيذِ (٢) (سِيلَا). وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الثَّالِثَ هُوَ (شَمْعُونُ)، لَكِنْ لَيْسَ فِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ بُولُس وَبِرْنَابَا عُزِّزَا بِسَمْعَانَ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ أَنه كَانَ نبيء فِي أَنْطَاكِيَةَ اسْمُهُ (سَمْعَانُ).
وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ كَانُوا سُكَّانًا بِأَنْطَاكِيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْيُونَانِ، وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الرُّسُلِ سِوَى كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةٍ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَين الْمُرْسلين وَبَين الْمُرْسل إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ يَطْعَنُونَ فِي صِدْقِ دَعْوَةِ بُولُس وَبِرْنَابَا وَيُثِيرُونَ عَلَيْهِمَا نِسَاءَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ وُجُوهِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى اضْطُرَّ (بُولُس وَبِرْنَابَا) إِلَى أَنْ خَرَجَا مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَقَصَدَا أَيْقُونِيَّةَ وَمَا جَاوَرَهَا وَقَاوَمَهُمَا يَهُودُ بَعْضِ تِلْكَ الْمُدُنِ، وَأَنَّ أَحْبَارَ النَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمَدَائِنِ رَأَوْا أَن يعيدون بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. وَبَعْدَ عَوْدَتِهِمَا حَصَلَ لَهُمَا مَا حَصَلَ لَهُمَا فِي الْأُولَى وَبِالْخُصُوصِ فِي قَضِيَّةِ وُجُوبِ الْخِتَانِ عَلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي الدِّينِ، فَذَهَبَ بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أُورَشْلِيمَ لِمُرَاجَعَةِ الْحَوَارِيِّينَ فَرَأَى أَحْبَارُ أورشليم أَن يؤيدوهما بِرَجُلَيْنِ
_________
(١) «الإصحاح» ١٣، أَعمال الرُّسُل ١- ٩.
(٢) «الإصحاح» ١٥، أَعمال الرُّسُل ٣٤- ٣٥.
عِيسَى أَوْصَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ نَهْيِ النَّاسِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا رُؤْيَا أَوْ خَطَرَ لَهُمْ خَاطِرٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِمَّا جَاوَرَهَا، أَوْ خَطَرَ فِي نُفُوسِهِمْ إِلْهَامٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لِتَحْقِيقِ وَصِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَوَقَعَتِ اخْتِلَافَاتٌ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ وَتَحْرِيفَاتٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَالَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ (١) أَنَّ (بِرْنَابَا) وَ (شَاوَل) الْمَدْعُو (بُولُس) مِنْ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ وَوُصِفَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَا فِي أَنْطَاكِيَةَ مُرْسَلَيْنِ لِلتَّعْلِيمِ، وَأَنَّهُمَا عُزِّزَا بِالتِّلْمِيذِ (٢) (سِيلَا). وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الثَّالِثَ هُوَ (شَمْعُونُ)، لَكِنْ لَيْسَ فِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ بُولُس وَبِرْنَابَا عُزِّزَا بِسَمْعَانَ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ أَنه كَانَ نبيء فِي أَنْطَاكِيَةَ اسْمُهُ (سَمْعَانُ).
وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ كَانُوا سُكَّانًا بِأَنْطَاكِيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْيُونَانِ، وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الرُّسُلِ سِوَى كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةٍ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَين الْمُرْسلين وَبَين الْمُرْسل إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ يَطْعَنُونَ فِي صِدْقِ دَعْوَةِ بُولُس وَبِرْنَابَا وَيُثِيرُونَ عَلَيْهِمَا نِسَاءَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ وُجُوهِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى اضْطُرَّ (بُولُس وَبِرْنَابَا) إِلَى أَنْ خَرَجَا مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَقَصَدَا أَيْقُونِيَّةَ وَمَا جَاوَرَهَا وَقَاوَمَهُمَا يَهُودُ بَعْضِ تِلْكَ الْمُدُنِ، وَأَنَّ أَحْبَارَ النَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمَدَائِنِ رَأَوْا أَن يعيدون بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. وَبَعْدَ عَوْدَتِهِمَا حَصَلَ لَهُمَا مَا حَصَلَ لَهُمَا فِي الْأُولَى وَبِالْخُصُوصِ فِي قَضِيَّةِ وُجُوبِ الْخِتَانِ عَلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي الدِّينِ، فَذَهَبَ بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أُورَشْلِيمَ لِمُرَاجَعَةِ الْحَوَارِيِّينَ فَرَأَى أَحْبَارُ أورشليم أَن يؤيدوهما بِرَجُلَيْنِ
_________
(١) «الإصحاح» ١٣، أَعمال الرُّسُل ١- ٩.
(٢) «الإصحاح» ١٥، أَعمال الرُّسُل ٣٤- ٣٥.
359
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هُمَا (بِرْسَابَا) وَ (سِيلَا).
فَأَمَّا (بِرْسَابَا) فَلَمْ يَمْكُثْ. وَأَمَّا (سِيلَا) فَبَقِيَ مَعَ (بُولُس وَبِرْنَابَا) يَعِظُونَ النَّاسَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ إِذْ أَسْنَدَ الْإِرْسَالَ وَالتَّعْزِيزَ إِلَى اللَّهِ.
وَالتَّعْزِيزُ: التَّقْوِيَةُ، وَفِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مَعْنَى جَعْلِ الْمُقَوَّى عَزِيزًا فَالْأَحْسَنُ أَنَّ التَّعْزِيزَ هُوَ النَّصْرُ.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فَعَزَّزْنا بِتَخْفِيفِ الزَّايِ الْأُولَى، وَفِعْلُ عَزَّ بِمَعْنَى يُحْيِي مُرَادِفًا لِعَزَّزَ كَمَا قَالُوا شَدَّ وَشَدَّدَ.
وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ فَأَكَّدُوا الْخَبَرَ تَأْكِيدًا وَسَطًا، وَيُسَمَّى هَذَا ضَرْبًا طَلَبِيًّا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمُ الْمَقْصُودِ إِيمَانهم بِعِيسَى.
[١٥]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٥]
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥)
كَانَ أَهْلُ (أَنْطَاكِيَةَ) وَالْمُدُنِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا خَلِيطًا مِنَ الْيَهُودِ وَعَبَدَةَ الْأَصْنَامِ من اليونان، فَقَوله: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا صَالِحٌ لِأَنْ يَصْدُرَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْآلِهَةَ لَا تَبْعَثُ الرُّسُلَ وَلَا تُوحِي إِلَى أَحَدٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (١) أَنَّ بَعْضَ الْيُونَانِ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ (لِسْتُرَة) رَأَوْا مُعْجِزَةً مِنْ بُولُس النَّبِيءِ فَقَالُوا بِلِسَانٍ يُونَانِيٍّ: إِنَّ الْآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا فَكَانُوا يَدْعُونَ (بِرْنَابَا) (زِفْس). أَيْ كَوْكَبَ الْمُشْتَرِي، وَ (بُولُس) (هُرْمُس) أَيْ كَوْكَبَ عُطَارِدٍ وَجَاءَهُمَا كَاهِنُ (زِفْس) بِثِيرَانٍ لِيَذْبَحَهَا لَهُمَا، وَأَكَالِيلَ لِيَضَعَهَا عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ (بُولُس وَبِرْنَابَا) مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَصَرَخَا: نَحْنُ بَشْرٌ مَثْلُكُمْ نَعِظُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا عَنْ
_________
(١) انْظُر «الإصحاح» ١٤.
فَأَمَّا (بِرْسَابَا) فَلَمْ يَمْكُثْ. وَأَمَّا (سِيلَا) فَبَقِيَ مَعَ (بُولُس وَبِرْنَابَا) يَعِظُونَ النَّاسَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ إِذْ أَسْنَدَ الْإِرْسَالَ وَالتَّعْزِيزَ إِلَى اللَّهِ.
وَالتَّعْزِيزُ: التَّقْوِيَةُ، وَفِي هَذِهِ الْمَادَّةِ مَعْنَى جَعْلِ الْمُقَوَّى عَزِيزًا فَالْأَحْسَنُ أَنَّ التَّعْزِيزَ هُوَ النَّصْرُ.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فَعَزَّزْنا بِتَخْفِيفِ الزَّايِ الْأُولَى، وَفِعْلُ عَزَّ بِمَعْنَى يُحْيِي مُرَادِفًا لِعَزَّزَ كَمَا قَالُوا شَدَّ وَشَدَّدَ.
وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ فَأَكَّدُوا الْخَبَرَ تَأْكِيدًا وَسَطًا، وَيُسَمَّى هَذَا ضَرْبًا طَلَبِيًّا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمُ الْمَقْصُودِ إِيمَانهم بِعِيسَى.
[١٥]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٥]
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥)
كَانَ أَهْلُ (أَنْطَاكِيَةَ) وَالْمُدُنِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا خَلِيطًا مِنَ الْيَهُودِ وَعَبَدَةَ الْأَصْنَامِ من اليونان، فَقَوله: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا صَالِحٌ لِأَنْ يَصْدُرَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْآلِهَةَ لَا تَبْعَثُ الرُّسُلَ وَلَا تُوحِي إِلَى أَحَدٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (١) أَنَّ بَعْضَ الْيُونَانِ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ (لِسْتُرَة) رَأَوْا مُعْجِزَةً مِنْ بُولُس النَّبِيءِ فَقَالُوا بِلِسَانٍ يُونَانِيٍّ: إِنَّ الْآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا فَكَانُوا يَدْعُونَ (بِرْنَابَا) (زِفْس). أَيْ كَوْكَبَ الْمُشْتَرِي، وَ (بُولُس) (هُرْمُس) أَيْ كَوْكَبَ عُطَارِدٍ وَجَاءَهُمَا كَاهِنُ (زِفْس) بِثِيرَانٍ لِيَذْبَحَهَا لَهُمَا، وَأَكَالِيلَ لِيَضَعَهَا عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ (بُولُس وَبِرْنَابَا) مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَصَرَخَا: نَحْنُ بَشْرٌ مَثْلُكُمْ نَعِظُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا عَنْ
_________
(١) انْظُر «الإصحاح» ١٤.
هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ إِلَى الْإِلَهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ.
وَصَالِحٌ لِأَنْ يَصْدُرُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذين لم يتنصّروا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَبَقِيَّةَ الْيَهُودِ سَوَاءٌ وَأَنْ لَا فَضْلَ لَهُمَا بِمَا يَزْعُمُونَ مِنَ النُّبُوءَةِ وَيَقْتَضِي إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنَزَلَ شَيْئًا، أَيْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ. فَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ جَمْعُ مُقَالَةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّحْمنُ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْكَفَرَةِ وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ صَالِحًا لِعَقِيدَةِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْيُونَانَ لَا يَعْرِفُونَ اسْمَ اللَّهِ، وَرَبُّ الْأَرْبَابِ عِنْدَهُمْ هُوَ (زِفْس) وَهُوَ مَصْدَرُ الرَّحْمَةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ النُّطْقَ بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِي لُغَتِهِمْ (يَهْوَه) فَيُعَوِّضُونَهُ بِالصِّفَاتِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ اسْتِفْهَامٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَخْبَارٍ مَحْذُوفَةٍ فَجُمْلَةُ تَكْذِبُونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ ضمير أَنْتُمْ.
[١٦، ١٧]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
حُكِيَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ عَلَى سَنَنِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُتَحَاوِرِينَ دُونَ عَطْفٍ.
ورَبُّنا يَعْلَمُ قَسَمٌ لِأَنَّهُ اسْتِشْهَادٌ بِاللَّهِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ يَمِينٌ قَدِيمَةٌ انْتَقَلَهَا الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنِ عَبَّادٍ:
وَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مُغَلِّظًا عِنْدَهُمْ لِقِلَّةِ وُرُودِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَلَا يَكَادُ يَقَعُ إِلَّا فِي مَقَامٍ مُهِمٍّ.
وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَمِينٌ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ فِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الْحِنْثِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ لَهُمْ قَوْلًا بِأَنَّ الْحَالِفَ بِهِ كَاذِبًا تَلْزَمُهُ الرِّدَّةُ لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَآلَ إِلَى جَعْلِ عِلْمِ اللَّهِ جَهْلًا. وَهَذَا يَرْمِي إِلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّحْذِيرِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يُكَفِّرُ أَحَدٌ بِلَوَازِمَ بَعِيدَةٍ.
وَصَالِحٌ لِأَنْ يَصْدُرُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذين لم يتنصّروا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَبَقِيَّةَ الْيَهُودِ سَوَاءٌ وَأَنْ لَا فَضْلَ لَهُمَا بِمَا يَزْعُمُونَ مِنَ النُّبُوءَةِ وَيَقْتَضِي إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنَزَلَ شَيْئًا، أَيْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ. فَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ جَمْعُ مُقَالَةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّحْمنُ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْكَفَرَةِ وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ صَالِحًا لِعَقِيدَةِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْيُونَانَ لَا يَعْرِفُونَ اسْمَ اللَّهِ، وَرَبُّ الْأَرْبَابِ عِنْدَهُمْ هُوَ (زِفْس) وَهُوَ مَصْدَرُ الرَّحْمَةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ النُّطْقَ بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِي لُغَتِهِمْ (يَهْوَه) فَيُعَوِّضُونَهُ بِالصِّفَاتِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ اسْتِفْهَامٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَخْبَارٍ مَحْذُوفَةٍ فَجُمْلَةُ تَكْذِبُونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ ضمير أَنْتُمْ.
[١٦، ١٧]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
حُكِيَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ عَلَى سَنَنِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُتَحَاوِرِينَ دُونَ عَطْفٍ.
ورَبُّنا يَعْلَمُ قَسَمٌ لِأَنَّهُ اسْتِشْهَادٌ بِاللَّهِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ يَمِينٌ قَدِيمَةٌ انْتَقَلَهَا الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنِ عَبَّادٍ:
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ | هُـ وَإِنِّي لِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِي |
وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَمِينٌ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ فِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الْحِنْثِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ لَهُمْ قَوْلًا بِأَنَّ الْحَالِفَ بِهِ كَاذِبًا تَلْزَمُهُ الرِّدَّةُ لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَآلَ إِلَى جَعْلِ عِلْمِ اللَّهِ جَهْلًا. وَهَذَا يَرْمِي إِلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّحْذِيرِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يُكَفِّرُ أَحَدٌ بِلَوَازِمَ بَعِيدَةٍ.
وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى شِدَّةِ التَّوْكِيدِ بِالْقَسَمِ مَا رَأَوْا مِنْ تَصْمِيمِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ. وَيُسَمَّى هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّأْكِيدِ ضَرْبًا إِنْكَارِيًّا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فَذَلِكَ وَعْظٌ وَعَظُوا بِهِ الْقَوْمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا مَنْفَعَةَ تَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ إِيمَانِ الْقَوْمِ وَإِعْلَانٌ لَهُمْ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ عُهْدَةِ بَقَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ النَّظَرَ الْفِكْرِيَّ فِي نُفُوسِ الْقَوْمِ.
والْبَلاغُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَبْلَغَ إِذَا أَوْصَلَ خَبَرًا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] وَقَالَ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢]. وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْبَلَاغُ فِي إِيصَالِ الذَّوَاتِ. وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي كَرَاءِ السُّفُنِ وَالرَّوَاحِلِ: إِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْبَلَاغِ. يُرِيدُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ الْمَكْرِي وَالْمُكْتَرِي.
والْمُبِينُ وَصْفٌ لِلْبَلَاغِ، أَيِ الْبَلَاغِ الْوَاضِحِ دَلَالَةً وَهُوَ الَّذِي لَا إِيهَامَ فِيهِ وَلَا مواربة.
[١٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٨]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)
لَمَّا غَلَبَتْهُمُ الْحُجَّةُ من كل جَانب وَبَلَغَ قَوْلُ الرُّسُلِ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس: ١٧] مِنْ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ مَبَلَغَ الْخَجَلِ وَالِاسْتِكَانَةِ مِنْ إِخْفَاقِ الْحُجَّةِ وَالِاتِّسَامِ بِمِيسَمِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُنَابَذَةِ لِلَّذِينَ يَبْتَغُونَ نَفْعَهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى سَتْرِ خَجَلِهِمْ وَانْفِحَامِهِمْ بِتَلْفِيفِ السَّبَبِ لِرَفْضِ دَعْوَتِهِمْ بِمَا حَسِبُوهُ مُقْنِعًا لِلرُّسُلِ بِتَرْكِ دَعْوَتِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَّعُونَهُ شَيْءٌ خَفِيٌّ لَا قِبَلَ لِغَيْرِ مُخْتَرِعِهِ بِالْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَطَيَّرُوا بِهِمْ وَلَحِقَهُمْ مِنْهُم شُؤْم، وَلَا بُد لِلْمَغْلُوبِ مِنْ بَارِدِ الْعُذْرِ.
وَالتَّطَيُّرُ فِي الْأَصْلِ: تَكَلُّفُ مُعْرِفَةِ دَلَالَةِ الطَّيْرِ عَلَى خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ تَعَرُّضِ نَوْعِ الطَّيْرِ وَمِنْ صِفَةِ انْدِفَاعِهِ أَوْ مَجِيئِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ حَدَثٍ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي لَحَاقِ شَرٍّ بِهِ فَصَارَ مُرَادِفًا لِلتَّشَاؤُمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ»
وَبِهَذَا الْمَعْنَى أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ قَالُوا: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فَذَلِكَ وَعْظٌ وَعَظُوا بِهِ الْقَوْمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا مَنْفَعَةَ تَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ إِيمَانِ الْقَوْمِ وَإِعْلَانٌ لَهُمْ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ عُهْدَةِ بَقَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ النَّظَرَ الْفِكْرِيَّ فِي نُفُوسِ الْقَوْمِ.
والْبَلاغُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَبْلَغَ إِذَا أَوْصَلَ خَبَرًا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] وَقَالَ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢]. وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْبَلَاغُ فِي إِيصَالِ الذَّوَاتِ. وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي كَرَاءِ السُّفُنِ وَالرَّوَاحِلِ: إِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْبَلَاغِ. يُرِيدُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ الْمَكْرِي وَالْمُكْتَرِي.
والْمُبِينُ وَصْفٌ لِلْبَلَاغِ، أَيِ الْبَلَاغِ الْوَاضِحِ دَلَالَةً وَهُوَ الَّذِي لَا إِيهَامَ فِيهِ وَلَا مواربة.
[١٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٨]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)
لَمَّا غَلَبَتْهُمُ الْحُجَّةُ من كل جَانب وَبَلَغَ قَوْلُ الرُّسُلِ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس: ١٧] مِنْ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ مَبَلَغَ الْخَجَلِ وَالِاسْتِكَانَةِ مِنْ إِخْفَاقِ الْحُجَّةِ وَالِاتِّسَامِ بِمِيسَمِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُنَابَذَةِ لِلَّذِينَ يَبْتَغُونَ نَفْعَهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى سَتْرِ خَجَلِهِمْ وَانْفِحَامِهِمْ بِتَلْفِيفِ السَّبَبِ لِرَفْضِ دَعْوَتِهِمْ بِمَا حَسِبُوهُ مُقْنِعًا لِلرُّسُلِ بِتَرْكِ دَعْوَتِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَّعُونَهُ شَيْءٌ خَفِيٌّ لَا قِبَلَ لِغَيْرِ مُخْتَرِعِهِ بِالْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَطَيَّرُوا بِهِمْ وَلَحِقَهُمْ مِنْهُم شُؤْم، وَلَا بُد لِلْمَغْلُوبِ مِنْ بَارِدِ الْعُذْرِ.
وَالتَّطَيُّرُ فِي الْأَصْلِ: تَكَلُّفُ مُعْرِفَةِ دَلَالَةِ الطَّيْرِ عَلَى خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ تَعَرُّضِ نَوْعِ الطَّيْرِ وَمِنْ صِفَةِ انْدِفَاعِهِ أَوْ مَجِيئِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ حَدَثٍ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي لَحَاقِ شَرٍّ بِهِ فَصَارَ مُرَادِفًا لِلتَّشَاؤُمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ»
وَبِهَذَا الْمَعْنَى أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ قَالُوا: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ.
وَمَعْنَى بِكُمْ بِدَعْوَتِكُمْ، وَلَيْسُوا يُرِيدُونَ أَنَّ الْقَرْيَةَ حَلَّ بِهَا حَادِثُ سُوءٍ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهَمْ مِنْ قَحْطٍ أَوْ وَبَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الضُّرِّ الْعَامِّ مُقَارَنٌ لِحُلُولِ الرُّسُلِ أَوْ لِدَعْوَتِهِمْ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَخْلُو فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ مَكْرُوهُ. وَمِنْ عَادَةِ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ السَّخِيفَةِ وَالْعُقُولِ الْمَأْفُونَةِ أَنْ يُسْنِدُوا الْأَحْدَاثَ إِلَى مُقَارَنَاتِهَا دُونَ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا ثُمَّ أَنْ يَتَخَيَّرُوا فِي تَعْيِينِ مُقَارَنَاتِ الشُّؤْمِ أُمُورًا لَا تُلَائِمُ شَهَوَاتِهِمْ وَمَا يَنْفِرُونَ مِنْهُ، وَأَنْ يُعِيِّنُوا مِنَ الْمُقَارَنَاتِ لِلتَّيَمُّنِ مَا يَرْغَبُونَ فِيهِ وَتَقْبَلُهُ طِبَاعُهُمْ يُغَالِطُونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ شَأْنُ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، فَمَرْجِعُ الْعِلَلِ كُلِّهَا لَدَيْهِمْ إِلَى أَحْوَالِ نُفُوسِهِمْ وَرَغَائِبِهِمْ كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: ١٣١] وَحَكَى عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النِّسَاء: ٧٨].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا بِالشُّؤْمِ أَنَّ دَعْوَتَهُمْ أَحْدَثَتْ مُشَاجَرَاتٍ وَاخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَلَمَّا تَمَالَأَتْ نُفُوسُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ كُلِّ حَدَثٍ مَكْرُوهٍ يُصِيبُ أَحَدَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ جَرَّاءِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أَيْ يَقُولُهَا
الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَوِ الْجَمْعُ فَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.
ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِالِانْتِهَاءِ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وَبِذَلِك ألجئوا (بُولُس) وَ (بِرْنَابَا) إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ فَخَرَجَا إِلَى أَيْقُونِيَّةَ وَظَهَرَتْ كَرَامَةُ (بُولُس) فِي أَيْقُونِيَّةَ ثُمَّ فِي (لِسْتُرَة) ثُمَّ فِي (دَرْبَةَ). وَلَمْ يَزَلِ الْيَهُودُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدُنِ يُشَاقُّونَ الرُّسُلَ وَيَضْطَهِدُونَهُمْ وَيُثِيرُونَ النَّاس عَلَيْهِم ويلحقونهم إِلَى كل بلد يحلّون بِهِ ليشغبوا عَلَيْهِمْ، فَمَسَّهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَذَابٌ وَضُرٌّ وَرُجِمَ (بُولُس) فِي مَدِينَةِ (لِسْتُرَة) حَتَّى حَسِبُوا أَنْ قَدْ مَاتَ.
وَلَامُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ حُكِيَ بِهَا مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ قسم بكلامهم.
[١٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٩]
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
حُكيَ قَول الرُّسُل بِمَا يُرَادِفُهُ وَيُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِأُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ ضُرِبَتِ الْقَرْيَةُ مَثَلًا لَهُمْ، فَالرُّسُلُ لَمْ يَذْكُرُوا مَادَّةَ الطِّيَرَةَ وَالطَّيْرَ وَإِنَّمَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا بِالشُّؤْمِ أَنَّ دَعْوَتَهُمْ أَحْدَثَتْ مُشَاجَرَاتٍ وَاخْتِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَلَمَّا تَمَالَأَتْ نُفُوسُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ كُلِّ حَدَثٍ مَكْرُوهٍ يُصِيبُ أَحَدَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ جَرَّاءِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أَيْ يَقُولُهَا
الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَوِ الْجَمْعُ فَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.
ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِالِانْتِهَاءِ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وَبِذَلِك ألجئوا (بُولُس) وَ (بِرْنَابَا) إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ فَخَرَجَا إِلَى أَيْقُونِيَّةَ وَظَهَرَتْ كَرَامَةُ (بُولُس) فِي أَيْقُونِيَّةَ ثُمَّ فِي (لِسْتُرَة) ثُمَّ فِي (دَرْبَةَ). وَلَمْ يَزَلِ الْيَهُودُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُدُنِ يُشَاقُّونَ الرُّسُلَ وَيَضْطَهِدُونَهُمْ وَيُثِيرُونَ النَّاس عَلَيْهِم ويلحقونهم إِلَى كل بلد يحلّون بِهِ ليشغبوا عَلَيْهِمْ، فَمَسَّهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَذَابٌ وَضُرٌّ وَرُجِمَ (بُولُس) فِي مَدِينَةِ (لِسْتُرَة) حَتَّى حَسِبُوا أَنْ قَدْ مَاتَ.
وَلَامُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ حُكِيَ بِهَا مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ قسم بكلامهم.
[١٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٩]
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
حُكيَ قَول الرُّسُل بِمَا يُرَادِفُهُ وَيُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِأُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ ضُرِبَتِ الْقَرْيَةُ مَثَلًا لَهُمْ، فَالرُّسُلُ لَمْ يَذْكُرُوا مَادَّةَ الطِّيَرَةَ وَالطَّيْرَ وَإِنَّمَا
363
أَتَوْا بِمَا يدل عَلَى أَنَّ شُؤْمَ الْقَوْمِ مُتَّصِلٌ بِذَوَاتِهِمْ لَا جَاءٍ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ فَحُكِيَ بِمَا يُوَافِقُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي مَكَّةَ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّجْرِيدِ لِضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِأَنْ لُوحِظَ فِي حِكَايَة الْقِصَّة مَا هُوَ من شؤون الْمُشَبَّهِينَ بِأَصْحَابِ الْقِصَّةِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الطِّيرَةُ بِمَعْنَى الشُّؤْمِ مُشْتَقَّةً مِنِ اسْمِ الطَّيْرِ لُوحِظَ فِيهَا مَادَّةُ الِاشْتِقَاقِ.
وَقَدْ جَاءَ إِطْلَاقُ الطَّائِرِ عَلَى مَعْنَى الشُّؤْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣١] :
أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ.
وَمَعْنَى طائِرُكُمْ مَعَكُمْ الطَّائِرُ الَّذِي تَنْسُبُونَ إِلَيْهِ الشُّؤْمَ هُوَ مَعَكُمْ، أَيْ فِي نُفُوسِكُمْ، أَرَادُوا أَنَّكُمْ لَوْ تَدَبَّرْتُمْ لَوَجَدْتُمْ أَنَّ سَبَبَ مَا سَمَّيْتُمُوهُ شُؤْمًا هُوَ كُفْرُكُمْ وَسُوءُ سَمْعِكُمْ لِلْمَوَاعِظِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ اتَّبَعُوهُ وَلَمْ يَعْتَدُوا عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمُ الَّذِينَ آثَرْتُمُ الْفِتْنَةَ وَأَسْعَرْتُمُ الْبَغْضَاءَ وَالْإِحَنَ فَلَا جَرَمَ أَنْتُمْ سَبَب سوء الْحَالة الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ.
وَأَشَارَ آخِرُ كَلَامِهِمْ إِلَى هَذَا إِذْ قَالُوا: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الدَّاخِلِ عَلَى إِنْ الشَّرْطِيَّةِ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَقُيَّدَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ بِالشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ أَيْضًا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ سِيبَوَيْهِ يُرَجِّحُ إِذَا اجْتَمَعَ الِاسْتِفْهَامُ وَالشَّرْطُ أَنْ يُؤْتَى بِمَا يُنَاسِبُ الِاسْتِفْهَامَ
لَوْ صُرِّحَ بِهِ، فَكَذَلِكَ لَمَّا حُذِفَ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَتَتَشَاءَمُونَ بِالتَّذْكِيرِ إِنْ ذُكِّرْتُمْ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ [يس: ١٨]، أَيْ بِكَلَامِكُمْ وَأَبْطَلُوا أَنْ يَكُونَ الشُّؤْمُ مِنْ تَذْكِيرِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أَيْ لَا طِيَرَةَ فِيمَا زَعَمْتُمْ وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ كَافِرُونَ غَشِيَتْ عُقُولَكُمُ الْأَوْهَامُ فَظَنَنْتُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ ضُرًّا لَكُمْ، وَنُطْتُمُ الْأَشْيَاءَ بِغَيْرِ أَسْبَابِهَا من إغراقكم فِي الْجَهَالَة وَالْكُفْرِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ. وَمِنْ إِسْرَافِكُمُ اعْتِقَادُكُمْ بِالشُّؤْمِ وَالْبَخْتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَاخِلَةٍ عَلَى إِنْ الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَتَشْديد الْكَاف. وقرأه أَبُو جَعْفَر أأن ذُكِّرْتُمْ بِفَتْحِ كِلْتَا الْهَمْزَتَيْنِ وَبِتَخْفِيفِ الْكَافِ مِنْ ذُكِّرْتُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ، أَيْ أَلِأَجْلِ أَنْ ذَكَرْنَا
وَلَمَّا كَانَتِ الطِّيرَةُ بِمَعْنَى الشُّؤْمِ مُشْتَقَّةً مِنِ اسْمِ الطَّيْرِ لُوحِظَ فِيهَا مَادَّةُ الِاشْتِقَاقِ.
وَقَدْ جَاءَ إِطْلَاقُ الطَّائِرِ عَلَى مَعْنَى الشُّؤْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣١] :
أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ.
وَمَعْنَى طائِرُكُمْ مَعَكُمْ الطَّائِرُ الَّذِي تَنْسُبُونَ إِلَيْهِ الشُّؤْمَ هُوَ مَعَكُمْ، أَيْ فِي نُفُوسِكُمْ، أَرَادُوا أَنَّكُمْ لَوْ تَدَبَّرْتُمْ لَوَجَدْتُمْ أَنَّ سَبَبَ مَا سَمَّيْتُمُوهُ شُؤْمًا هُوَ كُفْرُكُمْ وَسُوءُ سَمْعِكُمْ لِلْمَوَاعِظِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا أَحْسَنَ الْقَوْلِ اتَّبَعُوهُ وَلَمْ يَعْتَدُوا عَلَيْكُمْ، وَأَنْتُمُ الَّذِينَ آثَرْتُمُ الْفِتْنَةَ وَأَسْعَرْتُمُ الْبَغْضَاءَ وَالْإِحَنَ فَلَا جَرَمَ أَنْتُمْ سَبَب سوء الْحَالة الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ.
وَأَشَارَ آخِرُ كَلَامِهِمْ إِلَى هَذَا إِذْ قَالُوا: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الدَّاخِلِ عَلَى إِنْ الشَّرْطِيَّةِ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَقُيَّدَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ بِالشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ أَيْضًا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ سِيبَوَيْهِ يُرَجِّحُ إِذَا اجْتَمَعَ الِاسْتِفْهَامُ وَالشَّرْطُ أَنْ يُؤْتَى بِمَا يُنَاسِبُ الِاسْتِفْهَامَ
لَوْ صُرِّحَ بِهِ، فَكَذَلِكَ لَمَّا حُذِفَ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِلِاسْتِفْهَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَتَتَشَاءَمُونَ بِالتَّذْكِيرِ إِنْ ذُكِّرْتُمْ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ [يس: ١٨]، أَيْ بِكَلَامِكُمْ وَأَبْطَلُوا أَنْ يَكُونَ الشُّؤْمُ مِنْ تَذْكِيرِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أَيْ لَا طِيَرَةَ فِيمَا زَعَمْتُمْ وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ كَافِرُونَ غَشِيَتْ عُقُولَكُمُ الْأَوْهَامُ فَظَنَنْتُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ ضُرًّا لَكُمْ، وَنُطْتُمُ الْأَشْيَاءَ بِغَيْرِ أَسْبَابِهَا من إغراقكم فِي الْجَهَالَة وَالْكُفْرِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ. وَمِنْ إِسْرَافِكُمُ اعْتِقَادُكُمْ بِالشُّؤْمِ وَالْبَخْتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَاخِلَةٍ عَلَى إِنْ الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَتَشْديد الْكَاف. وقرأه أَبُو جَعْفَر أأن ذُكِّرْتُمْ بِفَتْحِ كِلْتَا الْهَمْزَتَيْنِ وَبِتَخْفِيفِ الْكَافِ مِنْ ذُكِّرْتُمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ، أَيْ أَلِأَجْلِ أَنْ ذَكَرْنَا
364
أَسْمَاءَكُمْ حِينَ دَعَوْنَاكُمْ حَلَّ الشُّؤْمُ بَيْنَكُمْ كِنَايَة عَن كَونهم أَهْلًا لِأَنْ تَكُونَ أَسْمَاؤُهُمْ شُؤْمًا.
وَفِي ذِكْرِ كَلِمَةِ قَوْمٌ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْإِسْرَافَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
[٢٠- ٢٥]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢٥]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)
عُطِفَ عَلَى قِصَّةِ التَّحَاوُرِ الْجَارِي بَيْنَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَالرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ لِبَيَانِ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهَّلِ الْقَرْيَةِ وَحَالِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمُ الَّذِي وَعَظَهُمْ بِمَوْعِظَةٍ بَالِغَةٍ وَهُوَ مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.
فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس: ١٣] وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس: ١٤].
وَالْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ هُنَا نَفْسُ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣] عُبِّرَ عَنْهَا هُنَا بِالْمَدِينَةِ تفننا، فَيكون أَقْصَا صِفَةً لِمَحْذُوفٍ هُوَ الْمُضَافُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ بَعِيدِ الْمَدِينَةِ، أَيْ طَرَفِ الْمَدِينَةِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ ظَهَرَ فِي أَهْلِ رَبَضِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ فِي قَلْبِ الْمَدِينَةِ
لِأَنَّ قَلْبَ الْمَدِينَةِ هُوَ مَسْكَنُ حُكَّامِهَا وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ وَهُمْ أَبْعَدُ عَنِ الِإِنْصَافِ وَالنَّظَرِ فِي صِحَّةِ مَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَعَامَّةُ سُكَّانِهَا تَبَعٌ لِعُظَمَائِهَا لِتَعَلُّقِهِمْ بِهِمْ وَخَشْيَتِهِمْ بَأْسَهُمْ بِخِلَافِ سُكَّانِ أَطْرَاف الْمَدِينَةِ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْآخَرِينَ لِأَن سكان الْأَطْرَاف غَالِبُهُمْ عَمَلَةُ أَنْفُسِهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَدْوِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَقْدِيم مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ عَلَى رَجُلٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالثَّنَاءِ
وَفِي ذِكْرِ كَلِمَةِ قَوْمٌ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْإِسْرَافَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
[٢٠- ٢٥]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢٥]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥)
عُطِفَ عَلَى قِصَّةِ التَّحَاوُرِ الْجَارِي بَيْنَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَالرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ لِبَيَانِ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهَّلِ الْقَرْيَةِ وَحَالِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمُ الَّذِي وَعَظَهُمْ بِمَوْعِظَةٍ بَالِغَةٍ وَهُوَ مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.
فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس: ١٣] وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس: ١٤].
وَالْمُرَادُ بِالْمَدِينَةِ هُنَا نَفْسُ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣] عُبِّرَ عَنْهَا هُنَا بِالْمَدِينَةِ تفننا، فَيكون أَقْصَا صِفَةً لِمَحْذُوفٍ هُوَ الْمُضَافُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ بَعِيدِ الْمَدِينَةِ، أَيْ طَرَفِ الْمَدِينَةِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ ظَهَرَ فِي أَهْلِ رَبَضِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ فِي قَلْبِ الْمَدِينَةِ
لِأَنَّ قَلْبَ الْمَدِينَةِ هُوَ مَسْكَنُ حُكَّامِهَا وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ وَهُمْ أَبْعَدُ عَنِ الِإِنْصَافِ وَالنَّظَرِ فِي صِحَّةِ مَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَعَامَّةُ سُكَّانِهَا تَبَعٌ لِعُظَمَائِهَا لِتَعَلُّقِهِمْ بِهِمْ وَخَشْيَتِهِمْ بَأْسَهُمْ بِخِلَافِ سُكَّانِ أَطْرَاف الْمَدِينَةِ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْآخَرِينَ لِأَن سكان الْأَطْرَاف غَالِبُهُمْ عَمَلَةُ أَنْفُسِهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَدْوِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَقْدِيم مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ عَلَى رَجُلٌ لِلِاهْتِمَامِ بِالثَّنَاءِ
365
عَلَى أَهْلِ أَقْصَى الْمَدِينَةِ. وَأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الْخَيْرُ فِي الْأَطْرَافِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْوَسَطِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَسْبِقُ إِلَيْهِ الضُّعَفَاءُ لِأَنَّهُمْ لَا يَصُدُّهُمْ عَنِ الْحَقِّ مَا فِيهِ أَهَّلُ السِّيَادَة من ترف وَعَظَمَةٍ إِذِ الْمُعْتَادُ أَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ وَسَطَ الْمَدِينَةِ، قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٢٠] وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى فَجَاءَ النَّظْمُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَصْلِيِّ إِذْ لَا دَاعِي إِلَى التَّقْدِيمِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ نَاصِحًا وَلَمْ يَكُنْ دَاعِيًا لِلْإِيمَانِ.
وَعَلَى هَذَا فَهَذَا الرَّجُلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَهُوَ مِمَّا امْتَازَ الْقُرْآنُ بِالْإِعْلَامِ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وُجِدَ أَنَّ اسْمَهُ حَبِيبُ بْنُ مُرَّةَ قِيلَ: كَانَ نَجَّارًا وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَشْرَفَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَدِينَةِ رَآهُمْ وَرَأَى مُعْجِزَةً لَهُمْ أَوْ كَرَامَةً فَآمَنَ. وَقِيلَ:
كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي وَصَفَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِالنَّجَّارِ أَنَّهُ هُوَ (سَمْعَانُ) الَّذِي يُدْعَى (بِالنَّيْجَرِ) الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَأَنَّ وَصْفَ النَّجَّارِ مُحَرَّفٌ عَنْ (نَيْجَر) فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَرَتْ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْمُ شَمْعُونَ الصَّفَا أَوْ سَمْعَانَ. وَلَيْسَ هَذَا الِاسْمُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ.
وَوَصْفُ الرَّجُلِ بِالسَّعْيِ يُفِيدُ أَنَّهُ جَاءَ مُسْرِعًا وَأَنَّهُ بَلَغَهُ هَمُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِرَجْمِ الرُّسُلِ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْصَحَهُمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يُفِيدُ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْرَاع إِلَى تَغْيِير الْمُنْكَرِ.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ «جَاءَ رَجُلٌ» لِأَنَّ مَجِيئَهُ لَمَّا كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ كَانَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ الْمَذْكُورُ.
وَافْتِتَاحُ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِنِدَائِهِمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِيَّةِ لَهُ قَصْدٌ مِنْهُ أَنَّ فِي كَلَامِهِ الْإِيمَاءَ إِلَى أَنَّ
مَا سَيُخَاطِبُهُمْ بِهِ هُوَ مَحْضُ نَصِيحَةٍ لِأَنَّهُ يُحِبُّ لِقَوْمِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
وَالِاتِّبَاعُ: الِامْتِثَالُ، اسْتُعِيرَ لَهُ الِاتِّبَاعُ تَشْبِيهًا لِلْأَخْذِ بِرَأْيِ غَيْرِهِ بِالْمُتَّبِعِ لَهُ فِي سَيْرِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُرْسَلِينَ لِلْعَهْدِ.
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاتَّصَلَتْ | بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا |
وَعَلَى هَذَا فَهَذَا الرَّجُلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَهُوَ مِمَّا امْتَازَ الْقُرْآنُ بِالْإِعْلَامِ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وُجِدَ أَنَّ اسْمَهُ حَبِيبُ بْنُ مُرَّةَ قِيلَ: كَانَ نَجَّارًا وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَشْرَفَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَدِينَةِ رَآهُمْ وَرَأَى مُعْجِزَةً لَهُمْ أَوْ كَرَامَةً فَآمَنَ. وَقِيلَ:
كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ قَبْلُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي وَصَفَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِالنَّجَّارِ أَنَّهُ هُوَ (سَمْعَانُ) الَّذِي يُدْعَى (بِالنَّيْجَرِ) الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ وَأَنَّ وَصْفَ النَّجَّارِ مُحَرَّفٌ عَنْ (نَيْجَر) فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي جَرَتْ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْمُ شَمْعُونَ الصَّفَا أَوْ سَمْعَانَ. وَلَيْسَ هَذَا الِاسْمُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ.
وَوَصْفُ الرَّجُلِ بِالسَّعْيِ يُفِيدُ أَنَّهُ جَاءَ مُسْرِعًا وَأَنَّهُ بَلَغَهُ هَمُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِرَجْمِ الرُّسُلِ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْصَحَهُمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يُفِيدُ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْرَاع إِلَى تَغْيِير الْمُنْكَرِ.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ «جَاءَ رَجُلٌ» لِأَنَّ مَجِيئَهُ لَمَّا كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ كَانَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ الْمَذْكُورُ.
وَافْتِتَاحُ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِنِدَائِهِمْ بِوَصْفِ الْقَوْمِيَّةِ لَهُ قَصْدٌ مِنْهُ أَنَّ فِي كَلَامِهِ الْإِيمَاءَ إِلَى أَنَّ
مَا سَيُخَاطِبُهُمْ بِهِ هُوَ مَحْضُ نَصِيحَةٍ لِأَنَّهُ يُحِبُّ لِقَوْمِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
وَالِاتِّبَاعُ: الِامْتِثَالُ، اسْتُعِيرَ لَهُ الِاتِّبَاعُ تَشْبِيهًا لِلْأَخْذِ بِرَأْيِ غَيْرِهِ بِالْمُتَّبِعِ لَهُ فِي سَيْرِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُرْسَلِينَ لِلْعَهْدِ.
366
وَجُمْلَةُ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ مَعَ زِيَادَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ اتِّبَاعِهِمْ بِلَوَائِحِ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ وَالنُّصْحِ عَلَى رِسَالَتِهِمْ إِذْ هُمْ يَدْعُونَ إِلَى هُدًى وَلَا نَفْعَ يَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَتَمَحَّضَتْ دَعْوَتُهُمْ لِقَصْدِ هِدَايَةِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ حِكْمَةٌ جَامِعَةٌ، أَيِ اتَّبِعُوا مَنْ لَا تَخْسَرُونَ مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ وَتَرْبَحُونَ صِحَّةَ دِينِكُمْ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي الصِّلَةِ عَدَمُ سُؤَالِ الْأَجْرِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ صِدْقِ الْمُرْسَلِينَ وَكَانَ مِنْ دَوَاعِي تَكْذِيبِهِمُ اتِّهَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجُرُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّعَلُّقُ بِحُبِّ الْمَالِ وَصَارُوا بُعَدَاءَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ كَانُوا يَعُدُّونَ كُلَّ سَعْيٍ يَلُوحُ عَلَى امْرِئٍ إِنَّمَا يَسْعَى بِهِ إِلَى نَفْعِهِ. فَقَدَّمَ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذِه الاسترابة وليتهيّؤوا إِلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّخْلِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْسَلِينَ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّخْلِيَةُ تُقَدَّمُ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَكَانَتْ جملَة لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أَهَمَّ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ.
وَالْأَجْرُ يَصْدُقُ بِكُلِّ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لِأَحَدٍ مِنْ عَمَلِهِ فَيَشْمَلُ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَالرِّئَاسَةَ. فَلَمَّا نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَجْرًا فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا يَرْمُونَ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لَهُمْ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ تَهَيَّأُ الْمَوْقِعُ لِجُمْلَةِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أَيْ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا يَأْتِي بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَى أَنْ تَسِيرُوا سِيرَتَهُمْ فَإِذَا كَانُوا هُمْ مُهْتَدِينَ فَإِنَّ مَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ دَعْوَةً إِلَى الْهُدَى، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَوْقِعِهَا بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا ثَنَاءً عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُتَابَعَتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ مَثَّلَ بِهَا الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاح» و «التَّلْخِيص» لِلْإِطْنَابِ الْمُسَمَّى بِالْإِيغَالِ وَهُوَ أَن يوتى بَعْدَ تَمَامِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِكَلَامٍ آخَرَ يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهِ لِنُكْتَةٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ زِيَادَةٍ بَلْ كَانَ لِتَوَقُّفِ الْمَوْعِظَةِ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً كَالتَّوْطِئَةِ لَهُ. وَنَعْتَذِرُ لِصَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» بِأَنَّ الْمِثَالَ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي الصِّلَةِ عَدَمُ سُؤَالِ الْأَجْرِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ صِدْقِ الْمُرْسَلِينَ وَكَانَ مِنْ دَوَاعِي تَكْذِيبِهِمُ اتِّهَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجُرُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمُ التَّعَلُّقُ بِحُبِّ الْمَالِ وَصَارُوا بُعَدَاءَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ كَانُوا يَعُدُّونَ كُلَّ سَعْيٍ يَلُوحُ عَلَى امْرِئٍ إِنَّمَا يَسْعَى بِهِ إِلَى نَفْعِهِ. فَقَدَّمَ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذِه الاسترابة وليتهيّؤوا إِلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّخْلِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْسَلِينَ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّخْلِيَةُ تُقَدَّمُ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَكَانَتْ جملَة لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أَهَمَّ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ.
وَالْأَجْرُ يَصْدُقُ بِكُلِّ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لِأَحَدٍ مِنْ عَمَلِهِ فَيَشْمَلُ الْمَالَ وَالْجَاهَ وَالرِّئَاسَةَ. فَلَمَّا نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا أَجْرًا فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا يَرْمُونَ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ يَحْصُلُ لَهُمْ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ تَهَيَّأُ الْمَوْقِعُ لِجُمْلَةِ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أَيْ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا يَأْتِي بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَى أَنْ تَسِيرُوا سِيرَتَهُمْ فَإِذَا كَانُوا هُمْ مُهْتَدِينَ فَإِنَّ مَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ دَعْوَةً إِلَى الْهُدَى، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَوْقِعِهَا بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا ثَنَاءً عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُتَابَعَتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ مَثَّلَ بِهَا الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاح» و «التَّلْخِيص» لِلْإِطْنَابِ الْمُسَمَّى بِالْإِيغَالِ وَهُوَ أَن يوتى بَعْدَ تَمَامِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِكَلَامٍ آخَرَ يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهِ لِنُكْتَةٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ زِيَادَةٍ بَلْ كَانَ لِتَوَقُّفِ الْمَوْعِظَةِ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ لَا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً كَالتَّوْطِئَةِ لَهُ. وَنَعْتَذِرُ لِصَاحِبِ «التَّلْخِيصِ» بِأَنَّ الْمِثَالَ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ.
367
وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنَ الصِّلَةِ فِعْلِيَّةً مَنْفِيَّةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْهُمْ سُؤَالُ أَجْرٍ فَضْلًا عَنْ دَوَامِهِ وَثَبَاتِهِ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةً لِإِفَادَةِ إِثْبَاتِ اهْتِدَائِهِمْ وَدَوَامِهِ بِحَيْثُ لَا يُخْشَى مَنْ يَتَّبِعُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ غَيْرَ مهتد.
وَقَوله: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ قَصَدَ إِشْعَارَهُمْ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْمُرْسَلِينَ وَخَلَعَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي صُورَةِ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَبِصِيغَةِ: مَا لِيَ لَا أَفْعَلُ، الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُورِدَهَا الْمُتَكَلِّمُ فِي ردّ على مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلًا، أَوْ مَلَكَهُ الْعَجَبُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ يُورِدُهَا مَنْ يُقَدِّرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ إِلَى تَصْدِيقِ الرُّسُل الَّذين جاؤوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَبَقَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَ خَبَرٌ عَنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ لَا أَعْبُدُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يَكُونُ لِي فِي حَالِ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، أَيْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُنِي مِنْ عِبَادَةِ الَّذِي خَلَقَنِي، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، إِذْ جَعَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَقْوِيَةً لِمَعْنَى التَّعَرُّضِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَهُ بِإِسْنَادِ الْخَبَرِ إِلَى نَفْسِهِ لِإِبْرَازِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُرِيدٌ مُنَاصَحَتَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُدَارِئَهُمْ فَيُسْمِعَهُمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ وَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى قَبُولِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَرَجَعَ إِلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِقَوْلِهِ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِاسْتِشْعَارِ سُؤَالٍ عَنْ وُقُوعِ الِانْتِفَاعِ بِشَفَاعَةِ تِلْكَ الْآلِهَةِ عِنْدَ الَّذِي فَطَرَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيُّ، أَيْ أُنْكِرُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، أَيْ لَا أَتَّخِذُ آلِهَةً.
وَالِاتِّخَاذٌ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ، وَالتَّنَاوُلُ يُشْعِرُ بِتَحْصِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ، فَالِاتِّخَاذُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ صُنِعَ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوْثَانَ آلِهَةً وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا يُجْعَلُ جَعْلًا وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِلَهِيَّةَ بِالذَّاتِ.
وَقَوله: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ قَصَدَ إِشْعَارَهُمْ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْمُرْسَلِينَ وَخَلَعَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي صُورَةِ اسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَبِصِيغَةِ: مَا لِيَ لَا أَفْعَلُ، الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُورِدَهَا الْمُتَكَلِّمُ فِي ردّ على مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فِعْلًا، أَوْ مَلَكَهُ الْعَجَبُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ يُورِدُهَا مَنْ يُقَدِّرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ الدَّعْوَةَ إِلَى تَصْدِيقِ الرُّسُل الَّذين جاؤوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَبَقَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَ خَبَرٌ عَنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ لَا أَعْبُدُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يَكُونُ لِي فِي حَالِ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، أَيْ لَا شَيْءَ يَمْنَعُنِي مِنْ عِبَادَةِ الَّذِي خَلَقَنِي، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، إِذْ جَعَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَقْوِيَةً لِمَعْنَى التَّعَرُّضِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَهُ بِإِسْنَادِ الْخَبَرِ إِلَى نَفْسِهِ لِإِبْرَازِهِ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُرِيدٌ مُنَاصَحَتَهُمْ لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ وَيُدَارِئَهُمْ فَيُسْمِعَهُمُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ وَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى قَبُولِهِمْ إِيَّاهُ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَرَجَعَ إِلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِقَوْلِهِ: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِاسْتِشْعَارِ سُؤَالٍ عَنْ وُقُوعِ الِانْتِفَاعِ بِشَفَاعَةِ تِلْكَ الْآلِهَةِ عِنْدَ الَّذِي فَطَرَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيُّ، أَيْ أُنْكِرُ عَلَى نَفْسِي أَنْ أَتَّخِذَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، أَيْ لَا أَتَّخِذُ آلِهَةً.
وَالِاتِّخَاذٌ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ، وَالتَّنَاوُلُ يُشْعِرُ بِتَحْصِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ، فَالِاتِّخَاذُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ صُنِعَ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوْثَانَ آلِهَةً وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ لِأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا يُجْعَلُ جَعْلًا وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْإِلَهِيَّةَ بِالذَّاتِ.
368
وَوَصَفَ الْآلِهَةَ الْمَزْعُومَةَ الْمَفْرُوضَةَ الِاتِّخَاذِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ
بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ
. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُخَاطَبِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَقَدْ عَلِمَ مِنِ انْتِفَاءِ دَفْعِهِمُ الضُّرَّ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ جَلْبِ نَفْعٍ لِأَنَّ دَوَاعِيَ دَفْعِ الضُّرِّ عَنِ الْمَوْلَى أَقْوَى وَأَهَمُّ، وَلَحَاقُ الْعَارِ بِالْوَلِيِّ فِي عَجْزِهِ عَنْهُ أَشَدُّ.
وَجَاءَ بِوَصْفِ الرَّحْمنِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ [يس: ١٥].
وَالْإِنْقَاذُ: التَّخْلِيصُ مِنْ غَلَبٍ أَوْ كَرْبٍ أَوْ حَيْرَةٍ، أَيْ لَا تَنْفَعُنِي شَفَاعَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَنِي بِضُرٍّ وَلَا يُنْقِذُونَنِي مِنَ الضُّرِّ إِذَا أَصَابَنِي.
وَإِذْ قَدْ نُفِيَ عَنْ شَفَاعَتِهِمُ النَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ فِيهِ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُشَفَّعُ لَا يَشْفَعُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: آتخذ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ مَقْبُولُو الشَّفَاعَةِ. وَإِذْ كَانَتْ شَفَاعَتُهُمْ لَا تَنْفَعُ لِعَجْزِهِمْ وَعَدَمِ مُسَاوَاتِهِمْ لِلَّهِ الَّذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ كَانَ انْتِفَاءُ أَنْ يُنْقِذُوا أَوْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعُدُولُ عَنْ دَلَالَةِ الْفَحْوَى إِلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَصْرِيحٍ لِتَعَلُّقِهِ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ أَسَاسُ الصَّلَاحِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. فَحَرْفُ إِذاً جَزَاءٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ إِنِ اتَّخَذَتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَكُنْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْغَايَةِ مِنَ الْخِطَابِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ. وَهَذَا إِعْلَانٌ لِإِيمَانِهِ وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا تِلْكَ الْأَصْنَامِ.
وَأُكِّدَ الْإِعْلَانُ بِتَفْرِيعِ فَاسْمَعُونِ اسْتِدْعَاءً لِتَحْقِيقِ أَسْمَاعِهِمْ إِنْ كَانُوا فِي غَفلَة.
بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ
. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُخَاطَبِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَقَدْ عَلِمَ مِنِ انْتِفَاءِ دَفْعِهِمُ الضُّرَّ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ جَلْبِ نَفْعٍ لِأَنَّ دَوَاعِيَ دَفْعِ الضُّرِّ عَنِ الْمَوْلَى أَقْوَى وَأَهَمُّ، وَلَحَاقُ الْعَارِ بِالْوَلِيِّ فِي عَجْزِهِ عَنْهُ أَشَدُّ.
وَجَاءَ بِوَصْفِ الرَّحْمنِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ [يس: ١٥].
وَالْإِنْقَاذُ: التَّخْلِيصُ مِنْ غَلَبٍ أَوْ كَرْبٍ أَوْ حَيْرَةٍ، أَيْ لَا تَنْفَعُنِي شَفَاعَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَنِي بِضُرٍّ وَلَا يُنْقِذُونَنِي مِنَ الضُّرِّ إِذَا أَصَابَنِي.
وَإِذْ قَدْ نُفِيَ عَنْ شَفَاعَتِهِمُ النَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ فِيهِ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُشَفَّعُ لَا يَشْفَعُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: آتخذ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ مَقْبُولُو الشَّفَاعَةِ. وَإِذْ كَانَتْ شَفَاعَتُهُمْ لَا تَنْفَعُ لِعَجْزِهِمْ وَعَدَمِ مُسَاوَاتِهِمْ لِلَّهِ الَّذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ كَانَ انْتِفَاءُ أَنْ يُنْقِذُوا أَوْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعُدُولُ عَنْ دَلَالَةِ الْفَحْوَى إِلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَصْرِيحٍ لِتَعَلُّقِهِ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ أَسَاسُ الصَّلَاحِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. فَحَرْفُ إِذاً جَزَاءٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ إِنِ اتَّخَذَتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَكُنْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْغَايَةِ مِنَ الْخِطَابِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ. وَهَذَا إِعْلَانٌ لِإِيمَانِهِ وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا تِلْكَ الْأَصْنَامِ.
وَأُكِّدَ الْإِعْلَانُ بِتَفْرِيعِ فَاسْمَعُونِ اسْتِدْعَاءً لِتَحْقِيقِ أَسْمَاعِهِمْ إِنْ كَانُوا فِي غَفلَة.
369
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يَنْتَظِرُهُ سَامِعُ الْقِصَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ وَاجَهَهُمْ بِذَلِكَ الْخِطَابِ الْجَزْلِ. وَهَلِ اهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ أَوْ أَعرضُوا عَنهُ وتركوه أَوْ آذَوْهُ كَمَا يُؤْذَى أَمْثَالُهُ مِنَ الدَّاعِينَ إِلَى الْحَقِّ الْمُخَالِفِينَ هَوَى الدَّهْمَاءِ فَيُجَابُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وَهُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِنَ الْمَقْصُودِينَ بِمَعْرِفَةِ مِثْلِ هَذَا لِيَزْدَادُوا يَقِينًا وَثَبَاتًا
فِي إِيمَانِهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَحَظُّهُمْ مِنَ الْمَثَلِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ [يس: ٢٩].
وَفِي قَوْلِهِ: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ كِنَايَةٌ عَنْ قَتْلِهِ شَهِيدًا فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ تَعْقِيبَ مَوْعِظَتِهِ بِأَمْرِهِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ دُفْعَةً بِلَا انْتِقَالٍ يُفِيدُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ أَنَّهُ مَاتَ وَأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَهُمْ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: قَتَلُوهُ رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَحْرَقُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَفَرُوا لَهُ حُفْرَةً وَرَدَمُوهُ فِيهَا حَيًّا.
وَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ قَدْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ عَقِبَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالشُّهَدَاءُ لَهُمْ مَزِيَّةَ التَّعْجِيلِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ دُخُولًا غَيْرَ مُوَسَّعٍ.
فَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ»
. وَالْقَائِلُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَقُولُ لَهُ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ ضَمِيرُ الْمَقُولِ لَهُ مَجْرُورًا بِاللَّامِ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ هُنَا قَوْلٌ تَكْوِينِيٌّ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ بَلْ يُقْصَدُ حِكَايَةُ حُصُولِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ حَصَلَ أَثَرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: ٤٠].
وَإِذْ لَمْ يَقُصَّ فِي الْمَثَلِ أَنَّهُ غَادَرَ مَقَامَهَ الَّذِي قَامَ فِيهِ بِالْمَوْعِظَةِ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَاتَ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بِأَثَرِهِ.
وَإِنَّمَا سَلَكَ فِي هَذَا الْمَعْنَى طَرِيقَ الْكِنَايَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ إِغْمَاضًا لِهَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ كَيْلَا يَسُرُّهُمْ أَنَّ قَوْمَهُ قَتَلُوهُ فَيَجْعَلُوهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا ضُرِبَ بِهِ
370
الْمَثَلُ لَهُمْ وَلِلرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَطْمَعُوا فِيهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ الْكِنَايَةُ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمُ التَّلَازُمُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، أَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَيَحْسَبُونَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ خَصَائِصُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِهَا بَعْضُ السَّامِعِينَ.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَاذَا قَالَ حِينَ غَمَرَهُ الْفَرَحُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لم يلهه دُخُوله الْجَنَّةِ عَنْ حَالِ قَوْمِهِ، فَتَمَنَّى أَنْ يَعْلَمُوا مَاذَا لَقِيَ مِنْ رَبِّهِ لِيَعْلَمُوا فَضِيلَةَ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُوا وَمَا تَمَنَّى هَلَاكَهُمْ وَلَا الشَّمَاتَةَ بِهِمْ فَكَانَ مُتَّسِمًا بِكَظْمِ الْغَيْظِ وَبِالْحِلْمِ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَالَمَ الْحَقَائِقِ لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّفْسُ إِلَّا إِلَى الصَّلَاحِ الْمَحْضِ وَلَا قِيمَةَ لِلْحُظُوظِ الدَّنِيَّةَ وَسَفْسَافِ الْأُمُورِ.
وَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ عَلَى مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يُخْبِرُونَ، لِأَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ عِلْمُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ يَعْلَمُونَ بِغُفْرَانِ رَبِّي وَجَعْلِهِ إِيَّايَ مِنَ الْمُكْرَمِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُكْرَمِينَ: الَّذِينَ تَلْحَقُهُمْ كَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَأَفْضَلُ الصَّالِحِينَ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَاذَا قَالَ حِينَ غَمَرَهُ الْفَرَحُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لم يلهه دُخُوله الْجَنَّةِ عَنْ حَالِ قَوْمِهِ، فَتَمَنَّى أَنْ يَعْلَمُوا مَاذَا لَقِيَ مِنْ رَبِّهِ لِيَعْلَمُوا فَضِيلَةَ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُوا وَمَا تَمَنَّى هَلَاكَهُمْ وَلَا الشَّمَاتَةَ بِهِمْ فَكَانَ مُتَّسِمًا بِكَظْمِ الْغَيْظِ وَبِالْحِلْمِ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَالَمَ الْحَقَائِقِ لَا تَتَوَجَّهُ فِيهِ النَّفْسُ إِلَّا إِلَى الصَّلَاحِ الْمَحْضِ وَلَا قِيمَةَ لِلْحُظُوظِ الدَّنِيَّةَ وَسَفْسَافِ الْأُمُورِ.
وَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ عَلَى مَفْعُولِ يَعْلَمُونَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يُخْبِرُونَ، لِأَنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ عِلْمُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَ (مَا) مِنْ قَوْلِهِ: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ يَعْلَمُونَ بِغُفْرَانِ رَبِّي وَجَعْلِهِ إِيَّايَ مِنَ الْمُكْرَمِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُكْرَمِينَ: الَّذِينَ تَلْحَقُهُمْ كَرَامَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَأَفْضَلُ الصَّالِحِينَ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام.
371
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)رُجُوعٌ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِذِكْرِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ نَاصِحًا لَهُمْ وَكَانَ هَذَا الرُّجُوعُ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْقَوْمَ قَوْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
فَجُمْلَةُ وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس: ٢٦] فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَشَوَّفُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ الَّذِينَ نَصَحَهُمْ فَلَمْ يَنْتَصِحُوا فَلَمَّا بَيَّنَ لِلسَّامِعِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ عُطِفَ عَلَيْهِ بَيَانُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ بَعْدَهُ.
وَافْتِتَاحُ قِصَّةِ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِنَفْيِ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِانْتِقَامِ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ أَنَّهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ إِلَّا مِثْلُ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، أَيْ لَمْ نُنْزِلْ جُنُودًا مِنَ السَّمَاءِ مَخْلُوقَةً لِقِتَالِ قَوْمِهِ، أَوْ لَمْ نُنْزِلْ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَمَا كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مِنْ مَلَكٍ وَاحِدٍ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ مَزِيدَةٌ فِي الظَّرْفِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ وَأَصْلُهَا مِنْ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَإِضَافَةُ بَعْدِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّجُلِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ شَائِعِ الْحَذْفِ، أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [الْبَقَرَة: ١٣٣].
5
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ جُنْدٍ مُؤَكِّدَةٌ لِعُمُومِ جُنْدٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَفِي الْإِتْيَانِ بِحَرْفٍ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى
مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] أَيْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ الَّذِي تَدَّعِي أَنَّهُ أَرْسَلَكَ وَمَعَهُ جُنْدُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَثْأَرَ لَكَ.
فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ نَوْعَيِ الْعِقَابِ الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ، لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَجْرِ بِإِنْزَالِ الْجُنُودِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ وَشَأْنُ الْعَاصِينَ أَدْوَنُ مِنْ هَذَا الِاهْتِمَامِ.
وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصِّيَاحِ، بِوَزْنِ فَعْلَةٍ، فَوَصْفُهُا بِوَاحِدَةٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ الْمُفْرَدُ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ، وصَيْحَةً مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانَتْ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفْرَّغِ، وَلَحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْفِعْلِ مَعَ نَصْبِ صَيْحَةً مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفَ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا صَيْحَةً واحِدَةً، أَيْ لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ إِلَّا صَيْحَةً مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ صَيْحَةً عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ، أَيْ مَا وَقَعَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَمَجِيءُ «إِذَا» الْفُجَائِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً لِإِفَادَةِ سُرْعَةِ الْخُمُودِ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الصَّيْحَةِ. وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ صَاعِقَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ ثَمُودٍ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: ٧٣].
وَالْخُمُودُ: انْطِفَاءُ النَّارِ، اسْتُعِيرَ لِلْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْمَلِيئَةِ بِالْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، لِيَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ تَشْبِيهَ حَالِ حَيَاتِهِمْ بِشُبُوبِ النَّارِ وَحَالِ مَوْتِهِمْ بِخُمُودِ النَّارِ فَحَصَلَ لِذَلِكَ اسْتِعَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا صَرِيحَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَأُخْرَى ضِمْنِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَرَمْزُهَا الْأُولَى، وَهُمَا الِاسْتِعَارَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُ لَبِيَدٍ:
الشَّمْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اللَّيْلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس:
٣٧] عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرِدٍ وَيُقَدَّرُ لَهُ خَبَرٌ مُمَاثِلٌ لِخَبَرِ اللَّيْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالشَّمْسُ آيَةٌ لَهُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَجْرِي حَالًا مِنَ الشَّمْسُ مِثْلُ جُمْلَةِ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَجْرِي خَبَرًا عَن الشَّمْسُ. وأيّاما كَانَ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] إِلْخَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: ٤٠]، وَكَانَ مُقْتَضَى
الظَّاهِرِ مِنْ كَوْنِهِ تَفْصِيلًا أَنْ لَا يُعْطَفَ فَيُقَالَ: الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ آيَةً خَاصَّةً وَهِيَ آيَةُ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
وَقُدِّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فَكَانَتْ آيَةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مُرَادًا بِهَا دَلِيلٌ آخَرَ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نِظَامُ الْفُصُولِ.
وَجُمْلَةُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يحْتَمل الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس:
٣٣] مِنْ كَوْنِهَا حَالًا أَوْ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ [يس: ٣٧] أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ وَآيَةٌ.
وَالْجَرْيُ حَقِيقَتُهُ: السّير السَّرِيع وَهُوَ لِذَوَاتِ الْأَرْجُلِ، وَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى تَنَقُّلِ الْجِسْمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ تَنَقُّلًا سَرِيعًا بِالنِّسْبَةِ لِتَنَقُّلِ أَمْثَالِ ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَسَاوَى الْحَقِيقَةَ وَأُرِيدَ بِهِ السَّيْرُ فِي مَسَافَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ جِدَّ التَّبَاعُدِ فَتَقْطَعُهَا فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَبَاعُدِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ ذَلِكَ السَّيْرِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةً إِجْمَالِيَّةً بِمَا يَحْسِبُونَ مِنَ الْوَقْتِ وَامْتِدَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمُرَاقَبَةِ أَحْوَالِهَا مِنْ خَاصَّةِ النَّاسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَرْقُبُونَ مَنَازِلَ تَنَقُّلِهَا الْمُسَمَّاةِ بِالْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْمَعْرُوفَةِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْهَيْئَةِ تَفْصِيلًا وَاسْتِدْلَالًا وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُخَاطَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا بَلَغَهُ عِلْمُهُمْ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، أَيِ الْقَرَارُ أَوْ زَمَانُهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ:
اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ.
مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] أَيْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ الَّذِي تَدَّعِي أَنَّهُ أَرْسَلَكَ وَمَعَهُ جُنْدُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَثْأَرَ لَكَ.
فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ نَوْعَيِ الْعِقَابِ الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ، لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَجْرِ بِإِنْزَالِ الْجُنُودِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ وَشَأْنُ الْعَاصِينَ أَدْوَنُ مِنْ هَذَا الِاهْتِمَامِ.
وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصِّيَاحِ، بِوَزْنِ فَعْلَةٍ، فَوَصْفُهُا بِوَاحِدَةٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ الْمُفْرَدُ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ، وصَيْحَةً مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانَتْ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفْرَّغِ، وَلَحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْفِعْلِ مَعَ نَصْبِ صَيْحَةً مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفَ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا صَيْحَةً واحِدَةً، أَيْ لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ إِلَّا صَيْحَةً مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ صَيْحَةً عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ، أَيْ مَا وَقَعَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَمَجِيءُ «إِذَا» الْفُجَائِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً لِإِفَادَةِ سُرْعَةِ الْخُمُودِ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الصَّيْحَةِ. وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ صَاعِقَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ ثَمُودٍ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: ٧٣].
وَالْخُمُودُ: انْطِفَاءُ النَّارِ، اسْتُعِيرَ لِلْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْمَلِيئَةِ بِالْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، لِيَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ تَشْبِيهَ حَالِ حَيَاتِهِمْ بِشُبُوبِ النَّارِ وَحَالِ مَوْتِهِمْ بِخُمُودِ النَّارِ فَحَصَلَ لِذَلِكَ اسْتِعَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا صَرِيحَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَأُخْرَى ضِمْنِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَرَمْزُهَا الْأُولَى، وَهُمَا الِاسْتِعَارَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُ لَبِيَدٍ:
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ | يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ |
أَمْسَى الْعِبَادُ بِشَرٍّ لَا غِيَاثَ لَهُمْ | إِلَّا الْمُهَلَّبُ بَعْدَ اللَّهِ وَالْمَطَرُ |
وَالْحَسْرَةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ مَشُوبًا بِتَلَهُّفٍ عَلَى نَفْعٍ فَائِتٍ.
7
وَحَرْفُ النِّدَاءِ هُنَا لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ عَلَى خَطَرِ مَا بَعْدَهُ لِيُصْغِيَ إِلَيْهِ السَّامِعُ وَكَثُرَ دُخُولُهُ فِي الْجُمَلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا إِنْشَاءُ مَعْنًى فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ الْإِخْبَارِ فَيَكُونُ اقْتِرَانُ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِعْلَانًا بِمَا فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ مَدْلُولِ الْإِنْشَاءِ كَقَوْلِهِمْ: يَا خَيْبَةً، وَيَا لَعْنَةً، وَيَا وَيْلِي، وَيَا فَرْحِي، وَيَا لَيْتَنِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَتِ امْرَأَة من طي مِنْ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ:
وَبَيْتُ الْكِتَابِ:
وَقَدْ يَقَعُ النِّدَاءُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالْهَمْزَةِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
وَأَصْلُ هَذَا النِّدَاءِ أَنَّهُ عَلَى تَنْزِيلِ الْمَعْنَى الْمُثِيرِ لِلْإِنْشَاءِ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ فَيَقْصِدُ اسْمَهُ بِالنِّدَاءِ لِطَلَبِ حُضُورِهِ فَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ يَقُولُ: هَذَا مَقَامُكَ فَاحْضُرْ، كَمَا يُنَادَى مَنْ يُقْصَدُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابَةِ عَمَّا لَحِقَ الْمُتَكَلِّمَ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ الْمُنَادِي ثُمَّ
كَثُرَ ذَلِكَ وَشَاعَ حَتَّى تُنُوسِيَ مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَصَارَ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَالِاهْتِمَامُ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ.
وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٣]، وَقَوله:
يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٢٨].
وَمُوقِعُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَمْثِيلٌ لِحَالِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ بِحَالِ مَنْ يَرْثِي لَهُ أَهْلُهُ وُقُوعَهُ فِي هَلَاكٍ أَرَادُوا مِنْهُ تَجَنُّبَهُ.
وَجُمْلَةُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ بَيَانٌ لِوَجْهِ التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَمَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ حَدَثَ إِيهَامٌ فِي وَجْهِ الْعُمُومِ. فَوَقَعَ بَيَانُهُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ مُسَاوُونَ لِمَنْ ضُرِبَ بِهِمُ الْمَثَلُ وَمَنْ ضُرِبَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا وَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْمَوَاعِظُ وَالنُّذُرُ الْبَالِغَةُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ وَمِنْ مُشَاهَدَةِ الْقُرُونِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
فَيَا ضَيْعَةَ الْفِتْيَانِ إِذْ يَعْتَلُونَهُ | بِبَطْنِ الشَّرَا مِثْلِ الْفَنِيقِ الْمُسَدَّمِ |
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامَ كُلَّهُمْ | وَالصَّالِحِينَ عَلَى سِمْعَانَ مِنْ جَارِ |
أُلَهْفَى بِقُرَّى سَحْبَلٍ حِينَ أَجْلَبَتْ | عَلَيْنَا الْوَلَايَا وَالْعَدُوُّ الْمُبَاسِلُ |
كَثُرَ ذَلِكَ وَشَاعَ حَتَّى تُنُوسِيَ مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالْكِنَايَةِ وَصَارَ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَالِاهْتِمَامُ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ.
وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٣]، وَقَوله:
يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٢٨].
وَمُوقِعُ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَمْثِيلٌ لِحَالِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ بِحَالِ مَنْ يَرْثِي لَهُ أَهْلُهُ وُقُوعَهُ فِي هَلَاكٍ أَرَادُوا مِنْهُ تَجَنُّبَهُ.
وَجُمْلَةُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ بَيَانٌ لِوَجْهِ التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَمَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ حَدَثَ إِيهَامٌ فِي وَجْهِ الْعُمُومِ. فَوَقَعَ بَيَانُهُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ مُسَاوُونَ لِمَنْ ضُرِبَ بِهِمُ الْمَثَلُ وَمَنْ ضُرِبَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُمَثَّلِ بِهَا وَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْمَوَاعِظُ وَالنُّذُرُ الْبَالِغَةُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ وَمِنْ مُشَاهَدَةِ الْقُرُونِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
8
الرُّسُلَ فَهَلَكُوا، فَعُلِمَ وَجْهُ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ إِجْمَالًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ تَفْصِيلًا مِنْ قَوْلِهِ بَعْدُ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا [يس:
٣١] إِلَخْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْتِيهِمْ أَيْ لَا يَأْتِيهِمْ رَسُولٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إلّا فِي حَال اسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِالرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِاسْتِفْظَاعِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ مَعَ تَأَتِّي الْفَاصِلَةَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ فَحَصَلَ مِنْهُ غَرَضَانِ مِنَ الْمَعَانِي وَمن البديع.
[٣١]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣١]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: ٣٠] لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّسُولِ كَانَتْ هَلَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَعَدَمُ اعْتِبَارِ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهَا يُثِيرُ الْحَسْرَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى نُظَرَائِهَا كَمَا أَثَارَهَا اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرَّسُولِ وَقِلَّةِ التَّبَصُّرِ فِي دَعْوَتِهِ وَنِذَارَتِهِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِ.
وَضَمِيرُ يَرَوْا عَائِدٌ إِلَى الْعِبَادِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ. وَالْمُعَادُ فِيهِ عُمُومٌ ادِّعَائِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَخُصَّ مِنْهُ أَوَّلَ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَسْبِقْ قَبْلَهُمْ هَلَاكُ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا، فَهَذَا مِنَ التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
قَبْلَهُمْ يُرْشِدُ بِالتَّأَمُّلِ إِلَى عَدَمِ شُمُولِهِ أَوَّلَ أُمَّةٍ أُرْسِلَ إِلَيْهَا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَلَمْ يَرَوْا عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا [يس: ١٣] وَيَكُونُ الْمَثَلُ قَدِ انْتَهَى بِجُمْلَةِ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ... [يس: ٣٠] الْآيَةَ.
وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تُعْطَفَ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] الْآيَةَ، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧]، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٤١]،
٣١] إِلَخْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْتِيهِمْ أَيْ لَا يَأْتِيهِمْ رَسُولٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إلّا فِي حَال اسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ لِلِاهْتِمَامِ بِالرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِاسْتِفْظَاعِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ مَعَ تَأَتِّي الْفَاصِلَةَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ فَحَصَلَ مِنْهُ غَرَضَانِ مِنَ الْمَعَانِي وَمن البديع.
[٣١]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣١]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (٣١)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: ٣٠] لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّسُولِ كَانَتْ هَلَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَعَدَمُ اعْتِبَارِ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهَا يُثِيرُ الْحَسْرَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى نُظَرَائِهَا كَمَا أَثَارَهَا اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرَّسُولِ وَقِلَّةِ التَّبَصُّرِ فِي دَعْوَتِهِ وَنِذَارَتِهِ وَدَلَائِلِ صِدْقِهِ.
وَضَمِيرُ يَرَوْا عَائِدٌ إِلَى الْعِبَادِ كَمَا يَقْتَضِيهِ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ. وَالْمُعَادُ فِيهِ عُمُومٌ ادِّعَائِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَخُصَّ مِنْهُ أَوَّلَ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَسْبِقْ قَبْلَهُمْ هَلَاكُ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا، فَهَذَا مِنَ التَّخْصِيصِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
قَبْلَهُمْ يُرْشِدُ بِالتَّأَمُّلِ إِلَى عَدَمِ شُمُولِهِ أَوَّلَ أُمَّةٍ أُرْسِلَ إِلَيْهَا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَلَمْ يَرَوْا عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا [يس: ١٣] وَيَكُونُ الْمَثَلُ قَدِ انْتَهَى بِجُمْلَةِ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ... [يس: ٣٠] الْآيَةَ.
وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تُعْطَفَ الْجُمْلَةُ عَلَى جُمْلَةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كَمَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] الْآيَةَ، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧]، وَجُمْلَةُ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٤١]،
9
وَلَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْمُعَادِ، وَقَدْ عَلِمْتَ تَوْجِيهَ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ لِتَصْحِيحِ الْعُمُومِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا نَزَلَتْ غَفْلَتُهُمْ عَنْ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرِيًّا بُنِيَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ الْعلم بإهلاك الْقُرْآن اسْتِقْصَاءً لِمَعْذِرَتِهِمْ حَتَّى لَا يَسَعَهُمْ إِلَّا الْإِقْرَار بِأَنَّهُم عالمون فَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ أَشَدَّ لُزُومًا لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا عَلَى النَّفْيِ فَكَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَنْفُوا ذَلِكَ.
وَالرُّؤْيَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ عِلْمِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بَصَرِيَّةً لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْقُرُونِ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا لِأُمَّةٍ جَاءَتْ بَعْدَ الْأُمَّةِ الَّتِي أُهْلِكَتْ قَبْلَهَا. وَفَعَلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُرُودِ كَمْ لِأَنَّ كَمْ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ سَوَاءً كَانَتِ اسْتِفْهَامًا أَمْ خَبَرًا، فَإِنَّ كَمْ الْخَبَرِيَّةَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَمَا لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ.
وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ أَهْلَكْنا: وَمُفَادُهَا كَثْرَةٌ مُبْهَمَةٌ فُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ وَوَقَعَتْ كَمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِقَوْلِهِ: أَهْلَكْنا.
وقَبْلَهُمْ ظَرْفٌ لِ أَهْلَكْنا وَمَعْنَى قَبْلَهُمْ: قَبْلَ وُجُودِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلَكْنا لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ أُبَدِلَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَمَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْنَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَثْرَة الإهلاك أَو كَثْرَةُ الْمُهْلَكِينَ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ عَامِلٌ فِي أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بِالتَّبَعِيَّةِ لِتَسَلُّطِ مَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ يُبْطِلُ الْعَمَلَ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَحَلِّ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ تَقْرِيرُ تَصْوِيرِ الْإِهْلَاكِ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ، وَلِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْإِهْلَاكِ أَيْ إِهْلَاكًا لَا طماعية مَعَه لرجوع إِلَى الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْإِهْلَاكُ مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ مِمَّا يَزِيدُ الْحَسْرَةَ اتِّضَاحًا.
وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا نَزَلَتْ غَفْلَتُهُمْ عَنْ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرِيًّا بُنِيَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ الْعلم بإهلاك الْقُرْآن اسْتِقْصَاءً لِمَعْذِرَتِهِمْ حَتَّى لَا يَسَعَهُمْ إِلَّا الْإِقْرَار بِأَنَّهُم عالمون فَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ أَشَدَّ لُزُومًا لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا عَلَى النَّفْيِ فَكَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَنْفُوا ذَلِكَ.
وَالرُّؤْيَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ عِلْمِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بَصَرِيَّةً لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْقُرُونِ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا لِأُمَّةٍ جَاءَتْ بَعْدَ الْأُمَّةِ الَّتِي أُهْلِكَتْ قَبْلَهَا. وَفَعَلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُرُودِ كَمْ لِأَنَّ كَمْ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ سَوَاءً كَانَتِ اسْتِفْهَامًا أَمْ خَبَرًا، فَإِنَّ كَمْ الْخَبَرِيَّةَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَمَا لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ.
وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ أَهْلَكْنا: وَمُفَادُهَا كَثْرَةٌ مُبْهَمَةٌ فُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ وَوَقَعَتْ كَمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِقَوْلِهِ: أَهْلَكْنا.
وقَبْلَهُمْ ظَرْفٌ لِ أَهْلَكْنا وَمَعْنَى قَبْلَهُمْ: قَبْلَ وُجُودِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلَكْنا لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ أُبَدِلَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَمَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْنَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَثْرَة الإهلاك أَو كَثْرَةُ الْمُهْلَكِينَ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ عَامِلٌ فِي أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بِالتَّبَعِيَّةِ لِتَسَلُّطِ مَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ يُبْطِلُ الْعَمَلَ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَحَلِّ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ تَقْرِيرُ تَصْوِيرِ الْإِهْلَاكِ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ، وَلِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْإِهْلَاكِ أَيْ إِهْلَاكًا لَا طماعية مَعَه لرجوع إِلَى الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْإِهْلَاكُ مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ مِمَّا يَزِيدُ الْحَسْرَةَ اتِّضَاحًا.
10
وَ (إِلَيْهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِ يَرْجِعُونَ وتقديمه على مُتَعَلِّقِهِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِد إِلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠]، وَضَمِيرُ أَنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقُرُونِ.
[٣٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٢]
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
أَرَى أَنَّ عَطْفَهُ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ [يس: ٣١] وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ مِنْ تَوَهُّمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ مُؤَيِّدٌ اعْتِقَادَهُمُ انْتِفَاءَ الْبَعْثِ.
وإِنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالْأَفْصَحُ إِهْمَالُهَا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقْتَرِنَ خبر الِاسْم بعْدهَا بِلَامٍ تُسَمَّى اللَّامَ الْفَارِقَةَ لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ إِنْ النَّافِيَةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ الْخَبَرُ الْمُؤَكَّدُ بِالْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ فَيُنَاقِضَ مَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَمَّا مُخَفَّفُ الْمِيمِ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا جَمِيعٌ بتَخْفِيف مِيم لَمَّا، فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ اللَّام الفارقة و (مَا) الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْ نَافِيَةً بِمَعْنَى (لَا) وَيَكُونُ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى (إِلَّا) تَقَعُ بَعْدَ النَّفْيِ وَنَحْوِهِ كَالْقَسَمِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كُلُّهُمْ إِلَّا مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا.
وكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَتَنْوِينُهُ تَنْوِينُ الْعِوَضِ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ (كُلٌّ)، أَيْ كُلُّ الْقُرُونِ، أَوْ كُلُّ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْقُرُونِ وَالْمُخَاطَبِينَ.
وجَمِيعٌ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، أَيْ مَجْمُوعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَفَرِّقِ. يُقَالُ: جَمْعُ أَشْيَاءَ كَذَا، إِذَا جَعَلَهَا مُتَقَارِبَةً مُتَّصِلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُشَتَّتَةً وَمُتَبَاعِدَةً.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ الْقُرُونِ مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا مُجْتَمِعِينَ، أَيْ لَيْسَ إِحْضَارُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا فِي أَمْكِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَكَلِمَةُ كُلٌّ أَفَادَتْ أَنَّ الْإِحْضَارَ مُحِيطٌ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَكَلِمَةُ جَمِيعٌ أَفَادَتْ أَنَّهُمْ مُحْضَرُونَ مُجْتَمِعِينَ فَلَيْسَتْ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ بِمُغْنِيَّةٍ عَنْ ذِكْرِ الْأُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمَّا
وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِد إِلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠]، وَضَمِيرُ أَنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقُرُونِ.
[٣٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٢]
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
أَرَى أَنَّ عَطْفَهُ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ [يس: ٣١] وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ مِنْ تَوَهُّمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ مُؤَيِّدٌ اعْتِقَادَهُمُ انْتِفَاءَ الْبَعْثِ.
وإِنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالْأَفْصَحُ إِهْمَالُهَا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقْتَرِنَ خبر الِاسْم بعْدهَا بِلَامٍ تُسَمَّى اللَّامَ الْفَارِقَةَ لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ إِنْ النَّافِيَةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ الْخَبَرُ الْمُؤَكَّدُ بِالْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ فَيُنَاقِضَ مَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَمَّا مُخَفَّفُ الْمِيمِ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا جَمِيعٌ بتَخْفِيف مِيم لَمَّا، فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ اللَّام الفارقة و (مَا) الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْ نَافِيَةً بِمَعْنَى (لَا) وَيَكُونُ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى (إِلَّا) تَقَعُ بَعْدَ النَّفْيِ وَنَحْوِهِ كَالْقَسَمِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كُلُّهُمْ إِلَّا مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا.
وكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَتَنْوِينُهُ تَنْوِينُ الْعِوَضِ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ (كُلٌّ)، أَيْ كُلُّ الْقُرُونِ، أَوْ كُلُّ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْقُرُونِ وَالْمُخَاطَبِينَ.
وجَمِيعٌ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، أَيْ مَجْمُوعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَفَرِّقِ. يُقَالُ: جَمْعُ أَشْيَاءَ كَذَا، إِذَا جَعَلَهَا مُتَقَارِبَةً مُتَّصِلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُشَتَّتَةً وَمُتَبَاعِدَةً.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ الْقُرُونِ مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا مُجْتَمِعِينَ، أَيْ لَيْسَ إِحْضَارُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا فِي أَمْكِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَكَلِمَةُ كُلٌّ أَفَادَتْ أَنَّ الْإِحْضَارَ مُحِيطٌ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَكَلِمَةُ جَمِيعٌ أَفَادَتْ أَنَّهُمْ مُحْضَرُونَ مُجْتَمِعِينَ فَلَيْسَتْ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ بِمُغْنِيَّةٍ عَنْ ذِكْرِ الْأُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ، لَمَّا كَانَ تَنَافٍ بَيْنَ «أَكْثَرِهِمْ» وَبَيْنَ «جَمِيعِهِمْ» أَيْ أَكْثَرُهُمْ يَحْضُرُ مُجْتَمِعِينَ فَارْتَفَعَ جَمِيعٌ عَلَى الخبرية فِي قراءات تَخْفِيفِ لَمَّا وَعَلَى الِاسْتِثْنَاء على قراءات تَشْدِيدِ لَمَّا. ومُحْضَرُونَ نَعَتٌ لِ جَمِيعٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَرُوعِيَ فِي النَّعْتِ مَعْنَى الْمَنْعُوتِ فَأُلْحِقَتْ بِهِ عَلَامَةُ الْجَمَاعَةِ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
وَالْإِحْضَارُ: الْإِحْضَارُ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاء وَالْعِقَاب.
[٣٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٣]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣)
عُطِفَ عَلَى قِصَّةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣] فَإِنَّهُ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا لِحَالِ إِعْرَاضِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَالُ مِنْ إِشْرَاكٍ وَإِنْكَارٍ لِلْبَعْثِ وَأَذًى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاقِبَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ أعقب ذَلِك بالتفصيل لِإِبْطَالِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.
وَابْتُدِئَ بِدَلَالَةِ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ لِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢] عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَخْلُو مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ، وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ.
ووَ آيَةٌ مُبْتَدَأٌ ولَهُمُ صِفَةُ آيَةٌ، والْأَرْضُ خَبَرُ آيَةٌ، والْمَيْتَةُ صِفَةُ الْأَرْضُ. وَجُمْلَةُ أَحْيَيْناها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَرْضُ وَهِيَ حَالٌ مُقَيَّدَةٌ لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ هُوَ منَاط الدّلَالَة عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ يَكُونُ جُمْلَةُ أَحْيَيْناها بَيَانًا لِجُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ لِبَيَانِ مَوْقِعَ الْآيَةِ فِيهَا، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ، أَوِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: كَيْفَ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمَيِّتَةُ؟
مُحْضَرُونَ، لَمَّا كَانَ تَنَافٍ بَيْنَ «أَكْثَرِهِمْ» وَبَيْنَ «جَمِيعِهِمْ» أَيْ أَكْثَرُهُمْ يَحْضُرُ مُجْتَمِعِينَ فَارْتَفَعَ جَمِيعٌ عَلَى الخبرية فِي قراءات تَخْفِيفِ لَمَّا وَعَلَى الِاسْتِثْنَاء على قراءات تَشْدِيدِ لَمَّا. ومُحْضَرُونَ نَعَتٌ لِ جَمِيعٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَرُوعِيَ فِي النَّعْتِ مَعْنَى الْمَنْعُوتِ فَأُلْحِقَتْ بِهِ عَلَامَةُ الْجَمَاعَةِ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا | مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثُمَامُهَا |
[٣٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٣]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣)
عُطِفَ عَلَى قِصَّةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣] فَإِنَّهُ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا لِحَالِ إِعْرَاضِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَالُ مِنْ إِشْرَاكٍ وَإِنْكَارٍ لِلْبَعْثِ وَأَذًى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاقِبَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ أعقب ذَلِك بالتفصيل لِإِبْطَالِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.
وَابْتُدِئَ بِدَلَالَةِ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ لِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢] عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَخْلُو مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ، وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ.
ووَ آيَةٌ مُبْتَدَأٌ ولَهُمُ صِفَةُ آيَةٌ، والْأَرْضُ خَبَرُ آيَةٌ، والْمَيْتَةُ صِفَةُ الْأَرْضُ. وَجُمْلَةُ أَحْيَيْناها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَرْضُ وَهِيَ حَالٌ مُقَيَّدَةٌ لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ هُوَ منَاط الدّلَالَة عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ يَكُونُ جُمْلَةُ أَحْيَيْناها بَيَانًا لِجُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ لِبَيَانِ مَوْقِعَ الْآيَةِ فِيهَا، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ، أَوِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: كَيْفَ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمَيِّتَةُ؟
وَمَوْتُ الْأَرْضِ: جَفَافُهَا وَجَرَازَتُهَا لِخُلُوِّهَا مِنْ حَيَاةِ النَّبَاتِ فِيهَا، وَإِحْيَاؤُهَا: خُرُوجُ النَّبَاتِ مِنْهَا مِنَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَالزَّرْعِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَيِّتَةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَالْحَبُّ: اسْمُ جَمْعِ حَبَّةٍ، وَهُوَ بَزْرَةُ النَّبْتِ مِثْلُ الْبُرَّةِ وَالشَّعِيرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦١].
وَإِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنَ الْأَرْضِ: هُوَ إِخْرَاجُهُ مِنْ نَبَاتِهَا فَهُوَ جَاءَ مِنْهَا بِوَاسِطَةٍ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَتَقْدِيم فَمِنْهُ عَلَى يَأْكُلُونَ لِلِاهْتِمَامِ تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ ولرعاية الفاصلة.
[٣٤، ٣٥]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٣٤ إِلَى ٣٥]
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥)
هَذَا مِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِإِنْبَاتِ الْأَشْجَارِ ذَاتِ الثِّمَارِ، وَهُوَ إِحْيَاءٌ أَعْجَبُ وَأَبْقَى وَإِنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ بِإِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَالْكَلَأِ أَوْضَحَ دَلَالَةً لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحُصُولِ.
وَتقدم ذكر جَنَّاتٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [٤].
وَتَفْجِيرُ الْعُيُونِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٤].
وَالثَّمَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمَّتَيْنِ: مَا يَغُلُّهُ النَّخْلُ وَالْأَعْنَابُ مِنْ أَصْنَافِ الثَّمَرِ وَأَصْنَافِ الْعِنَبِ وَالثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُبِّ لِلسُّنْبُلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَرِهِ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمَّتَيْنِ. وَالنَّخِيلُ: اسْمُ جَمْعِ نَخْلٍ.
وَالْأَعْنَابُ جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَعَلَى ثَمَرِهَا. وَجَمْعُ النَّخِيلِ
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَيِّتَةُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَالْحَبُّ: اسْمُ جَمْعِ حَبَّةٍ، وَهُوَ بَزْرَةُ النَّبْتِ مِثْلُ الْبُرَّةِ وَالشَّعِيرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦١].
وَإِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنَ الْأَرْضِ: هُوَ إِخْرَاجُهُ مِنْ نَبَاتِهَا فَهُوَ جَاءَ مِنْهَا بِوَاسِطَةٍ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَتَقْدِيم فَمِنْهُ عَلَى يَأْكُلُونَ لِلِاهْتِمَامِ تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ ولرعاية الفاصلة.
[٣٤، ٣٥]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٣٤ إِلَى ٣٥]
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥)
هَذَا مِنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِإِنْبَاتِ الْأَشْجَارِ ذَاتِ الثِّمَارِ، وَهُوَ إِحْيَاءٌ أَعْجَبُ وَأَبْقَى وَإِنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ بِإِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَالْكَلَأِ أَوْضَحَ دَلَالَةً لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحُصُولِ.
وَتقدم ذكر جَنَّاتٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [٤].
وَتَفْجِيرُ الْعُيُونِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٤].
وَالثَّمَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمَّتَيْنِ: مَا يَغُلُّهُ النَّخْلُ وَالْأَعْنَابُ مِنْ أَصْنَافِ الثَّمَرِ وَأَصْنَافِ الْعِنَبِ وَالثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُبِّ لِلسُّنْبُلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثَمَرِهِ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمَّتَيْنِ. وَالنَّخِيلُ: اسْمُ جَمْعِ نَخْلٍ.
وَالْأَعْنَابُ جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَعَلَى ثَمَرِهَا. وَجَمْعُ النَّخِيلِ
13
وَالْأَعْنَابِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْنَافِ شَجَرِهِ الْمُثْمِرِ أَصْنَافًا مِنْ ثَمَرِهِ.
وَضَمِيرُ مِنْ ثَمَرِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا قُلْتَ: كَأَنَّهَا؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِكَ وَيْلَكَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٨].
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى النَّخِيلِ وَتُتْرَكُ الْأَعْنَابُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا مِثْلُ النَّخِيلِ. كَقَوْلِ الْأَزْرَقِ بْنِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَمُودِ الْقَرَاطِيِّ (١) الْبَاهِلِيِّ:
فَلَمْ يَقُلْ: بَرِيئَيْنِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ وَالِدَهُ مِثْلُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَوْصُولَةً مَعْطُوفَةً عَلَى ثَمَرِهِ، أَيْ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَر مَا أخرجناه وَمن ثَمَرِ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِلْإِرْشَادِ إِلَى إِقَامَةِ الْجَنَّاتِ بِالْخِدْمَةِ وَالسَّقْيِ وَالتَّعَهُّدِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْفَرَ لِأَغْلَالِهَا. وَضَمِيرُ عَمِلَتْهُ عَلَى هَذَا عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَيجوز أَن يكون مَا نَافِيَةً وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُقُوهُ. وَهَذَا أَوْفَرُ فِي الِامْتِنَانِ وَأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما عَمِلَتْهُ بِإِثْبَاتِ هَاءِ الضَّمِيرِ عَائِدًا إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ وَما عَمِلَتْ بِدُونِ هَاءٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ وَهُوَ جَارٍ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا.
_________
(١) كَذَا فِي نُسْخَة «تَفْسِير ابْن عَطِيَّة»، وَلم أَقف على معنى هَذِه النِّسْبَة.
(٢) نازعه نَاس من قُشَيْر فِي بِئْر لَدَى الْحَاكِم فَقَالَ الْقشيرِي للأزرق: هُوَ لص ابْن لص ليغري بِهِ الْحَاكِم، وَنسب بَعضهم هَذَا إِلَى الْبَيْت للفرزدق، وَلَا يَصح.
وَضَمِيرُ مِنْ ثَمَرِهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ مِنْ ثَمَرِ مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ | كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعَ الْبَهَقْ |
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٨].
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى النَّخِيلِ وَتُتْرَكُ الْأَعْنَابُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا مِثْلُ النَّخِيلِ. كَقَوْلِ الْأَزْرَقِ بْنِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَمُودِ الْقَرَاطِيِّ (١) الْبَاهِلِيِّ:
رَمَانِي بِذَنْبٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي | بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَّانِي (٢) |
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ مَوْصُولَةً مَعْطُوفَةً عَلَى ثَمَرِهِ، أَيْ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَر مَا أخرجناه وَمن ثَمَرِ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِلْإِرْشَادِ إِلَى إِقَامَةِ الْجَنَّاتِ بِالْخِدْمَةِ وَالسَّقْيِ وَالتَّعَهُّدِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْفَرَ لِأَغْلَالِهَا. وَضَمِيرُ عَمِلَتْهُ عَلَى هَذَا عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ. وَيجوز أَن يكون مَا نَافِيَةً وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُقُوهُ. وَهَذَا أَوْفَرُ فِي الِامْتِنَانِ وَأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَما عَمِلَتْهُ بِإِثْبَاتِ هَاءِ الضَّمِيرِ عَائِدًا إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ وَما عَمِلَتْ بِدُونِ هَاءٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ وَهُوَ جَارٍ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا.
_________
(١) كَذَا فِي نُسْخَة «تَفْسِير ابْن عَطِيَّة»، وَلم أَقف على معنى هَذِه النِّسْبَة.
(٢) نازعه نَاس من قُشَيْر فِي بِئْر لَدَى الْحَاكِم فَقَالَ الْقشيرِي للأزرق: هُوَ لص ابْن لص ليغري بِهِ الْحَاكِم، وَنسب بَعضهم هَذَا إِلَى الْبَيْت للفرزدق، وَلَا يَصح.
14
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَكِلَا الْحَذْفَيْنِ شَائِعٌ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ لِعَدَمِ شُكْرِهِمْ بِأَنِ اتَّخَذُوا لِلَّذِي أَوْجَدَ هَذَا الصُّنْعَ الْعَجِيبَ أَنْدَادًا. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ مُبَالغَة فِي إِنْكَار كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُكَرَّرُوا شُكْرُهُ فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاك بِهِ.
[٣٦]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٦]
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: ٣٣] وَجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس:
٣٧]، أَثَارَهُ ذِكْرُ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجِ الْحَبِّ وَالشَّجَرِ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْوَالًا وَإِبْدَاعًا عَجِيبًا يُذَكِّرُ بِتَعْظِيمِ مُودِعِ تِلْكَ الصَّنَائِعِ بِحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ تَضَمَّنَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وسُبْحانَ هُنَا لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَأَعْظَمُهُ الْإِشْرَاكُ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَإِجْرَاءُ الْمَوْصُولِ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ إِنْشَاءِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَدْ مَضَّى الْكَلَامُ عَلَى سُبْحَانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
والْأَزْواجَ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُطْلَقُ
الزَّوْجُ عَلَى مَعْنَى الصِّنْفِ الْمُتَمَيِّزِ بخواصه من نوع الْمَوْجُودَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِصِنْفِ الذَّكَرِ وَصِنْفِ الْأُنْثَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه [٥٣]، وَالْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْكَثِيرُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُهُ نَقْلُ اللَّفْظِ مِنَ الزَّوْجِ الَّذِي يَكُونُ ثَانِيًا لِآخَرَ، فَيَجُوزُ أَن يحمل للأزواج فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيَكُونَ تَذْكِيرًا بِخَلْقِ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَتَكُونَ مِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ خَلَقَ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ لِعَدَمِ شُكْرِهِمْ بِأَنِ اتَّخَذُوا لِلَّذِي أَوْجَدَ هَذَا الصُّنْعَ الْعَجِيبَ أَنْدَادًا. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ مُبَالغَة فِي إِنْكَار كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُكَرَّرُوا شُكْرُهُ فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاك بِهِ.
[٣٦]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٦]
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: ٣٣] وَجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس:
٣٧]، أَثَارَهُ ذِكْرُ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجِ الْحَبِّ وَالشَّجَرِ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْوَالًا وَإِبْدَاعًا عَجِيبًا يُذَكِّرُ بِتَعْظِيمِ مُودِعِ تِلْكَ الصَّنَائِعِ بِحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ تَضَمَّنَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وسُبْحانَ هُنَا لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَأَعْظَمُهُ الْإِشْرَاكُ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَإِجْرَاءُ الْمَوْصُولِ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ إِنْشَاءِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَدْ مَضَّى الْكَلَامُ عَلَى سُبْحَانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
والْأَزْواجَ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُطْلَقُ
الزَّوْجُ عَلَى مَعْنَى الصِّنْفِ الْمُتَمَيِّزِ بخواصه من نوع الْمَوْجُودَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِصِنْفِ الذَّكَرِ وَصِنْفِ الْأُنْثَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه [٥٣]، وَالْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْكَثِيرُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُهُ نَقْلُ اللَّفْظِ مِنَ الزَّوْجِ الَّذِي يَكُونُ ثَانِيًا لِآخَرَ، فَيَجُوزُ أَن يحمل للأزواج فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيَكُونَ تَذْكِيرًا بِخَلْقِ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَتَكُونَ مِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ خَلَقَ.
15
وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِذَكَرِ آيَةٍ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، فَخَلْقُ الْحَيَوَانِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَى لِتَنَاسُلِهِ وَحِمَايَةِ نَوْعِهِ وَإِنْتَاجِ مَنَافِعِهِ، هُوَ أَدَقُّ الْخَلْقِ صُنْعًا وَأَعْمَقُهُ حِكْمَةً، وَأَدْخَلُهُ فِي الْمِنَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِأَنْ جُعِلَتْ مَنَافِعُ الْحَيَوَانِ لَهُ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ الْآخَرِ بِقَرْنِهِ بِالتَّسْبِيحِ لِخَالِقِهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ وَتَفَنُّنًا فِي سَرْدِ أَعْظَمِ الْمَوَالِيدِ الناشئة عَن إِيدَاع قُوَّةِ الْحَيَاةِ لِلْأَرْضِ وَانْبِثَاقِ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ وَأَصْنَافِهَا مِنْهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنْ مَبَادِئِ التَّخَلُّقِ لِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ فِي تَكْوِينِ مَوَادِّ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنَ النُّطَفِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَتَتَوَلَّدُ النُّطَفُ مِنْ قُوَى الْأَغْذِيَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَنَاوُلِ النَّبَاتِ فَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ وَمِمَّا يَتَكَوَّنُ فِيهِمْ مِنْ أَجْزَائِهِمُ الْحَيَوَانِيَّةِ.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ بِالْعِبْرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ.
وَإِشَارَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ إِلَى أَسْرَارٍ مُودَعَةٍ فِي خَلْقِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَأَصْنَافِهِ هِيَ الَّتِي مَيَّزَتْ أَنْوَاعَهُ عَنْ بَعْضٍ وَمَيَّزَتْ أَصْنَافَهُ وَذُكُورَهُ عَنْ إِنَاثِهِ، وَأَوْدَعَتْ فِيهِ الرُّوحَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عَنِ النَّبَات بتدبير شؤونه عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِ كُلِّ نَوْعٍ وَكُلِّ صِنْفٍ حَتَّى يَبْلُغَ فِي الِارْتِقَاءِ إِلَى أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ، فَمَعْنَى وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ: مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ تَفْصِيلًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَشْعُرُونَ بِهِ إِجْمَالًا، فَإِنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْرَارًا خَفِيَّةً لَمْ تَصِلْ أَفْهَامُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الرُّوحُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٨٥].
وَقَدْ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي إِدْرَاكِ بَعْضِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِبَعْضِهَا، وَقَدْ يَمْتَازُ بَعْضُ الطَّوَائِفِ أَوِ الْأَجْيَالِ بِمَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقَ الْخَلْقِ بِسَبَبِ اكْتِشَافٍ أَوْ تجربة أَو تقضي آثَارٍ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا غَيْرُ أُولَئِكَ ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِيمَا بَقِيَ
تَحْتَ طَيِّ الْخَفَاءِ مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ، فَبِهَذَا الشُّعُورِ الْإِجْمَالِيِّ بِهَا وَقَعَ عَدُّهَا فِي ضِمْنِ الِاعْتِبَارِ بِآيَةِ خَلْقِ الْأَزْوَاجِ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي.
وَإِذَا حُمِلَ الْأَزْواجَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها عَلَى الْمَعْنَى
وَجِيءَ بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ بِالْعِبْرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ.
وَإِشَارَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ إِلَى أَسْرَارٍ مُودَعَةٍ فِي خَلْقِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَأَصْنَافِهِ هِيَ الَّتِي مَيَّزَتْ أَنْوَاعَهُ عَنْ بَعْضٍ وَمَيَّزَتْ أَصْنَافَهُ وَذُكُورَهُ عَنْ إِنَاثِهِ، وَأَوْدَعَتْ فِيهِ الرُّوحَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عَنِ النَّبَات بتدبير شؤونه عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِ كُلِّ نَوْعٍ وَكُلِّ صِنْفٍ حَتَّى يَبْلُغَ فِي الِارْتِقَاءِ إِلَى أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ، فَمَعْنَى وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ: مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ تَفْصِيلًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَشْعُرُونَ بِهِ إِجْمَالًا، فَإِنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْرَارًا خَفِيَّةً لَمْ تَصِلْ أَفْهَامُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الرُّوحُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٨٥].
وَقَدْ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي إِدْرَاكِ بَعْضِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِبَعْضِهَا، وَقَدْ يَمْتَازُ بَعْضُ الطَّوَائِفِ أَوِ الْأَجْيَالِ بِمَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقَ الْخَلْقِ بِسَبَبِ اكْتِشَافٍ أَوْ تجربة أَو تقضي آثَارٍ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا غَيْرُ أُولَئِكَ ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِيمَا بَقِيَ
تَحْتَ طَيِّ الْخَفَاءِ مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ، فَبِهَذَا الشُّعُورِ الْإِجْمَالِيِّ بِهَا وَقَعَ عَدُّهَا فِي ضِمْنِ الِاعْتِبَارِ بِآيَةِ خَلْقِ الْأَزْوَاجِ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي.
وَإِذَا حُمِلَ الْأَزْواجَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها عَلَى الْمَعْنَى
16
الثَّانِي لِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأَصْنَاف والأنواع المتمايزة كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: ٥٣] كَانَتْ مِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بَيَانِيَّةً، وَالْمَجْرُورُ بِهَا فِي فَحْوَى عَطْفِ الْبَيَانِ، أَوْ بَدَلِ مُفَصَّلٍ من مُجمل مِنْ قَوْلِهِ: الْأَزْواجَ وَالْمَعْنَى:
الْأَزْوَاجُ كُلُّهَا الَّتِي هِيَ: مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَأَنْفُسُهُمْ، وَمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَعْلَمُونَ، وَذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ.
فَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ لِأَنَّ بِهَا قِوَامَ مَعَاشِ النَّاسِ وَمَعَاشِ أَنْعَامِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَأَصْنَافِ أَنْفُسِ النَّاسِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَقْوَى، قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١]. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَمَا لَا يَعْلَمُونَهُ فِي مُخْتَلَفِ الْأَقْطَارِ وَالْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ النَّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِالْأَهَمِّيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢].
وَتَكْرِيرُ حَرْفِ مِنْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِلتَّوْكِيدِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ.
وَضَمِيرُ أَنْفُسِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْعِبادِ فِي قَوْلِهِ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠].
وَالْمُرَادُ بِهِمُ: المكذبون للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٣٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٧]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
انْتِقَالٌ إِلَى دَلَالَةِ مظَاهر العوالم العلوية عَلَى دَقِيق نظام الْخَالِق فِيهَا مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ مَعَ التَّبَصُّرِ. وَابْتُدِئَ مِنْهَا بِنِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِتَكَرُّرِ وُقُوعِهِ أَمَامَ الْمُشَاهَدَةِ لِكُلِّ رَاءٍ. وَجُمْلَةُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ تَحْتَمِلُ جَمِيعَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] آنِفًا.
وَالسَّلْخُ: إِزَالَةُ الْجِلْدِ عَنْ حَيَوَانِهِ، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْجِلْدِ الْمُزَالِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْجِلْدِ الْمُزَالِ مِنْ جِسْمِ الْحَيَوَانِ: سِلْخٌ (بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ) بِمَعْنَى مَسْلُوخٍ، وَلَا يُقَالُ لِلْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ: سِلْخٌ. وَيَتَعَدَّى فِعْلُ سَلَخَ إِلَى الْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ (مِنْ)
الْأَزْوَاجُ كُلُّهَا الَّتِي هِيَ: مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَأَنْفُسُهُمْ، وَمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَعْلَمُونَ، وَذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ.
فَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ لِأَنَّ بِهَا قِوَامَ مَعَاشِ النَّاسِ وَمَعَاشِ أَنْعَامِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَأَصْنَافِ أَنْفُسِ النَّاسِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَقْوَى، قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١]. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَمَا لَا يَعْلَمُونَهُ فِي مُخْتَلَفِ الْأَقْطَارِ وَالْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ النَّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِالْأَهَمِّيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢].
وَتَكْرِيرُ حَرْفِ مِنْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِلتَّوْكِيدِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ.
وَضَمِيرُ أَنْفُسِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْعِبادِ فِي قَوْلِهِ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠].
وَالْمُرَادُ بِهِمُ: المكذبون للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٣٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٧]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
انْتِقَالٌ إِلَى دَلَالَةِ مظَاهر العوالم العلوية عَلَى دَقِيق نظام الْخَالِق فِيهَا مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ مَعَ التَّبَصُّرِ. وَابْتُدِئَ مِنْهَا بِنِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِتَكَرُّرِ وُقُوعِهِ أَمَامَ الْمُشَاهَدَةِ لِكُلِّ رَاءٍ. وَجُمْلَةُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ تَحْتَمِلُ جَمِيعَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] آنِفًا.
وَالسَّلْخُ: إِزَالَةُ الْجِلْدِ عَنْ حَيَوَانِهِ، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْجِلْدِ الْمُزَالِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْجِلْدِ الْمُزَالِ مِنْ جِسْمِ الْحَيَوَانِ: سِلْخٌ (بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ) بِمَعْنَى مَسْلُوخٍ، وَلَا يُقَالُ لِلْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ: سِلْخٌ. وَيَتَعَدَّى فِعْلُ سَلَخَ إِلَى الْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ (مِنْ)
17
الِابْتِدَائِيَّةِ، وَيَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَنْ) أَيْضًا لِمَا فِي السَّلْخِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَاعَدَةِ وَالْمُجَاوَزَةِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ. فَمَفْعُولُ نَسْلَخُ هُنَا هُوَ
النَّهارَ بِلَا رَيْبٍ، وَعُدِّيَ السَّلْخُ إِلَى ضَمِيرِ اللَّيْلُ بِ (مِنْ) فَصَارَ الْمَعْنَى: اللَّيْلُ آيَةٌ لَهُمْ فِي حَالِ إِزَالَةِ غِشَاءِ نُورِ النَّهَارِ عَنْهُ فَيَبْقَى عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ، فَشُبِّهَ النَّهَارُ بِجِلْدِ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ مِنْهَا كَمَا يُغَطِّي النَّهَارُ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ فِي الصَّبَاحِ. وَشُبِّهَ كَشْفُ النَّهَارِ وَإِزَالَتِهِ بِسَلْخِ الْجِلْدِ عَنْ نَحْوِ الشَّاةِ فَصَارَ اللَّيْلُ بِمَنْزِلَةِ جِسْمِ الْحَيَوَانِ الْمَسْلُوخِ مِنْهُ جِلْدُهُ، وَلَيْسَ اللَّيْلُ بِمَقْصُودٍ بِالتَّشْبِيهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ زَوَالِ النَّهَارِ عَنْهُ فَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ يَبْقَى شِبْهَ الْجِسْمِ الْمَسْلُوخِ عَنْهُ جِلْدُهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ الْحَالَةُ السَّابِقَةُ لِلْعَوَالِمِ قَبْلَ خَلْقِ النُّورِ فِي الْأَجْسَامِ النَّيِّرَةِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورُ وُجُودٌ، وَكَانَتِ الْمَوْجُودَاتُ فِي ظُلْمَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْكَوَاكِبَ النَّيِّرَةَ وَيُوصِلُ نُورَهَا إِلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا كَالْأَرْضِ وَالْقَمَرِ.
وَإِذَا كَانَتِ الظُّلْمَةُ هِيَ الْحَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْمَوْجُودَاتِ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَصْلِيَّةً لِلْأَرْضِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَرْضَ انْفَصَلَتْ عَنِ الشَّمْسِ نَيِّرَةً وَإِنَّمَا ظُلْمَةُ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ إِذَا غَشِيَهَا نُورُ الشَّمْسِ مُعْتَبَرَةٌ كَالْجِسْمِ الَّذِي غَشِيَهُ جِلْدُهُ فَإِذَا أُزِيلَ النُّورُ عَادَتِ الظَّلَمَةُ فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِسَلْخِ الْجِلْدِ عَنِ الْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مُقَابِلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣] : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ. فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ هُوَ الظُّلْمَةُ وَلَكِنَّهَا سَاقَتْ لِلنَّاسِ اعْتِبَارًا وَدَلَالَةً بِحَالَةٍ مُشَاهَدَةٍ لَدَيْهِمْ فَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ. وَقَدِ اعْتَبَرَ أَيِمَّةُ الْبَلَاغَةِ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْآيَةِ أَصْلِيَّةً تَبَعِيَّةً وَلَمْ يَجْعَلُوهَا تَمْثِيلِيَّةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ هُوَ حَالَةُ زَوَالِ نُورِ النَّهَارِ عَنِ الْأُفُقِ فَتَخْلُفُهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ.
وَإِسْنَادُ مُظْلِمُونَ إِلَى النَّاسِ مِنْ إِسْنَادِ إِفْعَالِ الَّذِي الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ مِثْلِ أصبح وَأمسى.
النَّهارَ بِلَا رَيْبٍ، وَعُدِّيَ السَّلْخُ إِلَى ضَمِيرِ اللَّيْلُ بِ (مِنْ) فَصَارَ الْمَعْنَى: اللَّيْلُ آيَةٌ لَهُمْ فِي حَالِ إِزَالَةِ غِشَاءِ نُورِ النَّهَارِ عَنْهُ فَيَبْقَى عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ، فَشُبِّهَ النَّهَارُ بِجِلْدِ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ مِنْهَا كَمَا يُغَطِّي النَّهَارُ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ فِي الصَّبَاحِ. وَشُبِّهَ كَشْفُ النَّهَارِ وَإِزَالَتِهِ بِسَلْخِ الْجِلْدِ عَنْ نَحْوِ الشَّاةِ فَصَارَ اللَّيْلُ بِمَنْزِلَةِ جِسْمِ الْحَيَوَانِ الْمَسْلُوخِ مِنْهُ جِلْدُهُ، وَلَيْسَ اللَّيْلُ بِمَقْصُودٍ بِالتَّشْبِيهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ زَوَالِ النَّهَارِ عَنْهُ فَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ يَبْقَى شِبْهَ الْجِسْمِ الْمَسْلُوخِ عَنْهُ جِلْدُهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ الْحَالَةُ السَّابِقَةُ لِلْعَوَالِمِ قَبْلَ خَلْقِ النُّورِ فِي الْأَجْسَامِ النَّيِّرَةِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورُ وُجُودٌ، وَكَانَتِ الْمَوْجُودَاتُ فِي ظُلْمَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْكَوَاكِبَ النَّيِّرَةَ وَيُوصِلُ نُورَهَا إِلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا كَالْأَرْضِ وَالْقَمَرِ.
وَإِذَا كَانَتِ الظُّلْمَةُ هِيَ الْحَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْمَوْجُودَاتِ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَصْلِيَّةً لِلْأَرْضِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَرْضَ انْفَصَلَتْ عَنِ الشَّمْسِ نَيِّرَةً وَإِنَّمَا ظُلْمَةُ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ إِذَا غَشِيَهَا نُورُ الشَّمْسِ مُعْتَبَرَةٌ كَالْجِسْمِ الَّذِي غَشِيَهُ جِلْدُهُ فَإِذَا أُزِيلَ النُّورُ عَادَتِ الظَّلَمَةُ فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِسَلْخِ الْجِلْدِ عَنِ الْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مُقَابِلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣] : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ. فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ هُوَ الظُّلْمَةُ وَلَكِنَّهَا سَاقَتْ لِلنَّاسِ اعْتِبَارًا وَدَلَالَةً بِحَالَةٍ مُشَاهَدَةٍ لَدَيْهِمْ فَفَرَّعَ عَلَيْهِ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ. وَقَدِ اعْتَبَرَ أَيِمَّةُ الْبَلَاغَةِ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْآيَةِ أَصْلِيَّةً تَبَعِيَّةً وَلَمْ يَجْعَلُوهَا تَمْثِيلِيَّةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ هُوَ حَالَةُ زَوَالِ نُورِ النَّهَارِ عَنِ الْأُفُقِ فَتَخْلُفُهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ.
وَإِسْنَادُ مُظْلِمُونَ إِلَى النَّاسِ مِنْ إِسْنَادِ إِفْعَالِ الَّذِي الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ مِثْلِ أصبح وَأمسى.
18
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٨]
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)الشَّمْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اللَّيْلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس:
٣٧] عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرِدٍ وَيُقَدَّرُ لَهُ خَبَرٌ مُمَاثِلٌ لِخَبَرِ اللَّيْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالشَّمْسُ آيَةٌ لَهُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَجْرِي حَالًا مِنَ الشَّمْسُ مِثْلُ جُمْلَةِ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَجْرِي خَبَرًا عَن الشَّمْسُ. وأيّاما كَانَ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] إِلْخَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: ٤٠]، وَكَانَ مُقْتَضَى
الظَّاهِرِ مِنْ كَوْنِهِ تَفْصِيلًا أَنْ لَا يُعْطَفَ فَيُقَالَ: الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ آيَةً خَاصَّةً وَهِيَ آيَةُ سَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
وَقُدِّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فَكَانَتْ آيَةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مُرَادًا بِهَا دَلِيلٌ آخَرَ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نِظَامُ الْفُصُولِ.
وَجُمْلَةُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يحْتَمل الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس:
٣٣] مِنْ كَوْنِهَا حَالًا أَوْ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ [يس: ٣٧] أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ وَآيَةٌ.
وَالْجَرْيُ حَقِيقَتُهُ: السّير السَّرِيع وَهُوَ لِذَوَاتِ الْأَرْجُلِ، وَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى تَنَقُّلِ الْجِسْمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ تَنَقُّلًا سَرِيعًا بِالنِّسْبَةِ لِتَنَقُّلِ أَمْثَالِ ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَغَلَبَ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَسَاوَى الْحَقِيقَةَ وَأُرِيدَ بِهِ السَّيْرُ فِي مَسَافَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ جِدَّ التَّبَاعُدِ فَتَقْطَعُهَا فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَبَاعُدِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ ذَلِكَ السَّيْرِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ مَعْرِفَةً إِجْمَالِيَّةً بِمَا يَحْسِبُونَ مِنَ الْوَقْتِ وَامْتِدَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِمُرَاقَبَةِ أَحْوَالِهَا مِنْ خَاصَّةِ النَّاسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَرْقُبُونَ مَنَازِلَ تَنَقُّلِهَا الْمُسَمَّاةِ بِالْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْمَعْرُوفَةِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْهَيْئَةِ تَفْصِيلًا وَاسْتِدْلَالًا وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مُخَاطَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا بَلَغَهُ عِلْمُهُمْ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، أَيِ الْقَرَارُ أَوْ زَمَانُهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ:
اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ.
19
وَاللَّامُ فِي لِمُسْتَقَرٍّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى ظَاهِرِهَا، أَيْ تَجْرِي لِأَجْلِ أَنْ تَسْتَقِرَّ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَنْتَهِيَ جَرْيُهَا كَمَا يَنْتَهِي سَيْرُ الْمُسَافِرِ إِذَا بَلَغَ إِلَى مَكَانِهِ فَاسْتَقَرَّ فِيهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ تَجْرِي عَلَى أَنَّهُ نِهَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ سَيْرَ الشَّمْسِ لَمَّا كَانَتْ نِهَايَتُهُ انْقِطَاعَهُ نَزَلَ الِانْقِطَاعُ عَنْهُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ كَمَا يُقَالُ: «لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ».
وَتَنْزِيلُ النِّهَايَةِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَسِيرُ سَيْرًا دَائِبًا مُشَاهَدًا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الِاحْتِجَابَ عَنِ الْأَنْظَارِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (إِلَى)، أَيْ تَجْرِي إِلَى مَكَانِ اسْتِقْرَارِهَا وَهُوَ مَكَانُ الْغُرُوبِ، شُبِّهَ غُرُوبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمَأْوَى الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي آخِرِ النَّهَارِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ وَرَدَ تَقْرِيبُ ذَلِكَ
فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِ فِي صحيحي «البُخَارِيّ» و «مُسلم» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ حَاصِلُ تَرْتِيبِهَا أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَأَلته (أَو فَقَالَ) : إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا وَمُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
. وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ لِسَيْرِ الشَّمْسِ اليومي الَّذِي يبتدىء بِشُرُوقِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْتَهِي بِغُرُوبِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فِي خُطُوطٍ دَقِيقَةٍ، وَبِتَكَرُّرِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا تَتَكَوَّنُ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ.
وَقَدْ جُعِلَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ سَيْرُهَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَحْتِ الْعَرْشِ وَهُوَ سَمْتٌ مُعَيَّنٌ لَا قِبَلَ لِلنَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مُنْتَهَى مَسَافَةِ سَيْرِهَا الْيَوْمِيِّ، وَعِنْدَهُ
وَتَنْزِيلُ النِّهَايَةِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَسِيرُ سَيْرًا دَائِبًا مُشَاهَدًا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الِاحْتِجَابَ عَنِ الْأَنْظَارِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (إِلَى)، أَيْ تَجْرِي إِلَى مَكَانِ اسْتِقْرَارِهَا وَهُوَ مَكَانُ الْغُرُوبِ، شُبِّهَ غُرُوبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمَأْوَى الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي آخِرِ النَّهَارِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ وَرَدَ تَقْرِيبُ ذَلِكَ
فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِ فِي صحيحي «البُخَارِيّ» و «مُسلم» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ حَاصِلُ تَرْتِيبِهَا أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَأَلته (أَو فَقَالَ) : إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا وَمُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
. وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ لِسَيْرِ الشَّمْسِ اليومي الَّذِي يبتدىء بِشُرُوقِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْتَهِي بِغُرُوبِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فِي خُطُوطٍ دَقِيقَةٍ، وَبِتَكَرُّرِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا تَتَكَوَّنُ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ.
وَقَدْ جُعِلَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ سَيْرُهَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَحْتِ الْعَرْشِ وَهُوَ سَمْتٌ مُعَيَّنٌ لَا قِبَلَ لِلنَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مُنْتَهَى مَسَافَةِ سَيْرِهَا الْيَوْمِيِّ، وَعِنْدَهُ
20
يَنْقَطِعُ سَيْرُهَا فِي إِبَّانِ انْقِطَاعِهِ وَذَلِكَ حِينَ تَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَيْ حِينَ يَنْقَطِعُ سَيْرُ الْأَرْضِ حَوْلَ شُعَاعِهَا لِأَنَّ حَرَكَةَ الْأَجْرَامِ التَّابِعَةِ لِنِظَامِهَا تَنْقَطِعُ تَبَعًا لِانْقِطَاعِ حَرَكَتِهَا هِيَ وَذَلِكَ نِهَايَةُ بَقَاء هَذَا الْعَالم الدُّنْيَوِيِّ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَها لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمُسْتَقَرٍّ. وَعُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ مُسْتَقَرٍّ لِضَمِيرِ الشَّمْسِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِظْهَارِ اللَّامِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِاللَّامِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ «مُسْتَقَرٍّ» تَنْكِيرًا مُشْعِرًا بِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمُسْتَقَرِّ.
وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْغُرُوبِ وَالشُّرُوقِ الْيَوْمِيَّيْنِ. وَجُعِلَ سُجُودُ الشَّمْسِ تَمْثِيلًا لِتَسْخِرِهَا لِتَسْخِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا كَمَا جُعِلَ الْقَوْلُ تَمْثِيلًا لَهُ فِي آيَةِ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١].
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لِمُسْتَقَرٍّ لَها إِدْمَاجٌ لِلتَّعْلِيمِ فِي التَّذْكِيرِ وَلَيْسَ مِنْ آيَةِ الشَّمْسِ لِلنَّاسِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى [الْأَنْعَام: ٦٠] عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: ٦٠].
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إِلَى الْمَذْكُورِ: إِمَّا مِنْ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ
تَجْرِي
أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيِ، وَإِمَّا مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: ٣٧] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَذِكْرُ صِفَتِي الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لِمُنَاسَبَةِ مَعْنَاهُمَا لِلتَّعَلُّقِ بِنِظَامِ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ، فَالْعِزَّةُ تُنَاسِبُ تَسْخِيرَ هَذَا الْكَوْكَبِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ يُنَاسِبُ النِّظَامَ الْبَدِيعَ الدَّقِيقَ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي سُورَة الْفرْقَان [٦١].
[٣٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٩]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِرَفْعِ وَالْقَمَرَ فَهُوَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي [يس: ٣٨] عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ وَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَها لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمُسْتَقَرٍّ. وَعُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ مُسْتَقَرٍّ لِضَمِيرِ الشَّمْسِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِظْهَارِ اللَّامِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِاللَّامِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ «مُسْتَقَرٍّ» تَنْكِيرًا مُشْعِرًا بِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمُسْتَقَرِّ.
وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْغُرُوبِ وَالشُّرُوقِ الْيَوْمِيَّيْنِ. وَجُعِلَ سُجُودُ الشَّمْسِ تَمْثِيلًا لِتَسْخِرِهَا لِتَسْخِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا كَمَا جُعِلَ الْقَوْلُ تَمْثِيلًا لَهُ فِي آيَةِ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١].
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لِمُسْتَقَرٍّ لَها إِدْمَاجٌ لِلتَّعْلِيمِ فِي التَّذْكِيرِ وَلَيْسَ مِنْ آيَةِ الشَّمْسِ لِلنَّاسِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى [الْأَنْعَام: ٦٠] عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: ٦٠].
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إِلَى الْمَذْكُورِ: إِمَّا مِنْ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ
تَجْرِي
أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيِ، وَإِمَّا مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: ٣٧] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَذِكْرُ صِفَتِي الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لِمُنَاسَبَةِ مَعْنَاهُمَا لِلتَّعَلُّقِ بِنِظَامِ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ، فَالْعِزَّةُ تُنَاسِبُ تَسْخِيرَ هَذَا الْكَوْكَبِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ يُنَاسِبُ النِّظَامَ الْبَدِيعَ الدَّقِيقَ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي سُورَة الْفرْقَان [٦١].
[٣٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٩]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِرَفْعِ وَالْقَمَرَ فَهُوَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي [يس: ٣٨] عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ وَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ.
21
وَجُمْلَةُ قَدَّرْناهُ إِمَّا حَالٌ وَإِمَّا خَبَرٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِنَصْبِ الْقَمَرَ عَلَى الِاشْتِغَالِ فَهُوَ إِذَنْ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٥].
وَالتَّقْدِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى جَعْلِ الْأَشْيَاءِ بِقَدَرٍ وَنِظَامٍ مُحْكَمٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَحْدِيدِ الْمِقْدَارِ مِنْ شَيْءٍ تُطْلَبُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ مِثْلُ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ وَتَقْدِيرِ الْكِمِّيَّاتِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ مُرَادٌ هُنَا. فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ نِظَامَ سَيْرِهِمَا وَقَدَّرَ بِذَلِكَ حِسَابَ الْفُصُولِ السَّنَوِيَّةِ وَالْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي.
وعدّي فعل قَدَّرْناهُ إِلَى ضَمِيرِ الْقَمَرَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتِهِ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ لِسَيْرِهِ وَلَكِنْ عُدِّيَ التَّقْدِيرُ إِلَى اسْمِ ذَاتِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمُضَافِ مُبَالَغَةً فِي لُزُومِ السَّيْرِ لَهُ مِنْ وَقْتِ خَلْقِهِ حَتَّى كَأَنَّ تَقْدِيرَ سَيْرِهِ تَقْدِيرٌ لِذَاتِهِ.
وَانْتَصَبَ مَنازِلَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ مِثْلُ: سِرْتُ أَمْيَالًا، أَيْ قَدَّرْنَا سَيْرَهُ فِي مَنَازِلَ يَنْتَقِلُ بِسَيْرِهِ فِيهَا مَنْزِلَةً بَعْدَ أُخْرَى.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ لَيْسَتْ حَرْفَ جَرٍّ فَإِنَّ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ. وَمَعْنَى الْغَايَةِ لَا يُفَارِقُ حَتَّى فَآذَنَ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْغَايَةِ بِمُغَيًّا مَحْذُوفٍ فَالْغَايَةُ تَسْتَلْزِمُ ابْتِدَاءَ شَيْءٍ. وَالتَّقْدِير:
فابتدأ ضوؤه وَأَخَذَ فِي الِازْدِيَادِ لَيْلَةً قَلِيلَةً ثُمَّ أَخَذَ فِي التَّنَاقُصِ حَتَّى عَادَ، أَيْ صَار كالعرجون الْقَدِيم، أَيْ شَبِيهًا بِهِ. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ إِذْ لَيْسَ لِضَوْءِ الْقَمَرِ فِي أَوَاخِرِ لَيَالِيهِ اسْمٌ يُعْرَفُ بِهِ بِخِلَافِ أَوَّلِ أَجْزَاءِ ضَوْئِهِ الْمُسَمَّى هِلَالًا، وَلِأَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يُمَاثِلُ حَالَةَ اسْتِهْلَالِهِ كَمَا يُمَاثِلُ حَالَةَ انْتِهَائِهِ.
وعادَ بِمَعْنَى صَارَ شَكْلُهُ لِلرَّائِي كَالْعُرْجُونِ. وَالْعُرْجُونُ: الْعُودُ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّخْلَةُ فَيَكُونُ الثَّمَرُ فِي مُنْتَهَاهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى مُتَّصِلًا بِالنَّخْلَةِ بَعْدَ قَطْعِ الْكِبَاسَةِ مِنْهُ وَهِيَ مُجْتَمَعُ أَعْوَادِ التَّمْرِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٥].
وَالتَّقْدِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى جَعْلِ الْأَشْيَاءِ بِقَدَرٍ وَنِظَامٍ مُحْكَمٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَحْدِيدِ الْمِقْدَارِ مِنْ شَيْءٍ تُطْلَبُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ مِثْلُ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ وَتَقْدِيرِ الْكِمِّيَّاتِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ مُرَادٌ هُنَا. فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ نِظَامَ سَيْرِهِمَا وَقَدَّرَ بِذَلِكَ حِسَابَ الْفُصُولِ السَّنَوِيَّةِ وَالْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي.
وعدّي فعل قَدَّرْناهُ إِلَى ضَمِيرِ الْقَمَرَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتِهِ وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ لِسَيْرِهِ وَلَكِنْ عُدِّيَ التَّقْدِيرُ إِلَى اسْمِ ذَاتِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمُضَافِ مُبَالَغَةً فِي لُزُومِ السَّيْرِ لَهُ مِنْ وَقْتِ خَلْقِهِ حَتَّى كَأَنَّ تَقْدِيرَ سَيْرِهِ تَقْدِيرٌ لِذَاتِهِ.
وَانْتَصَبَ مَنازِلَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ مِثْلُ: سِرْتُ أَمْيَالًا، أَيْ قَدَّرْنَا سَيْرَهُ فِي مَنَازِلَ يَنْتَقِلُ بِسَيْرِهِ فِيهَا مَنْزِلَةً بَعْدَ أُخْرَى.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ لَيْسَتْ حَرْفَ جَرٍّ فَإِنَّ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ. وَمَعْنَى الْغَايَةِ لَا يُفَارِقُ حَتَّى فَآذَنَ مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْغَايَةِ بِمُغَيًّا مَحْذُوفٍ فَالْغَايَةُ تَسْتَلْزِمُ ابْتِدَاءَ شَيْءٍ. وَالتَّقْدِير:
فابتدأ ضوؤه وَأَخَذَ فِي الِازْدِيَادِ لَيْلَةً قَلِيلَةً ثُمَّ أَخَذَ فِي التَّنَاقُصِ حَتَّى عَادَ، أَيْ صَار كالعرجون الْقَدِيم، أَيْ شَبِيهًا بِهِ. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِهَذَا التَّشْبِيهِ إِذْ لَيْسَ لِضَوْءِ الْقَمَرِ فِي أَوَاخِرِ لَيَالِيهِ اسْمٌ يُعْرَفُ بِهِ بِخِلَافِ أَوَّلِ أَجْزَاءِ ضَوْئِهِ الْمُسَمَّى هِلَالًا، وَلِأَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يُمَاثِلُ حَالَةَ اسْتِهْلَالِهِ كَمَا يُمَاثِلُ حَالَةَ انْتِهَائِهِ.
وعادَ بِمَعْنَى صَارَ شَكْلُهُ لِلرَّائِي كَالْعُرْجُونِ. وَالْعُرْجُونُ: الْعُودُ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّخْلَةُ فَيَكُونُ الثَّمَرُ فِي مُنْتَهَاهِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى مُتَّصِلًا بِالنَّخْلَةِ بَعْدَ قَطْعِ الْكِبَاسَةِ مِنْهُ وَهِيَ مُجْتَمَعُ أَعْوَادِ التَّمْرِ.
22
والْقَدِيمِ: هُوَ الْبَالِي لِأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ الثَّمر تقوس واصفار وَتَضَاءَلَ فَأَشْبَهَ صُورَةَ مَا يُوَاجِهُ الْأَرْضَ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ فِي آخِرِ لَيَالِي الشَّهْرِ وَفِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَتَرْكِيبُ عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ صَالِحٌ لِصُورَةِ الْقَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْمُحَاقُ وَلِصُورَتِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنَ الشَّهْرِ هُوَ الْهِلَالُ. وَقَدْ بَسَّطَ لَهُمْ بَيَانُ سَيْرِ الْقَمَرِ وَمَنَازِلِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُتْقِنُونَ عِلْمَهُ بِخِلَافِ سير الشَّمْس.
[٤٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٤٠]
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي مَعْرِضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَعَلَى صِفَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الَّتِي مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهَا تَعَلُّقُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِآيَةِ الشَّمْسِ وَسَيْرِهَا، وَالْقَمَرِ وَسَيْرِهِ، وَقَدْ سَمَّاهَا بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَكَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ تَقَارُبَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِيمَا يَرَاهُ الرَّاءُونَ، وَكَانُوا يُقَدِّرُونَ سَيْرَهُمَا بِأَسْمَاتٍ مُعَلَّمَةٍ بِعَلَامَاتٍ نُجُومِيَّةٍ تُسَمَّى بُرُوجًا بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الشَّمْسِ، وَتُسَمَّى مُنَازِلَ بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الْقَمَرِ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ شِدَّةَ قُرْبِ الْمَنَازِلِ الْقَمَرِيَّةِ مِنَ الْبُرُوجِ الشَّمْسِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ بُرْجٍ تُسَامِتُهُ مَنْزِلَتَانِ أَوْ ثَلَاثَ مَنَازِلَ، وَبَعْضُ نُجُومِ الْمَنَازِلِ هِيَ أَجْزَاءٌ مِنْ نُجُومِ الْبُرُوجِ، زَادَهُمُ اللَّهُ عِبْرَةً وَتَعْلِيمًا بِأَنَّ لِلشَّمْسِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الْقَمَرِ، وَلِلْقَمَرِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الشَّمْسِ وَلَا يَمُرُّ أَحَدُهُمَا بِطَرَائِقِ مَسِيرِ الْآخَرِ وَأَنَّ مَا يَتَرَاءَى للنَّاس من مُشَاهدَة الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي جَوٍّ وَاحِدٍ وَفِي حَجْمَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمَا يَتَرَاءَى لَهُمْ مِنْ تَقَارُبِ نُجُومِ بُرُوجِ الشَّمْسِ وَنُجُومِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، إِنْ هُوَ إِلَّا مِنْ تَخَيُّلَاتِ الْأَبْصَارِ وَتَفَاوُتِ الْمَقَادِيرِ بَيْنَ الْأَجْرَامِ وَالْأَبْعَادِ.
فَالْكُرَةُ الْعَظِيمَةُ كَالشَّمْسِ تَبْدُو مُقَارِبَةً لِكُرَةِ الْقَمَرِ فِي الْمَرْأَى وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَبَاعُدِ
الْأَبْعَادِ فَأَبْعَادُ فَلَكِ الشَّمْسِ تَفُوتُ أَبْعَادَ فَلَكِ الْقَمَرِ بِمِئَاتِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأَمْيَالِ، حَتَّى يَلُوحَ لَنَا حَجْمُ الشَّمْسِ مُقَارِبًا لِحَجْمِ الْقَمَرِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ نَظَّمَ سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى نِظَامٍ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ اتِّصَالُ إِحْدَى الْكُرَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لِشِدَّةِ الْأَبْعَادِ بَيْنَ مَدَارَيْهِمَا.
[٤٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٤٠]
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي مَعْرِضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَعَلَى صِفَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الَّتِي مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهَا تَعَلُّقُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِآيَةِ الشَّمْسِ وَسَيْرِهَا، وَالْقَمَرِ وَسَيْرِهِ، وَقَدْ سَمَّاهَا بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَكَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ تَقَارُبَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِيمَا يَرَاهُ الرَّاءُونَ، وَكَانُوا يُقَدِّرُونَ سَيْرَهُمَا بِأَسْمَاتٍ مُعَلَّمَةٍ بِعَلَامَاتٍ نُجُومِيَّةٍ تُسَمَّى بُرُوجًا بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الشَّمْسِ، وَتُسَمَّى مُنَازِلَ بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الْقَمَرِ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ شِدَّةَ قُرْبِ الْمَنَازِلِ الْقَمَرِيَّةِ مِنَ الْبُرُوجِ الشَّمْسِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ بُرْجٍ تُسَامِتُهُ مَنْزِلَتَانِ أَوْ ثَلَاثَ مَنَازِلَ، وَبَعْضُ نُجُومِ الْمَنَازِلِ هِيَ أَجْزَاءٌ مِنْ نُجُومِ الْبُرُوجِ، زَادَهُمُ اللَّهُ عِبْرَةً وَتَعْلِيمًا بِأَنَّ لِلشَّمْسِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الْقَمَرِ، وَلِلْقَمَرِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الشَّمْسِ وَلَا يَمُرُّ أَحَدُهُمَا بِطَرَائِقِ مَسِيرِ الْآخَرِ وَأَنَّ مَا يَتَرَاءَى للنَّاس من مُشَاهدَة الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي جَوٍّ وَاحِدٍ وَفِي حَجْمَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمَا يَتَرَاءَى لَهُمْ مِنْ تَقَارُبِ نُجُومِ بُرُوجِ الشَّمْسِ وَنُجُومِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، إِنْ هُوَ إِلَّا مِنْ تَخَيُّلَاتِ الْأَبْصَارِ وَتَفَاوُتِ الْمَقَادِيرِ بَيْنَ الْأَجْرَامِ وَالْأَبْعَادِ.
فَالْكُرَةُ الْعَظِيمَةُ كَالشَّمْسِ تَبْدُو مُقَارِبَةً لِكُرَةِ الْقَمَرِ فِي الْمَرْأَى وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَبَاعُدِ
الْأَبْعَادِ فَأَبْعَادُ فَلَكِ الشَّمْسِ تَفُوتُ أَبْعَادَ فَلَكِ الْقَمَرِ بِمِئَاتِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأَمْيَالِ، حَتَّى يَلُوحَ لَنَا حَجْمُ الشَّمْسِ مُقَارِبًا لِحَجْمِ الْقَمَرِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ نَظَّمَ سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى نِظَامٍ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ اتِّصَالُ إِحْدَى الْكُرَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لِشِدَّةِ الْأَبْعَادِ بَيْنَ مَدَارَيْهِمَا.
23
فَمَعْنَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ نَفْيُ انْبِغَاءِ ذَلِكَ، أَيْ نَفْيُ تَأْتِيهِ، لِأَنَّ انْبَغَى مُطَاوِعُ بَغَى الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى طَلَبَ، فَانْبَغَى يُفِيدُ أَنَّ الشَّيْءَ طَلَبٌ فَحَصَلَ لِلَّذِي طَلَبَهُ، يُقَالُ: بَغَاهُ فَانْبَغَى لَهُ، فَإِثْبَاتُ الِانْبِغَاءِ يُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنَ الشَّيْءِ فَلَا يَقْتَضِي وُجُوبًا، وَنَفْيُ الِانْبِغَاءِ يُفِيدُ نَفْيَ إِمْكَانِهِ وَلِذَلِكَ يُكْنَى بِهِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَحْظُورِ. يُقَالُ: لَا يَنْبَغِي لَكَ كَذَا، فَفَرِّقْ مَا بَيْنَ قَوْلِكَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْعَلَ كَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [الْفرْقَان: ١٨] وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٩٢]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: ٦٩] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْإِدْرَاكُ: اللَّحَاقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الْبُغْيَةِ فَقَوْلُهُ: أَنْ تُدْرِكَ فَاعِلُ يَنْبَغِي فَأَفَادَ الْكَلَامُ نَفِيَ انْبِغَاءِ إِدْرَاكِ الشَّمْسِ الْقَمَرَ. وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ تَصْطَدِمَ الشَّمْسُ بِالْقَمَرِ، خِلَافًا لِمَا يَبْدُو مِنْ قُرْبِ مَنَازِلِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُسَامَتَةِ لَا مِنَ الِاقْتِرَابِ. وَصَوْغُ هَذَا بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي حُكْمَ النَّفْيِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِانْتِفَاءِ مِمَّا لَوْ قِيلَ: لَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِيَكُونَ النَّفْيُ مُتَقَرَّرًا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَقْوَى مِمَّا لَوْ قِيلَ: الشَّمْسُ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ خُصُوصِيَّتَانِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَكَانَتِ الشَّمْسُ مُقَارِنَةً لِلنَّهَارِ فِي مُخَيَّلَاتِ الْبَشَرِ، وَكَانَ الْقَمَرُ مُقَارِنًا لِلَّيْلِ، وَكَانَ فِي نِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ اعْتُرِضَ بِذِكْرِ نِظَامِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَثْنَاءَ الِاعْتِبَارِ بِنِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَمَعْنَى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ بِمُفْلِتٍ لِلنَّهَارِ، فَالسَّبْقُ بِمَعْنَى التَّخَلُّصِ وَالنَّجَاةِ، كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءَ الْفَقْعَسِيِّ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس:
٥٥] وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى سَلامٌ قَوْلًا [يس: ٥٨]، أَيْ وَيُقَالُ: امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ، عَلَى الضِّدِّ مِمَّا يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَلَامٌ يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلًا، وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِينَ: امْتَازُوا، فَتَكُونُ مِنْ توزيع الخطابين على مخاطبين فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٩].
وَامْتَازَ مُطَاوِعُ مَازَهَ، إِذَا أَفْرَدَهُ عَمَّا كَانَ مُخْتَلِطًا مَعَهُ، وُجِّهَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَمْتَازُوا مُبَالَغَةً فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْمَيْزِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ تَكْوِينٍ فَعُبِّرَ عَنْ مَعْنَى. فَيَكُونُ الْمَيْزُ بِصَوْغِ الْأَمْرِ مِنْ مَادَّةِ الْمُطَاوَعَةِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: لِتَنْكَسِرَ الزُّجَاجَةُ أَشَدُّ فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْكَسْرِ فِيهَا مِنْ أَنْ تَقُولَ: اكْسِرُوا الزُّجَاجَةَ. وَالْمُرَادُ: امْتِيَازُهُمْ بِالِابْتِعَادِ عَنِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرُوا إِلَى النَّارِ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: ادْخُلُوا النَّارَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَحْشَرِ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس: ٥٥]، فَلَمَّا حُكِيَ مَا فِيهِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ حِينَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ النَّارِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [يس: ٥٤]، حُكِيَ ذَلِكَ ثُمَّ قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
وَتَكْرِيرُ كَلِمَةِ الْيَوْمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ فِيهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ تَأْكِيدِ ذَكْرِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ [يس: ٥٤] وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ [يس: ٥٥] وَقَوْلِهِ:
امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
وَنِدَاؤُهُمْ بِعُنْوَانِ: الْمُجْرِمُونَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةٍ مَيْزِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، فَاللَّامُ فِي الْمُجْرِمُونَ مَوْصُولَةٌ، أَيْ أَيُّهَا الَّذين أجرموا.
إِقْبَالٌ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِينَ جَمَعَهُمُ الْمَحْشَرُ غَيْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ عُجِّلُوا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَشْمَلُ هَذَا جَمِيعَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّهُ شَامِلٌ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ إِشْهَادٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَخُوطِبُوا بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ لِأَنَّ مَقَامَ التَّوْبِيخِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الشَّيْطَانَ يَقْتَضِي تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا لَهُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
يَعْنِي بِلَادَ مَنْ حَارَبَ أُصُولَهُ.
وَالْعَهْدُ: الْوِصَايَةُ، ووصاية الله بني آدَمُ بِأَلَّا يَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ هِيَ مَا تَقَرِّرَ وَاشْتَهِرَ فِي الْأُمَمِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ فَلَا يَسَعُ إِنْكَارُهُ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِحَالِ مَنْ يَجْحَدُ هَذَا الْعَهْدَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْهَدْ تَوَالِي الْعَيْنِ وَالْهَاءِ وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ إِلَّا أَنَّ تَوَالِيَهُمَا لَمْ يُحْدِثْ ثِقْلًا فِي النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ يُنَافِي الْفَصَاحَةَ بِمُوجَبِ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ لِأَنَّ انْتِقَالَ النُّطْقِ فِي مَخْرَجِ الْعَيْنِ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ إِلَى مَخْرَجِ الْهَاءِ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ خَفَّفَ النُّطْقَ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنْ سُكُونٍ إِلَى حَرَكَةٍ زَادَ ذَلِكَ خِفَّةً.
وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: ٢٦] الْمُشْتَمِلُ عَلَى حَاءٍ وَهِيَ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ وَهَاءٍ وَهِيَ مَنْ أَقْصَاهُ إِلَّا أَنَّ الْأُولَى سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةَ مُتَحَرِّكَةٌ وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مِنْ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ، وَمُثِّلَ لَهُ بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
وَالْإِدْرَاكُ: اللَّحَاقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الْبُغْيَةِ فَقَوْلُهُ: أَنْ تُدْرِكَ فَاعِلُ يَنْبَغِي فَأَفَادَ الْكَلَامُ نَفِيَ انْبِغَاءِ إِدْرَاكِ الشَّمْسِ الْقَمَرَ. وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ تَصْطَدِمَ الشَّمْسُ بِالْقَمَرِ، خِلَافًا لِمَا يَبْدُو مِنْ قُرْبِ مَنَازِلِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُسَامَتَةِ لَا مِنَ الِاقْتِرَابِ. وَصَوْغُ هَذَا بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي حُكْمَ النَّفْيِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِانْتِفَاءِ مِمَّا لَوْ قِيلَ: لَا يَنْبَغِي لِلشَّمْسِ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ لِيَكُونَ النَّفْيُ مُتَقَرَّرًا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَقْوَى مِمَّا لَوْ قِيلَ: الشَّمْسُ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ خُصُوصِيَّتَانِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَكَانَتِ الشَّمْسُ مُقَارِنَةً لِلنَّهَارِ فِي مُخَيَّلَاتِ الْبَشَرِ، وَكَانَ الْقَمَرُ مُقَارِنًا لِلَّيْلِ، وَكَانَ فِي نِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ اعْتُرِضَ بِذِكْرِ نِظَامِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَثْنَاءَ الِاعْتِبَارِ بِنِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَمَعْنَى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ بِمُفْلِتٍ لِلنَّهَارِ، فَالسَّبْقُ بِمَعْنَى التَّخَلُّصِ وَالنَّجَاةِ، كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءَ الْفَقْعَسِيِّ:
كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ الدَّهْرِ مَرَّةً | إِذَا أَنْتَ أَدْرَكَتَ الَّذِي كُنْتَ تَطْلُبُ |
إِنَّا إِذَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ | كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَابِيبِ |
وَالْمَعْنَى: لَا يَجِدُونَ مَنْ يَسْتَصْرِخُونَ بِهِ وَهُمْ فِي لُجُجِ الْبَحْرِ وَلَا يُنْقِذُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَرَقِ.
وَالْإِنْقَاذُ: الِانْتِشَالُ مِنَ الْمَاءِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ وَهُوَ نَفْيُ إِنْقَاذِ أَحَدٍ إِيَّاهُمْ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّرِيخِ وَلَا مِنَ
29
الْمُنْقِذِ وَإِنَّمَا هِيَ إِسْعَافُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِسُكُونِ الْبَحْرِ وَتَمْكِينِهِمْ مِنَ السَّبْحِ عَلَى أَعْوَادِ الْفَلَكِ.
ووَ مَتاعاً عَطَفٌ عَلَى رَحْمَةً، أَيْ إِلَّا رَحْمَةً هِيَ تَمْتِيعٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّ كل حَيّ صائر إِلَى الْمَوْتِ فَإِذَا نَجَا مِنْ مَوْتَةٍ اسْتَقْبَلَتْهُ مَوْتَةٌ أُخْرَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ حُبَّ زِيَادَةِ الْحَيَاةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ لَهُ عَن الْمَوْت.
[٤٥، ٤٦]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)
تَخَلَّصَ الْكَلَامُ مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ إِلَى عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْمُبَلَّغَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَبِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِتَذْكِيرِ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَعَلَى الْبَعْثِ.
وَبِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ قِيلَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ.
وَمَا بَيْنَ الْأَيْدِي يُرَادُ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَمَا هُوَ خَلْفٌ يُرَادُ مِنْهُ الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ [آل عمرَان: ٥٠]، أَيْ مَا تَقَدَّمَنِي. وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ هَذَيْنِ التَّرْكِيبَيْنِ تَمْثِيلَانِ فَتَارَةً يَنْظُرُونَ إِلَى تَمْثِيلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِسَائِرٍ إِلَى مَكَانٍ فَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ مَا سَيَرِدُ هُوَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي مِنْ وَرَائِهِ هُوَ مَا خَلَّفَهُ خَلْفَهُ فِي سَيْرِهِ، وَتَارَةً يَنْظُرُونَ إِلَى تَمْثِيلِ الْمُضَافِ بِسَائِرٍ، فَهُوَ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدِيِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَقَدْ سَبَقَهُ فِي السَّيْرِ فَهُوَ سَابِقٌ لَهُ وَإِذَا كَانَ خَلْفَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَقَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَهُوَ وَارِدٌ بَعْدَهُ.
وَقَدْ فُسِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْوَجْهَيْنِ فَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ
أَحْوَالُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ
ووَ مَتاعاً عَطَفٌ عَلَى رَحْمَةً، أَيْ إِلَّا رَحْمَةً هِيَ تَمْتِيعٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّ كل حَيّ صائر إِلَى الْمَوْتِ فَإِذَا نَجَا مِنْ مَوْتَةٍ اسْتَقْبَلَتْهُ مَوْتَةٌ أُخْرَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ حُبَّ زِيَادَةِ الْحَيَاةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ لَهُ عَن الْمَوْت.
[٤٥، ٤٦]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)
تَخَلَّصَ الْكَلَامُ مِنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ إِلَى عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْمُبَلَّغَةِ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَبِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِتَذْكِيرِ الْقُرْآنِ إِيَّاهُمْ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَعَلَى الْبَعْثِ.
وَبِنَاءُ فِعْلِ قِيلَ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ قِيلَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ.
وَمَا بَيْنَ الْأَيْدِي يُرَادُ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَمَا هُوَ خَلْفٌ يُرَادُ مِنْهُ الْمَاضِي، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ [آل عمرَان: ٥٠]، أَيْ مَا تَقَدَّمَنِي. وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ هَذَيْنِ التَّرْكِيبَيْنِ تَمْثِيلَانِ فَتَارَةً يَنْظُرُونَ إِلَى تَمْثِيلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِسَائِرٍ إِلَى مَكَانٍ فَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ مَا سَيَرِدُ هُوَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي مِنْ وَرَائِهِ هُوَ مَا خَلَّفَهُ خَلْفَهُ فِي سَيْرِهِ، وَتَارَةً يَنْظُرُونَ إِلَى تَمْثِيلِ الْمُضَافِ بِسَائِرٍ، فَهُوَ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدِيِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَقَدْ سَبَقَهُ فِي السَّيْرِ فَهُوَ سَابِقٌ لَهُ وَإِذَا كَانَ خَلْفَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَقَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَهُوَ وَارِدٌ بَعْدَهُ.
وَقَدْ فُسِّرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْوَجْهَيْنِ فَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ
أَحْوَالُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَكُمْ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ
وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ وَسُفْيَانَ. وَمَتَى حُمِلَ أَحَدُ الْمَوْصُولَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَجَبَ تَقْدِيرُ مُضَافَيْنِ قَبْلَ مَا الْمَوْصُولَةِ هُمَا الْمَفْعُولُ، أَيِ اتَّقُوا مِثْلَ أَحْوَالِ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُم، أَو مثل أَحْوَالِ مَا خَلْفَكُمْ، وَلَا يُقَدَّرُ مُضَافَانِ فِي مُقَابَلَهِ لِأَن مَا صدق مَا الْمَوْصُولَةِ فِيهِ حِينَئِذٍ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَفْعُولُ اتَّقُوا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فِي سُورَة الْبَقَرَة [٦٦].
و (لعلّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ تُرْجَى لَكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اتَّقَوْا حَذِرُوا مَا يُوقِعُ فِي الْمُتَّقَى فَارْتَكَبُوا وَاجْتَنَبُوا وَبَادَرُوا بِالتَّوْبَةِ فِيمَا فَرَطَ فَرَضِيَ رَبُّهُمْ عَنْهُمْ فَرَحِمَهُمْ بِالثَّوَابِ وَجَنَّبَهُمُ الْعِقَابَ. وَالْكَلَامُ فِي (لَعَلَّ) الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١].
وَجَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: كَانُوا مُعْرِضِينَ.
وَجُمْلَةُ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، فَفِيهَا تَعْمِيمُ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ مَا يَبَلَّغُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا أَعْرَضُوا، وَالْإِعْرَاضُ دَأْبُهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقَالُ لَهُمْ.
وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَنْزِلُ فَيَقْرَؤُهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَأُطْلِقَ عَلَى بُلُوغِهَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْإِتْيَانِ وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِلتَّنْوِيهِ بِالْآيَاتِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كَلَامِ رَبِّهِمْ كُفْرًا بِنِعْمَةِ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ.
وَمَا نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا تَأْتِيهِمْ آيَةٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَجُمْلَةُ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَوضِع الْحَال.
[٤٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
كَانُوا مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ يَشِحُّونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَيَمْنَعُونَهُمُ الْبَذْلَ تَشَفِّيًا مِنْهُمْ فَإِذَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ سَأَلَهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ
و (لعلّ) لِلرَّجَاءِ، أَيْ تُرْجَى لَكُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا اتَّقَوْا حَذِرُوا مَا يُوقِعُ فِي الْمُتَّقَى فَارْتَكَبُوا وَاجْتَنَبُوا وَبَادَرُوا بِالتَّوْبَةِ فِيمَا فَرَطَ فَرَضِيَ رَبُّهُمْ عَنْهُمْ فَرَحِمَهُمْ بِالثَّوَابِ وَجَنَّبَهُمُ الْعِقَابَ. وَالْكَلَامُ فِي (لَعَلَّ) الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١].
وَجَوَابُ إِذا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: كَانُوا مُعْرِضِينَ.
وَجُمْلَةُ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، فَفِيهَا تَعْمِيمُ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ مَا يَبَلَّغُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا أَعْرَضُوا، وَالْإِعْرَاضُ دَأْبُهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقَالُ لَهُمْ.
وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي تَنْزِلُ فَيَقْرَؤُهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَأُطْلِقَ عَلَى بُلُوغِهَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْإِتْيَانِ وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِلتَّنْوِيهِ بِالْآيَاتِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كَلَامِ رَبِّهِمْ كُفْرًا بِنِعْمَةِ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ.
وَمَا نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا تَأْتِيهِمْ آيَةٌ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَجُمْلَةُ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَوضِع الْحَال.
[٤٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
كَانُوا مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَمِ يَشِحُّونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَيَمْنَعُونَهُمُ الْبَذْلَ تَشَفِّيًا مِنْهُمْ فَإِذَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ سَأَلَهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ
31
مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَنْ يُعْطُوهُمْ مَا كَانُوا يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: ١٣٦] فَلَعَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفُقَرَاءِ سَأَلُوا الْمُشْرِكِينَ مَا اعْتَادُوا يُعْطُونَهُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ فَيَقُولُونَ أَعْطُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَقَدْ سَمِعُوا مِنْهُمْ كَلِمَاتٍ إِسْلَامِيَّةً لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَهَا مِنْ قَبْلُ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُحَاجُّونَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ وَلَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ كَائِنٌ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَلَّلُونَ لِمَنْعِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ فَيَقُولُونَ: لَا نُطْعِمُ مِنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا رزقناه الله فَلَمَّا ذَا لَمْ يَرْزُقْكُمْ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَكُمْ كَمَا أَطْعَمَنَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ جَهْلًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ وَضْعَ صِفَاتِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعِهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَإِظْهَارُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قَالُوا أَنُطْعِمُ إِلَخْ لِنُكْتَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ صُدُورَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ وَلِأَجْلِ إِيمَانِ الَّذِينَ سُئِلَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ.
رَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي شِدَّةٍ أَصَابَتِ النَّاسَ فَشَحَّ فِيهَا الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَمَنَعُوهُمْ مَا كَانُوا يُعْطُونَهُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بِهِ أَيْ خَاطَبُوا الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ قَالُوا فِي شَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: ١٦٨] وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: ١١] أَيْ قَالُوا ذَلِكَ تَعِلَّةً لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُطْعِمُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُطْعِمُ من لَو شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُمْ بِحَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَطْعِمُ.
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَوَابِهِمْ بِالْإِطْعَامِ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْإِنْفَاقُ: إِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ يُرَادُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ سُئِلُوا الْإِنْفَاقَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِكْسَاءَ وَالْإِسْكَانَ فَأَجَابُوا بِإِمْسَاكِ الطَّعَامِ وَهُوَ أَيْسَرُ
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: ١٣٦] فَلَعَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْفُقَرَاءِ سَأَلُوا الْمُشْرِكِينَ مَا اعْتَادُوا يُعْطُونَهُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ فَيَقُولُونَ أَعْطُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَقَدْ سَمِعُوا مِنْهُمْ كَلِمَاتٍ إِسْلَامِيَّةً لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَهَا مِنْ قَبْلُ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُحَاجُّونَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ وَلَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ كَائِنٌ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَتَعَلَّلُونَ لِمَنْعِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ فَيَقُولُونَ: لَا نُطْعِمُ مِنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا رزقناه الله فَلَمَّا ذَا لَمْ يَرْزُقْكُمْ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَكُمْ كَمَا أَطْعَمَنَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ جَهْلًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ وَضْعَ صِفَاتِ اللَّهِ فِي مَوَاضِعِهَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَإِظْهَارُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: قَالُوا أَنُطْعِمُ إِلَخْ لِنُكْتَةِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ صُدُورَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ وَلِأَجْلِ إِيمَانِ الَّذِينَ سُئِلَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ.
رَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي شِدَّةٍ أَصَابَتِ النَّاسَ فَشَحَّ فِيهَا الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَمَنَعُوهُمْ مَا كَانُوا يُعْطُونَهُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُخَاطَبِ بِهِ أَيْ خَاطَبُوا الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ قَالُوا فِي شَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: ١٦٨] وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: ١١] أَيْ قَالُوا ذَلِكَ تَعِلَّةً لِعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُطْعِمُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُطْعِمُ من لَو شَاءَ اللَّهُ لَأَطْعَمَهُمْ بِحَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَطْعِمُ.
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَوَابِهِمْ بِالْإِطْعَامِ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْإِنْفَاقُ: إِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ يُرَادُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ سُئِلُوا الْإِنْفَاقَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْإِكْسَاءَ وَالْإِسْكَانَ فَأَجَابُوا بِإِمْسَاكِ الطَّعَامِ وَهُوَ أَيْسَرُ
32
أَنْوَاعِ الْإِنْفَاقِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَيِّرُونَ مَنْ يَشِحُّ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَإِذَا مَنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ الطَّعَامَ كَانَ مَنْعُهُمْ مَا هُوَ فَوْقَهُ أَحْرَى.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ يُخَاطِبُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ مَا أَنْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ مُتَصَرِّفٌ فِي أَحْوَالِنَا إِلَّا مُتَمَكِّنٌ مِنْكُمُ الضَّلَالُ الْوَاضِحُ. وَجَعَلُوهُ ضَلَالًا لِجَهْلِهِمْ بِصِفَاتِ اللَّهِ، وَجَعَلُوهُ مُبِينًا لِأَنَّهُمْ يُحَكِّمُونَ الظَّوَاهِرَ مِنْ أَسْبَابِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَعَدَمِهِ.
وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الْمُسْتَفَادِ من الِاسْتِفْهَام.
[٤٨، ٥٠]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٥٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
ذَكَرَ عَقِبَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا مَنَعُوهُمُ الْإِنْفَاقَ بِعِلَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَطْعَمَهُمُ اسْتِهْزَاءً آخَرَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي تَهْدِيدِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُمْ هَذَا الْوَعْدَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّهَكُّمِ وَالتَّكْذِيبِ. وَأُطْلِقَ الْوَعْدُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِالشَّرِّ لِأَنَّ الْوَعْدَ أَعَمُّ وَيَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْقَرِينَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْوَعْدِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِوَعْدِ الْعَذَابِ كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
وَإِذَا قَدْ كَانَ اسْتِهْزَاؤُهُمْ هَذَا يَسُوءُ الْمُسْلِمِينَ أَعْلَمَ اللَّهُ وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْوَعْدَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُمْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَيْحَةً تَأْخُذُهُمْ فَلَا يُفْلِتُونَ مِنْ أَخْذَتِهَا.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ يُخَاطِبُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ مَا أَنْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ مُتَصَرِّفٌ فِي أَحْوَالِنَا إِلَّا مُتَمَكِّنٌ مِنْكُمُ الضَّلَالُ الْوَاضِحُ. وَجَعَلُوهُ ضَلَالًا لِجَهْلِهِمْ بِصِفَاتِ اللَّهِ، وَجَعَلُوهُ مُبِينًا لِأَنَّهُمْ يُحَكِّمُونَ الظَّوَاهِرَ مِنْ أَسْبَابِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَعَدَمِهِ.
وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الْمُسْتَفَادِ من الِاسْتِفْهَام.
[٤٨، ٥٠]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٥٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
ذَكَرَ عَقِبَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ لَمَّا مَنَعُوهُمُ الْإِنْفَاقَ بِعِلَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَطْعَمَهُمُ اسْتِهْزَاءً آخَرَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي تَهْدِيدِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فَكَانُوا يَسْأَلُونَهُمْ هَذَا الْوَعْدَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّهَكُّمِ وَالتَّكْذِيبِ. وَأُطْلِقَ الْوَعْدُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِالشَّرِّ لِأَنَّ الْوَعْدَ أَعَمُّ وَيَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْقَرِينَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْوَعْدِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِوَعْدِ الْعَذَابِ كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً | لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا |
33
وَفِعْلُ يَنْظُرُونَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّظْرَةِ وَهُوَ التَّرَقُّبِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ فِي سُورَة [الْأَنْعَام: ١٥٨].
وَالصَّيْحَةُ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ الْخَارِجُ مِنْ حَلْقِ الْإِنْسَانِ لِزَجْرٍ، أَوِ اسْتِغَاثَةٍ. وَأُطْلِقَتِ الصَّيْحَةُ فِي مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى صَوْتِ الصَّاعِقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ ثَمُودٍ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: ٧٣]. فَالصَّيْحَةُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَعْقَةً أَوْ نَفْخَةً عَظِيمَةً. وَالْمُرَادُ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى الَّتِي يَنْقَضِي بِهَا نِظَامُ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَالْأُخْرَى تَنْشَأُ عَنْهَا النَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، فَيَكُونُ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ خَارِجًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إِعْرَاضًا عَنْ جَوَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا حَقِيقَةَ الِاسْتِفْهَامِ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْأَجْدَرُ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ.
وَمَعْنَى تَأْخُذُهُمْ تُهْلِكُهُمْ فَجْأَةً، شُبِّهَ حُلُولُ صَيْحَةِ الْعِقَابِ بِحُلُولِ الْمُغِيرِينَ عَلَى
الْحَيِّ لِأَخْذِ أَنْعَامِهِ وَسَبْيِ نِسَائِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْحُلُولِ فِعْلُ تَأْخُذُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: ١٠] أَيْ تَحُلُّ بِهِمْ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ.
وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ يَهْلِكُونَ بِصَعْقَتِهَا.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الصَّيْحَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَهِيَ صَيْحَةُ صَائِحِينَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ يُصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً تُنْذِرُ بِحُلُولِ الْقَتْلِ، فَيَكُونَ إِنْذَارًا بِعَذَابِ الدُّنْيَا. ولعلها صَيْحَة الصَّارِخ الَّذِي جَاءَهُمْ بِخَبَرِ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِرَكْبِ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ.
ويَخِصِّمُونَ مِنَ الْخُصُومَةِ وَالْخِصَامِ وَهُوَ الْجِدَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٥]، وَقَوْلِهِ: هذانِ خَصْمانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [١٩].
وَأَصْلُهُ: يَخْتَصِمُونَ فَوَقَعَ إِبْدَالُ التَّاءِ ضَادًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْإِدْغَامِ.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا، فَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ: فَقَرَأَ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَخِصِّمُونَ
وَالصَّيْحَةُ: الصَّوْتُ الشَّدِيدُ الْخَارِجُ مِنْ حَلْقِ الْإِنْسَانِ لِزَجْرٍ، أَوِ اسْتِغَاثَةٍ. وَأُطْلِقَتِ الصَّيْحَةُ فِي مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى صَوْتِ الصَّاعِقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ ثَمُودٍ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: ٧٣]. فَالصَّيْحَةُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَعْقَةً أَوْ نَفْخَةً عَظِيمَةً. وَالْمُرَادُ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى الَّتِي يَنْقَضِي بِهَا نِظَامُ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَالْأُخْرَى تَنْشَأُ عَنْهَا النَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، فَيَكُونُ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ خَارِجًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إِعْرَاضًا عَنْ جَوَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا حَقِيقَةَ الِاسْتِفْهَامِ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْأَجْدَرُ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ.
وَمَعْنَى تَأْخُذُهُمْ تُهْلِكُهُمْ فَجْأَةً، شُبِّهَ حُلُولُ صَيْحَةِ الْعِقَابِ بِحُلُولِ الْمُغِيرِينَ عَلَى
الْحَيِّ لِأَخْذِ أَنْعَامِهِ وَسَبْيِ نِسَائِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْحُلُولِ فِعْلُ تَأْخُذُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: ١٠] أَيْ تَحُلُّ بِهِمْ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ.
وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ يَهْلِكُونَ بِصَعْقَتِهَا.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الصَّيْحَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَهِيَ صَيْحَةُ صَائِحِينَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ يُصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً تُنْذِرُ بِحُلُولِ الْقَتْلِ، فَيَكُونَ إِنْذَارًا بِعَذَابِ الدُّنْيَا. ولعلها صَيْحَة الصَّارِخ الَّذِي جَاءَهُمْ بِخَبَرِ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِرَكْبِ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ.
ويَخِصِّمُونَ مِنَ الْخُصُومَةِ وَالْخِصَامِ وَهُوَ الْجِدَالُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٥]، وَقَوْلِهِ: هذانِ خَصْمانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [١٩].
وَأَصْلُهُ: يَخْتَصِمُونَ فَوَقَعَ إِبْدَالُ التَّاءِ ضَادًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْإِدْغَامِ.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا، فَقَرَأَهُ الْجَمِيعُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ: فَقَرَأَ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَخِصِّمُونَ
34
بِتَشْدِيدِ الصَّادِ مَكْسُورَةً عَلَى اعْتِبَارِ التَّاءِ الْمُبْدَلَةِ صَادًا وَالْمُسَكَّنَةِ لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ، أُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْخَاءِ الَّتِي كَانَتْ سَاكِنَةً. وَقَرَأَهُ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ بِسُكُونِ الْخَاءِ سُكُونًا مُخْتَلَسًا (بِالْفَتْحِ) لِأَجْلِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَبِكَسْرِ الصَّادِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ وَخلف يَخِصِّمُونَ بِكَسْر الْخَاءِ وَكَسْرُ الصَّادِ مُشَدَّدَةً. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ يَخِصِّمُونَ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُخَفَّفَةً مُضَارِعُ (خَصَمَ) قِيلَ بِمَعْنَى جَادَلَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر يَخِصِّمُونَ بِإِسْكَان الْخَاءِ وَبِكَسْرِ الصَّادِ مُشَدِّدَةً عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ.
وَالِاخْتِصَامُ: اخْتِصَامُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ أَوْ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَخْرُجُ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ مُفَاجَآتٍ لَهُمْ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ لِلنَّذِيرِ. وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ وَقْتُ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا تَأْخُذُهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ أَنَّ الصَّيْحَةَ تَأْخُذُهُمْ.
وَفُرِّعَ عَلَى تَأْخُذُهُمْ جُمْلَةُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أَيْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَوْصِيَةٍ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحْتَضَرِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ صَيْحَةَ الْوَاقِعَةِ كَانَ قَوْلُهُ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ السُّرْعَةِ بَيْنَ الصَّيْحَةِ وَهَلَاكِهِمْ، إِذْ لَا يَكُونُ الْمُرَادُ مَدْلُولَهُ الصَّرِيحَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ غَيْرَهُمْ بَعْدَهُمْ إِذِ الْهَلَاكُ
يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ صَيْحَةَ الْقِتَالِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى مَوَاقِعِ الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ إِلَى تَرَقُّبِ وُصُولِ جَيْشِ الْفَتْحِ يَوْمَ الْفَتْح فَلَا يتمكنون مِنَ الْحَدِيثِ مَعَ مَنْ يُوصُونَهُ بِأَهْلِيهِمْ.
وَالتَّوْصِيَةُ: مَصْدَرُ وَصَّى الْمُضَاعَفِ وَتَنْكِيرُهَا لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً مَا.
وَالِاخْتِصَامُ: اخْتِصَامُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ أَوْ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَخْرُجُ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ مُفَاجَآتٍ لَهُمْ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ لِلنَّذِيرِ. وَإِسْنَادُ الْأَخْذِ إِلَى الصَّيْحَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ وَقْتُ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا تَأْخُذُهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ وَهُوَ أَنَّ الصَّيْحَةَ تَأْخُذُهُمْ.
وَفُرِّعَ عَلَى تَأْخُذُهُمْ جُمْلَةُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أَيْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ تَوْصِيَةٍ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحْتَضَرِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ صَيْحَةَ الْوَاقِعَةِ كَانَ قَوْلُهُ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ السُّرْعَةِ بَيْنَ الصَّيْحَةِ وَهَلَاكِهِمْ، إِذْ لَا يَكُونُ الْمُرَادُ مَدْلُولَهُ الصَّرِيحَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ غَيْرَهُمْ بَعْدَهُمْ إِذِ الْهَلَاكُ
يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّيْحَةِ صَيْحَةَ الْقِتَالِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى مَوَاقِعِ الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ إِلَى تَرَقُّبِ وُصُولِ جَيْشِ الْفَتْحِ يَوْمَ الْفَتْح فَلَا يتمكنون مِنَ الْحَدِيثِ مَعَ مَنْ يُوصُونَهُ بِأَهْلِيهِمْ.
وَالتَّوْصِيَةُ: مَصْدَرُ وَصَّى الْمُضَاعَفِ وَتَنْكِيرُهَا لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً مَا.
35
وَقَوْلُهُ: وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ يجوز أَن يكون عَطْفًا عَلَى تَوْصِيَةً، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِمْ كَشَأْنِ الَّذِي يُفَاجِئُهُ ذُعْرٌ فَيُبَادِرُ بِافْتِقَادِ حَالِ أَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ «لَا يَسْتَطِيعُونَ» فَيَكُونُ مِمَّا شَمِلَهُ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ، أَيْ فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ، أَيْ هُمْ هَالِكُونَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ صَيْحَةُ الْحَرْبِ يُخَصَّصُ ضَمِيرُ يَرْجِعُونَ بِكُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هَلَكُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُتَوَلُّونَ كِبْرَ التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، أَوِ الَّذِينَ أُكْمِلُوا بِالْهَلَاكِ يَوْمَ الْفَتْحِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ الَّذِي قُتِلَ يَوْم الْفَتْح.
[١٥]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥١]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ مَوْضِعَ الْحَالِ، أَيْ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً وَقَدْ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَخْ.. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ وَاقِعٌ بَيْنِ جُمْلَةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٤٩] إِلَخْ... وَجُمْلَةِ وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا [يس:
٦٦].
وَالْمَقْصُودُ: وَعْظُهُمْ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَبِمَا وَرَاءَهُ.
وَالْمَاضِي مُسْتَعْمَلٌ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مِثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]. وَالْمَعْنَى: وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ، أَيْ وَيَنْفُخُ نَافِخٌ فِي الصُّورِ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ، وَاسْمُهُ إِسْرَافِيلُ. وَهَذِهِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨].
وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ وَهِيَ حُصُولُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا سَرِيعًا وَبِدُونِ تَهَيُّؤٍ. وَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ السَّابِقَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ فَإِذَا النَّاسُ كُلُّهُمْ وَمِنْهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ.
والْأَجْداثِ: جَمْعُ جَدَثٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْقَبْرُ.
ويَنْسِلُونَ يَمْشُونَ مَشْيًا سَرِيعًا. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَوَرَدَ مِنْ بَابِ نَصَرَ قَلِيلًا.
وَالْمَصْدَرُ: النَّسَلَانِ، عَلَى وَزْنِ الْغَلَيَانِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفِعْلِ مِنَ التَّقْلِيبِ وَالِاضْطِرَابِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قُبِرُوا بَعْدَ الصَّيْحَةِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ «لَا يَسْتَطِيعُونَ» فَيَكُونُ مِمَّا شَمِلَهُ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ، أَيْ فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ، أَيْ هُمْ هَالِكُونَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ صَيْحَةُ الْحَرْبِ يُخَصَّصُ ضَمِيرُ يَرْجِعُونَ بِكُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هَلَكُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُتَوَلُّونَ كِبْرَ التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، أَوِ الَّذِينَ أُكْمِلُوا بِالْهَلَاكِ يَوْمَ الْفَتْحِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ الَّذِي قُتِلَ يَوْم الْفَتْح.
[١٥]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥١]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ مَوْضِعَ الْحَالِ، أَيْ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً وَقَدْ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَخْ.. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ وَاقِعٌ بَيْنِ جُمْلَةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٤٩] إِلَخْ... وَجُمْلَةِ وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا [يس:
٦٦].
وَالْمَقْصُودُ: وَعْظُهُمْ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَبِمَا وَرَاءَهُ.
وَالْمَاضِي مُسْتَعْمَلٌ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مِثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]. وَالْمَعْنَى: وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ، أَيْ وَيَنْفُخُ نَافِخٌ فِي الصُّورِ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ، وَاسْمُهُ إِسْرَافِيلُ. وَهَذِهِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨].
وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ وَهِيَ حُصُولُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا سَرِيعًا وَبِدُونِ تَهَيُّؤٍ. وَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ السَّابِقَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ فَإِذَا النَّاسُ كُلُّهُمْ وَمِنْهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ.
والْأَجْداثِ: جَمْعُ جَدَثٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ الْقَبْرُ.
ويَنْسِلُونَ يَمْشُونَ مَشْيًا سَرِيعًا. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَوَرَدَ مِنْ بَابِ نَصَرَ قَلِيلًا.
وَالْمَصْدَرُ: النَّسَلَانِ، عَلَى وَزْنِ الْغَلَيَانِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفِعْلِ مِنَ التَّقْلِيبِ وَالِاضْطِرَابِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قُبِرُوا بَعْدَ الصَّيْحَةِ
الَّتِي أَخَذَتْهُمْ فَإِنْ كَانَت الصَّيْحَة صَيْحَة الْوَاقِعَةُ فَالْأَجْدَاثُ هِيَ مَا يَعْلُوهُمْ مِنَ التُّرَابِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الصَّيْحَةِ وَالنَّفْخَةِ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً إِذْ لَا يَبْقَى بَعْدَ تِلْكَ الصَّيْحَةِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ لِيُدْفِنَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّيْحَةُ صَيْحَةَ الْفَزَعِ إِلَى الْقَتْلِ فَالْأَجْدَاثُ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِثْلُ قَلِيبِ بَدْرٍ.
وَمَعْنَى: إِلى رَبِّهِمْ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِمْ وَحِسَابِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ ب يَنْسِلُونَ.
[٥٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٢]
قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالِ بَعْدَ حِكَايَةِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَإِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مَقَالِهِمْ حينما يرَوْنَ حقية الْبَعْثِ.
وَيَا وَيْلَنا كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْوَاقِعُ فِي مُصِيبَةٍ أَوِ الْمُتَحَسِّرُ. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَاب عِنْد مَا بُعِثُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩].
وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي اتِّبَاعًا لِحِكَايَةِ مَا قَبْلَهُ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ.
وَحَرْفُ النِّدَاءِ الدَّاخِلُ عَلَى وَيْلَنا لِلتَّنْبِيهِ وَتَنْزِيلِ الْوَيْلِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْمَعُ فَيُنَادَى لِيَحْضُرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا وَيْلَتى فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٢].
ومَنْ اسْتِفْهَامٌ عَنْ فَاعِلِ الْبَعْثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالتَّحَسُّرِ مِنْ حُصُولِ الْبَعْثِ.
وَلَمَّا كَانَ الْبَعْثُ عِنْدَهُمْ مُحَالًا كَنَوْا عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ حُصُولِهِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْغَرِيبَةَ تَتَوَجَّهُ الْعُقُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ فَاعِلِهَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بُعِثُوا وَأُزْجِيَ بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ عَلِمُوا أَنَّهُ بَعْثٌ فَعَلَهُ مَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ.
وَالْمَرْقَدُ: مَكَانُ الرُّقَادِ. وَحَقِيقَةُ الرُّقَادِ: النَّوْمُ. وَأَطْلَقُوا الرُّقَادَ عَلَى الْمَوْتِ وَالِاضْطِجَاعِ فِي الْقُبُورِ تَشْبِيهًا بِحَالَةِ الرَّاقِدِ.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ اسْتَحْضَرَتْ نُفُوسُهُمْ مَا كَانُوا يُنْذَرُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاسْتَأْنَفُوا عَنْ
وَمَعْنَى: إِلى رَبِّهِمْ إِلَى حُكْمِ رَبِّهِمْ وَحِسَابِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ ب يَنْسِلُونَ.
[٥٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٢]
قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالِ بَعْدَ حِكَايَةِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَإِحَالَتِهِمْ إِيَّاهُ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مَقَالِهِمْ حينما يرَوْنَ حقية الْبَعْثِ.
وَيَا وَيْلَنا كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْوَاقِعُ فِي مُصِيبَةٍ أَوِ الْمُتَحَسِّرُ. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَاب عِنْد مَا بُعِثُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩].
وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي اتِّبَاعًا لِحِكَايَةِ مَا قَبْلَهُ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ.
وَحَرْفُ النِّدَاءِ الدَّاخِلُ عَلَى وَيْلَنا لِلتَّنْبِيهِ وَتَنْزِيلِ الْوَيْلِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْمَعُ فَيُنَادَى لِيَحْضُرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ يَا وَيْلَتى فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٢].
ومَنْ اسْتِفْهَامٌ عَنْ فَاعِلِ الْبَعْثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالتَّحَسُّرِ مِنْ حُصُولِ الْبَعْثِ.
وَلَمَّا كَانَ الْبَعْثُ عِنْدَهُمْ مُحَالًا كَنَوْا عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ حُصُولِهِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْغَرِيبَةَ تَتَوَجَّهُ الْعُقُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ فَاعِلِهَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بُعِثُوا وَأُزْجِيَ بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ عَلِمُوا أَنَّهُ بَعْثٌ فَعَلَهُ مَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ.
وَالْمَرْقَدُ: مَكَانُ الرُّقَادِ. وَحَقِيقَةُ الرُّقَادِ: النَّوْمُ. وَأَطْلَقُوا الرُّقَادَ عَلَى الْمَوْتِ وَالِاضْطِجَاعِ فِي الْقُبُورِ تَشْبِيهًا بِحَالَةِ الرَّاقِدِ.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنِ اسْتَحْضَرَتْ نُفُوسُهُمْ مَا كَانُوا يُنْذَرُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاسْتَأْنَفُوا عَنْ
37
تَعَجُّبِهِمْ قَوْلَهُمْ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا سَبَبَ مَا تَعَجَّبُوا مِنْهُ فَبَطَلَ الْعَجَبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُتَحَسِّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَقُولَهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كُلٌّ يَظُنُّ أَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلسَّبَبِ فَيُرِيدُ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهِ.
وَأَتَوْا فِي التَّعْبِيرِ عَنِ اسْمِ الْجَلالَة بِصفة الرحمان إِكْمَالًا لِلتَّحَسُّرِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ بِذِكْرِ مَا كَانَ مُقَارَنًا لِلْبَعْثِ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارُ هَذَا الِاسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْمَرْئِيَّةِ لِجَمِيعِهِمْ وَهِيَ حَالَةُ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ عَلَى أَنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ.
وَجَمْعُ الْمُرْسَلِينَ مَعَ أَنَّ الْمَحْكِيَّ كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يس: ٤٨] إِمَّا لِأَنَّهُمُ اسْتَحْضَرُوا أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَاعِثُهُ إِحَالَتَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُرْسِلُ بَشَرًا رَسُولًا، فَكَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ أَحَدًا يَأْتِي بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] فَلَمَّا تَحَسَّرُوا عَلَى خَطَئِهِمْ ذَكَرُوهُ بِمَا يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ سَبَبَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ من سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٠٥]، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣٧] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ المبعوثين من جَمِيع الْأُمَمِ فَعَلِمَتْ كُلُّ أُمَّةٍ خَطَأَهَا فِي تَكْذِيبِ رَسُولِهَا وَخَطَأِ غَيْرِهَا فِي تَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ فَنَطَقُوا جَمِيعًا بِمَا يُفْصِحُ عَنِ الْخَطَأَيْنِ، وَقَدْ مَضَى أَنَّ ضَمِيرَ فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ [يس: ٥٣] يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ يُجِيبُونَ بِهِ قَوْلَ الْكُفَّارِ مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فَهَذَا جَوَابٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَنْ بَعَثَهُمْ مَعَ تَنْدِيمِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِينَ أَبْلَغَهُمُ الرُّسُلُ
وَأَتَوْا فِي التَّعْبِيرِ عَنِ اسْمِ الْجَلالَة بِصفة الرحمان إِكْمَالًا لِلتَّحَسُّرِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ بِذِكْرِ مَا كَانَ مُقَارَنًا لِلْبَعْثِ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَهُوَ إِنْكَارُ هَذَا الِاسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْمَرْئِيَّةِ لِجَمِيعِهِمْ وَهِيَ حَالَةُ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَجُمْلَةُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ عَلَى أَنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ.
وَجَمْعُ الْمُرْسَلِينَ مَعَ أَنَّ الْمَحْكِيَّ كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يس: ٤٨] إِمَّا لِأَنَّهُمُ اسْتَحْضَرُوا أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَاعِثُهُ إِحَالَتَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُرْسِلُ بَشَرًا رَسُولًا، فَكَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ أَحَدًا يَأْتِي بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] فَلَمَّا تَحَسَّرُوا عَلَى خَطَئِهِمْ ذَكَرُوهُ بِمَا يَشْمَلُهُ وَيَشْمَلُ سَبَبَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ من سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٠٥]، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣٧] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ المبعوثين من جَمِيع الْأُمَمِ فَعَلِمَتْ كُلُّ أُمَّةٍ خَطَأَهَا فِي تَكْذِيبِ رَسُولِهَا وَخَطَأِ غَيْرِهَا فِي تَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ فَنَطَقُوا جَمِيعًا بِمَا يُفْصِحُ عَنِ الْخَطَأَيْنِ، وَقَدْ مَضَى أَنَّ ضَمِيرَ فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ [يس: ٥٣] يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ يُجِيبُونَ بِهِ قَوْلَ الْكُفَّارِ مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فَهَذَا جَوَابٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَنْ بَعَثَهُمْ مَعَ تَنْدِيمِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِينَ أَبْلَغَهُمُ الرُّسُلُ
38
ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاسْمُ الرَّحْمنُ حِينَئِذٍ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ لِزِيَادَةِ تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ عَلَى تَجَاهُلِهِمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
[٥٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٣]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣)
فَذْلَكَةٌ لِجُمْلَةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٤٩] إِلَى قَوْلِهِ: وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: ٥٢] لِأَنَّ النَّفْخَ مُرَادِفٌ لِلصَّيْحَةِ فِي إِطْلَاقِهَا الْمَجَازِيِّ، فَاقْتِرَانُ فِعْلِ كَانَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيث لتأويل النَّفْي مَأْخُوذٌ مِنْ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: ٥١] بِمَعْنَى النَّفْخَةِ يُنْظَرُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِ صَيْحَةً. وَوَصْفُهَا بِ واحِدَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، أَيْ مَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْخُ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً لَا يُكَرَّرُ اسْتِدْعَاؤُهُمْ لِلْحُضُورِ بَلِ النَّفْخُ الْوَاحِدُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الْقُبُورِ وَيَسِيرُ بِهِمْ وَيُحْضِرُهُمْ لِلْحِسَابِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] فَتِلْكَ نَفْخَةٌ سَابِقَةٌ تَقَعُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيَفْنَى بِهَا النَّاسُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فِي قُوَّةِ التَّكْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: ٥١] كَانَ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١] فَكَأَنَّهُ مِثْلُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١] وفَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، وَإِعَادَةُ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ إِيمَاءٌ إِلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُقْتَرِنَتَيْنِ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ حَتَّى كَانَ كِلَيْهِمَا مُفَاجَأً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ آنِفًا.
وجَمِيعٌ نَعْتٌ لِلْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمْ جَمِيعُهُمْ، فَالتَّنْوِينُ فِي جَمِيعٌ عِوَضُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الرَّابِطِ لِلنَّعْتِ بِالْمَنْعُوتِ، أَيْ مُجْتَمِعُونَ لَا يَحْضُرُونَ أَفْوَاجًا وَزُرَافَاتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَاسْمُ الرَّحْمنُ حِينَئِذٍ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ لِزِيَادَةِ تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ عَلَى تَجَاهُلِهِمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
[٥٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٣]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣)
فَذْلَكَةٌ لِجُمْلَةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٤٩] إِلَى قَوْلِهِ: وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: ٥٢] لِأَنَّ النَّفْخَ مُرَادِفٌ لِلصَّيْحَةِ فِي إِطْلَاقِهَا الْمَجَازِيِّ، فَاقْتِرَانُ فِعْلِ كَانَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيث لتأويل النَّفْي مَأْخُوذٌ مِنْ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: ٥١] بِمَعْنَى النَّفْخَةِ يُنْظَرُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِ صَيْحَةً. وَوَصْفُهَا بِ واحِدَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، أَيْ مَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْخُ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً لَا يُكَرَّرُ اسْتِدْعَاؤُهُمْ لِلْحُضُورِ بَلِ النَّفْخُ الْوَاحِدُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الْقُبُورِ وَيَسِيرُ بِهِمْ وَيُحْضِرُهُمْ لِلْحِسَابِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] فَتِلْكَ نَفْخَةٌ سَابِقَةٌ تَقَعُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيَفْنَى بِهَا النَّاسُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فِي قُوَّةِ التَّكْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: ٥١] كَانَ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١] فَكَأَنَّهُ مِثْلُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: ٥١] وفَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، وَإِعَادَةُ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ إِيمَاءٌ إِلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُقْتَرِنَتَيْنِ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ حَتَّى كَانَ كِلَيْهِمَا مُفَاجَأً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ آنِفًا.
وجَمِيعٌ نَعْتٌ لِلْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمْ جَمِيعُهُمْ، فَالتَّنْوِينُ فِي جَمِيعٌ عِوَضُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الرَّابِطِ لِلنَّعْتِ بِالْمَنْعُوتِ، أَيْ مُجْتَمِعُونَ لَا يَحْضُرُونَ أَفْوَاجًا وَزُرَافَاتٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِنَصْبِ صَيْحَةً. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَائِل السُّورَة.
[٥٤]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٤]
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
إِنْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: ٥٢] حِكَايَةً لِكَلَامِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْبَعْثِ كَانَ هَذَا كَلَامًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فَاءٌ فَصِيحَةٌ وَهِيَ الَّتِي تفصح وتنبىء عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ:
فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٥٣] فَهُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ قَالُوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢]. وَالْمَعْنَى: فَقَدْ أَيْقَنْتُمْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ الرُّسُلَ صَدَقُوا فَالْيَوْمَ يَوْمُ
الْجَزَاءِ كَمَا كَانَ الرُّسُلُ يُنْذِرُونَكُمْ.
وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: ٥٢] مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ كَانَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ وَكَانَتْ جُمْلَةُ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٥٣] إِلَخْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمُفَرَّعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ.
وَ «الْيَوْمَ» ظَرْفٌ وَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ عَهْدُ حُضُورٍ يَعْنِي يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْعَدْلِ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بِالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءً قَاسِيًا لَكِنَّهُ عَادِلٌ لَا ظُلْمَ فِيهِ لِأَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِمَّا يُخَالُ أَنَّهُ مُتَجَاوِزٌ مُعَادَلَةَ الْجَرِيمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ إِلَّا عَلَى وِفَاقِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَعَلَى مِقْدَارِهِ.
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ.
وَوُقُوعُ نَفْسٌ وشَيْئاً وَهُمَا نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ انْتِفَاءَ كُلِّ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ وَانْتِفَاءَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ حَقِيقَةِ الظُّلْمِ وَذَلِكَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْفُسِ.. وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْفُسُ الْمُعَاقَبِينَ، أَيْ أَنَّ جَزَاءَهُمْ عَلَى حَسَبِ سَيِّئَاتِهِمْ جَزَاءٌ عَادِلٌ. وَإِذْ قَدْ كَانَ تَقْدِيرُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْعَدْلِ مُحَقَّقَةً فِي مِقْدَارِ جَزَائِهِمْ إِذْ كُلُّ عَدْلٍ غَيْرُ عَدْلِ اللَّهِ مُعَرَّضٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي نَفْسِ
[٥٤]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٤]
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
إِنْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: ٥٢] حِكَايَةً لِكَلَامِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْبَعْثِ كَانَ هَذَا كَلَامًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فَاءٌ فَصِيحَةٌ وَهِيَ الَّتِي تفصح وتنبىء عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ:
فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٥٣] فَهُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ قَالُوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢]. وَالْمَعْنَى: فَقَدْ أَيْقَنْتُمْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ الرُّسُلَ صَدَقُوا فَالْيَوْمَ يَوْمُ
الْجَزَاءِ كَمَا كَانَ الرُّسُلُ يُنْذِرُونَكُمْ.
وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: ٥٢] مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ كَانَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ وَكَانَتْ جُمْلَةُ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: ٥٣] إِلَخْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمُفَرَّعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ.
وَ «الْيَوْمَ» ظَرْفٌ وَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ عَهْدُ حُضُورٍ يَعْنِي يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْعَدْلِ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بِالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءً قَاسِيًا لَكِنَّهُ عَادِلٌ لَا ظُلْمَ فِيهِ لِأَنَّ نَفْيَ الظُّلْمِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِمَّا يُخَالُ أَنَّهُ مُتَجَاوِزٌ مُعَادَلَةَ الْجَرِيمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ إِلَّا عَلَى وِفَاقِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَعَلَى مِقْدَارِهِ.
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ.
وَوُقُوعُ نَفْسٌ وشَيْئاً وَهُمَا نَكِرَتَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ انْتِفَاءَ كُلِّ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ وَانْتِفَاءَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ حَقِيقَةِ الظُّلْمِ وَذَلِكَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْفُسِ.. وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْفُسُ الْمُعَاقَبِينَ، أَيْ أَنَّ جَزَاءَهُمْ عَلَى حَسَبِ سَيِّئَاتِهِمْ جَزَاءٌ عَادِلٌ. وَإِذْ قَدْ كَانَ تَقْدِيرُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْعَدْلِ مُحَقَّقَةً فِي مِقْدَارِ جَزَائِهِمْ إِذْ كُلُّ عَدْلٍ غَيْرُ عَدْلِ اللَّهِ مُعَرَّضٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِينِ، وَاللَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَاكِمَ إِلَّا بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أجر وَاحِد».
[٥٥- ٥٧]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٧]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧)
هَذَا من الْكَلَام الَّذِي يُلْقَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُقَالُ لِمَنْ حَقُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِعْلَامًا لَهُمْ بِنُزُولِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِعْلَانًا بِالْحَقَائِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ وَإِدْخَالًا لِلنَّدَامَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ طَلَبِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عُجِّلَ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى النَّارِ أَهْلُهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَاضِرِينَ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ.
وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمَ التَّنْوِيهُ بِذَلِكَ
الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
وَالشَّغْلُ: مَصْدَرُ شَغَلَهُ، إِذَا أَلْهَاهُ. يُقَالُ: شَغَلَهُ بِكَذَا عَنْ كَذَا فَاشْتَغَلَ بِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ جُعِلَ تَلَبُّسُهُمْ بِالشُّغْلِ كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ شُغْلٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَوْقِفِ أَهْلِ الْعَذَابِ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَنْظَرِ الْمُزْعِجَاتِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا لَا تَخْلُو مِنِ انْقِبَاضِ النُّفُوسِ، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشْغَلُهُمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذِكْرِهِ، فَقَوْلُهُ:
فِي شُغُلٍ خَبَرُ إِنَّ وفاكِهُونَ خَبَرٌ ثَانٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبٌ شُغْلٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ.
والفاكه: ذُو الْفُكَاهَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ الْمِزَاحُ بِالْكَلَامِ الْمُسِرِّ وَالْمُضْحِكِ، وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ: فَكِهَ بِكَسْرِ الْكَافِ، إِذَا مَزَحَ وَسُرَّ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهُ لَمْ
«إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أجر وَاحِد».
[٥٥- ٥٧]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٧]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧)
هَذَا من الْكَلَام الَّذِي يُلْقَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُقَالُ لِمَنْ حَقُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِعْلَامًا لَهُمْ بِنُزُولِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِعْلَانًا بِالْحَقَائِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ وَإِدْخَالًا لِلنَّدَامَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ طَلَبِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عُجِّلَ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى النَّارِ أَهْلُهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَاضِرِينَ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ.
وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمَ التَّنْوِيهُ بِذَلِكَ
الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
وَالشَّغْلُ: مَصْدَرُ شَغَلَهُ، إِذَا أَلْهَاهُ. يُقَالُ: شَغَلَهُ بِكَذَا عَنْ كَذَا فَاشْتَغَلَ بِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ جُعِلَ تَلَبُّسُهُمْ بِالشُّغْلِ كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ شُغْلٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَوْقِفِ أَهْلِ الْعَذَابِ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَنْظَرِ الْمُزْعِجَاتِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا لَا تَخْلُو مِنِ انْقِبَاضِ النُّفُوسِ، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشْغَلُهُمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذِكْرِهِ، فَقَوْلُهُ:
فِي شُغُلٍ خَبَرُ إِنَّ وفاكِهُونَ خَبَرٌ ثَانٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبٌ شُغْلٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ.
والفاكه: ذُو الْفُكَاهَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ الْمِزَاحُ بِالْكَلَامِ الْمُسِرِّ وَالْمُضْحِكِ، وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ: فَكِهَ بِكَسْرِ الْكَافِ، إِذَا مَزَحَ وَسُرَّ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهُ لَمْ
41
يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي قِلَّةَ اسْتِعْمَالِهِ، وَأَمَّا الْأَفْعَالُ غَيْرُ الثُّلَاثِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَثَلِ: لَا تُفَاكِهْ أَمَهْ وَلَا تَبُلْ عَلَى أَكْمَهْ، وَقَالَ تَعَالَى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فاكِهُونَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ أَلْفٍ بِصِيغَةِ مِثَالِ الْمُبَالَغَةِ.
وَجُمْلَةُ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَخ. وَالْمرَاد بأزواجهم: الْأَزْوَاجُ اللَّاتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنْهُنَّ مَنْ كُنَّ أَزْوَاجًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْ كُنَّ غَيْرَ مَمْنُوعَاتٍ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرَّعْد: ٢٣].
وَالظِّلَالُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِوَزْنِ فِعَالٍ بِكَسْرِ أَوله على أَنه جَمْعِ ظِلٍّ، أَيْ ظِلُّ الْجَنَّاتِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ (ظُلَّةَ) وَهِيَ مَا يَظِلُّ كَالْقِبَابِ. وَجُمِعَ الظِّلَالُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَجْلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْجَمْعِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ فِي ظِلٍّ أَوْ فِي ظُلَّةٍ.
والْأَرائِكِ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ، وَالْأَرِيكَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ السَّرِيرِ وَالْحَجَلَةِ، فَإِذَا كَانَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ سُمِّيَ الْجَمِيعُ أَرِيكَةً. وَهَذَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَيْءٍ مُرَكَّبٍ مِنْ شَيْئَيْنِ مِثْلِ الْمَائِدَةِ اسْمٌ لِلْخِوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ طَعَامٌ.
وَالِاتِّكَاءُ: هَيْئَةٌ بَيْنَ الِاضْطِجَاعِ وَالْجُلُوسِ وَهُوَ اضْطِجَاعٌ عَلَى جَنْبٍ دُونَ وَضْعِ
الرَّأْسِ وَالْكَتِفِ عَلَى الْفِرَاشِ. وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ وَكَأَ الْمَهْمُوزِ، إِذَا اعْتُمِدَ، أُبْدِلَتْ وَاوُهُ تَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ فِي تُجَاهٍ وَتُرَاثٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ فعل اتكأ لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَشُدُّ قَعْدَتَهُ وَيُرَسِّخُهَا بِضَرْبٍ مِنَ الِاضْطِجَاعِ. وَالِاسْمُ مِنْهُ التُّكَأَةُ بِوَزْنِ هُمَزَةٍ، وَهُوَ جُلُوسُ الْمُتَطَلِّبِ لِلرَّاحَةِ وَالْإِطَالَةِ وَهُوَ جِلْسَةُ أَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣١]. وَكَانَ الْمُتَرَفِّهُونَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ كَانَ ذَلِكَ عَادَةَ سَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَمَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَلِذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ يُعِينُ عَلَى امْتِدَادِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فاكِهُونَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ أَلْفٍ بِصِيغَةِ مِثَالِ الْمُبَالَغَةِ.
وَجُمْلَةُ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَخ. وَالْمرَاد بأزواجهم: الْأَزْوَاجُ اللَّاتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنْهُنَّ مَنْ كُنَّ أَزْوَاجًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْ كُنَّ غَيْرَ مَمْنُوعَاتٍ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرَّعْد: ٢٣].
وَالظِّلَالُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِوَزْنِ فِعَالٍ بِكَسْرِ أَوله على أَنه جَمْعِ ظِلٍّ، أَيْ ظِلُّ الْجَنَّاتِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ (ظُلَّةَ) وَهِيَ مَا يَظِلُّ كَالْقِبَابِ. وَجُمِعَ الظِّلَالُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَجْلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْجَمْعِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ فِي ظِلٍّ أَوْ فِي ظُلَّةٍ.
والْأَرائِكِ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ، وَالْأَرِيكَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ السَّرِيرِ وَالْحَجَلَةِ، فَإِذَا كَانَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ سُمِّيَ الْجَمِيعُ أَرِيكَةً. وَهَذَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَيْءٍ مُرَكَّبٍ مِنْ شَيْئَيْنِ مِثْلِ الْمَائِدَةِ اسْمٌ لِلْخِوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ طَعَامٌ.
وَالِاتِّكَاءُ: هَيْئَةٌ بَيْنَ الِاضْطِجَاعِ وَالْجُلُوسِ وَهُوَ اضْطِجَاعٌ عَلَى جَنْبٍ دُونَ وَضْعِ
الرَّأْسِ وَالْكَتِفِ عَلَى الْفِرَاشِ. وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ وَكَأَ الْمَهْمُوزِ، إِذَا اعْتُمِدَ، أُبْدِلَتْ وَاوُهُ تَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ فِي تُجَاهٍ وَتُرَاثٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ فعل اتكأ لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَشُدُّ قَعْدَتَهُ وَيُرَسِّخُهَا بِضَرْبٍ مِنَ الِاضْطِجَاعِ. وَالِاسْمُ مِنْهُ التُّكَأَةُ بِوَزْنِ هُمَزَةٍ، وَهُوَ جُلُوسُ الْمُتَطَلِّبِ لِلرَّاحَةِ وَالْإِطَالَةِ وَهُوَ جِلْسَةُ أَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣١]. وَكَانَ الْمُتَرَفِّهُونَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ كَانَ ذَلِكَ عَادَةَ سَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَمَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَلِذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ يُعِينُ عَلَى امْتِدَادِ
42
الْمَعِدَةِ فَتَقْبَلُ زِيَادَةَ الطَّعَامِ وَلِذَلِكَ كَانَ الِاتِّكَاءُ فِي الطَّعَامِ مَكْرُوهًا لِلْإِفْرَاطِ فِي الرَّفَاهِيَةِ. وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ فِي غَيْرِ حَالِ الْأَكْلِ فَقَدِ اتَّكَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ: أَنَّهُ دَخْلَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: «هُوَ ذَلِكَ الْأَزْهَرُ الْمُتَّكِئُ».
وَالْفَاكِهَةُ: مَا يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلشِّبَعِ كَالثِّمَارِ وَالنُّقُولِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عَزِيزَةُ النَّوَالِ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَلِأَنَّهَا اسْتَجْلَبَهَا ذِكْرُ الِاتِّكَاءِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَّكِئِينَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِتَنَاوُلِ الْفَوَاكِهِ.
ثُمَّ عَمَّمَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ويَدَّعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَرِّفًا مِنَ الدُّعَاءِ أَوْ مِنَ الِادِّعَاءِ، أَيْ مَا يَدَّعُونَ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَدَّعُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ لَهُمْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ. وَصِيغَ لَهُ وَزْنُ الِافْتِعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَوَزْنُ يَدَّعُونَ يَفْتَعِلُونَ. أَصْلُهُ يَدْتَعْيُونَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الضَّمَّ عَلَى الْيَاءِ ثَقِيلٌ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ سَاكِنَةً وَبَعْدَهَا وَاوُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مُفِيدُ مَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْجَمْعِ.
وَهَذَا الِافْتِعَالُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ (دَعَا)، وَالِافْتِعَالُ هُنَا يَجْعَلُ فِعْلَ (دَعَا) قَاصِرًا فَيَنْبَغِي تَعْلِيقُ مَجْرُورٍ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
فَاشْتَوَى لَيْلَةَ رِيحٍ وَاجْتَمَلْ (١) اشْتَوَى إِذَا شَوَى لِنَفْسِهِ وَاجْتَمَلَ إِذَا جَمُلَ لِنَفْسِهِ، أَيْ جَمْعَ الْجَمِيلَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ وَهُوَ الْإِهَالَةُ.
وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الِادِّعَاءِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُمْ، أَيْ تَتَحَدَّثُ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: وَيَتَمَنَّوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا
_________
(١) قبله:
أَرْسلتهُ فَأَتَاهُ رزقه...................... إِلَخ
وَالْفَاكِهَةُ: مَا يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلشِّبَعِ كَالثِّمَارِ وَالنُّقُولِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عَزِيزَةُ النَّوَالِ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَلِأَنَّهَا اسْتَجْلَبَهَا ذِكْرُ الِاتِّكَاءِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَّكِئِينَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِتَنَاوُلِ الْفَوَاكِهِ.
ثُمَّ عَمَّمَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ويَدَّعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَرِّفًا مِنَ الدُّعَاءِ أَوْ مِنَ الِادِّعَاءِ، أَيْ مَا يَدَّعُونَ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَدَّعُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ لَهُمْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ. وَصِيغَ لَهُ وَزْنُ الِافْتِعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَوَزْنُ يَدَّعُونَ يَفْتَعِلُونَ. أَصْلُهُ يَدْتَعْيُونَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الضَّمَّ عَلَى الْيَاءِ ثَقِيلٌ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ سَاكِنَةً وَبَعْدَهَا وَاوُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مُفِيدُ مَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْجَمْعِ.
وَهَذَا الِافْتِعَالُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ (دَعَا)، وَالِافْتِعَالُ هُنَا يَجْعَلُ فِعْلَ (دَعَا) قَاصِرًا فَيَنْبَغِي تَعْلِيقُ مَجْرُورٍ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
فَاشْتَوَى لَيْلَةَ رِيحٍ وَاجْتَمَلْ (١) اشْتَوَى إِذَا شَوَى لِنَفْسِهِ وَاجْتَمَلَ إِذَا جَمُلَ لِنَفْسِهِ، أَيْ جَمْعَ الْجَمِيلَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ وَهُوَ الْإِهَالَةُ.
وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الِادِّعَاءِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُمْ، أَيْ تَتَحَدَّثُ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: وَيَتَمَنَّوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا
_________
(١) قبله:
وَغُلَام أَرْسلتهُ أمه | بألوك فبذلنا مَا سَأَلَ |
43
بِالْقَوْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ مَعْنَى يَدَّعُونَ يَتَمَنَّوْنَ. يُقَالُ: ادْعُ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، أَيْ تَمَنَّ عَلَيَّ، وَفُلَانٌ فِي خَيْرٍ مَا ادَّعَى، أَيْ فِي خَيْرٍ مَا يَتَمَنَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
فِي سُورَة فصّلت [٣١].
[٥٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٨]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
اسْتِئْنَافُ قَطْعٍ عَنْ أَنَّ يُعْطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ إِذْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ سَلَامُ اللَّهِ بِكَلَامٍ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ قَوْلٌ مِنَ اللَّهِ: إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِمَّا بِخَلْقِ أَصْوَاتٍ يُوقِنُونَ بِأَنَّهَا مَجْعُولَةً لِأَجْلِ أَسْمَاعِهِمْ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ بِمَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ النَّعِيمِ مُشِيرًا إِلَى أُصُولِ أَصْنَافِهِ، أَخْبَرَ بِأَنَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَسْمَى وَأَعْلَى وَهُوَ التَّكْرِيمُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وسَلامٌ مَرْفُوع فِي جَمِيع الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ وَرَفْعُهُ لِلدَّلَالَةِ على الدَّوَام والتحقق، فَإِنَّ أَصْلَهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ نِيَابَةً عَنِ الْفِعْلِ مثل قَوْله: فَقالُوا سَلاماً [الذاريات: ٢٥]. فَلَمَّا أُرِيدَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ جِيءَ بِهِ مَرْفُوعًا مِثْلَ قَوْلِهِ: قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩]، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢].
وَحَذْفُ خَبَرِ سَلامٌ لِنِيَابَةِ الْمَفْعُولِ الْمُطلق وَهُوَ قَوْله قَوْلًا عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ، وَالَّذِي اقْتَضَى حَذْفَ الْفِعْلِ وَنِيَابَةَ الْمَصْدَرِ عَنْهُ هُوَ اسْتِعْدَادُ الْمَصْدَرِ لِقَبُولِ التَّنْوِينِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ مَرْفُوعًا هُوَ مَا يُشْعِرُ بِهِ النَّصْبَ مِنْ كَوْنِ الْمَصْدَرِ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَتَنْوِينُ رَبٍّ لِلتَّعْظِيمِ، وَلِأَجِلِ ذَلِكَ عُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَاخْتِيرَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْإِكْرَامِ وَالرِّضَى عَنْهُمْ بِذِكْرِ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ فِي الدُّنْيَا فَاعْتَرفُوا بربوبيته.
فِي سُورَة فصّلت [٣١].
[٥٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٨]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
اسْتِئْنَافُ قَطْعٍ عَنْ أَنَّ يُعْطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ إِذْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ سَلَامُ اللَّهِ بِكَلَامٍ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ قَوْلٌ مِنَ اللَّهِ: إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِمَّا بِخَلْقِ أَصْوَاتٍ يُوقِنُونَ بِأَنَّهَا مَجْعُولَةً لِأَجْلِ أَسْمَاعِهِمْ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ بِمَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ النَّعِيمِ مُشِيرًا إِلَى أُصُولِ أَصْنَافِهِ، أَخْبَرَ بِأَنَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَسْمَى وَأَعْلَى وَهُوَ التَّكْرِيمُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وسَلامٌ مَرْفُوع فِي جَمِيع الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ وَرَفْعُهُ لِلدَّلَالَةِ على الدَّوَام والتحقق، فَإِنَّ أَصْلَهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ نِيَابَةً عَنِ الْفِعْلِ مثل قَوْله: فَقالُوا سَلاماً [الذاريات: ٢٥]. فَلَمَّا أُرِيدَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ جِيءَ بِهِ مَرْفُوعًا مِثْلَ قَوْلِهِ: قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩]، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢].
وَحَذْفُ خَبَرِ سَلامٌ لِنِيَابَةِ الْمَفْعُولِ الْمُطلق وَهُوَ قَوْله قَوْلًا عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ، وَالَّذِي اقْتَضَى حَذْفَ الْفِعْلِ وَنِيَابَةَ الْمَصْدَرِ عَنْهُ هُوَ اسْتِعْدَادُ الْمَصْدَرِ لِقَبُولِ التَّنْوِينِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ مَرْفُوعًا هُوَ مَا يُشْعِرُ بِهِ النَّصْبَ مِنْ كَوْنِ الْمَصْدَرِ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَتَنْوِينُ رَبٍّ لِلتَّعْظِيمِ، وَلِأَجِلِ ذَلِكَ عُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَاخْتِيرَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْإِكْرَامِ وَالرِّضَى عَنْهُمْ بِذِكْرِ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ فِي الدُّنْيَا فَاعْتَرفُوا بربوبيته.
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٩]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس:
٥٥] وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى سَلامٌ قَوْلًا [يس: ٥٨]، أَيْ وَيُقَالُ: امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ، عَلَى الضِّدِّ مِمَّا يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَلَامٌ يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلًا، وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِينَ: امْتَازُوا، فَتَكُونُ مِنْ توزيع الخطابين على مخاطبين فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٩].
وَامْتَازَ مُطَاوِعُ مَازَهَ، إِذَا أَفْرَدَهُ عَمَّا كَانَ مُخْتَلِطًا مَعَهُ، وُجِّهَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَمْتَازُوا مُبَالَغَةً فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْمَيْزِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ تَكْوِينٍ فَعُبِّرَ عَنْ مَعْنَى. فَيَكُونُ الْمَيْزُ بِصَوْغِ الْأَمْرِ مِنْ مَادَّةِ الْمُطَاوَعَةِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: لِتَنْكَسِرَ الزُّجَاجَةُ أَشَدُّ فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْكَسْرِ فِيهَا مِنْ أَنْ تَقُولَ: اكْسِرُوا الزُّجَاجَةَ. وَالْمُرَادُ: امْتِيَازُهُمْ بِالِابْتِعَادِ عَنِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرُوا إِلَى النَّارِ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: ادْخُلُوا النَّارَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَحْشَرِ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس: ٥٥]، فَلَمَّا حُكِيَ مَا فِيهِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ حِينَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ النَّارِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [يس: ٥٤]، حُكِيَ ذَلِكَ ثُمَّ قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
وَتَكْرِيرُ كَلِمَةِ الْيَوْمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ فِيهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ تَأْكِيدِ ذَكْرِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ [يس: ٥٤] وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ [يس: ٥٥] وَقَوْلِهِ:
امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
وَنِدَاؤُهُمْ بِعُنْوَانِ: الْمُجْرِمُونَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةٍ مَيْزِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، فَاللَّامُ فِي الْمُجْرِمُونَ مَوْصُولَةٌ، أَيْ أَيُّهَا الَّذين أجرموا.
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٦٠ إِلَى ٦٢]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)إِقْبَالٌ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِينَ جَمَعَهُمُ الْمَحْشَرُ غَيْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ عُجِّلُوا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَشْمَلُ هَذَا جَمِيعَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّهُ شَامِلٌ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ إِشْهَادٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَخُوطِبُوا بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ لِأَنَّ مَقَامَ التَّوْبِيخِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الشَّيْطَانَ يَقْتَضِي تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا لَهُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بجلق | وقبر بصيدا الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ |
وَلِلْحَارِثِ الْجَفْنِيِّ سيد قومه | ليلتمس بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ |
وَالْعَهْدُ: الْوِصَايَةُ، ووصاية الله بني آدَمُ بِأَلَّا يَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ هِيَ مَا تَقَرِّرَ وَاشْتَهِرَ فِي الْأُمَمِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ فَلَا يَسَعُ إِنْكَارُهُ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِحَالِ مَنْ يَجْحَدُ هَذَا الْعَهْدَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْهَدْ تَوَالِي الْعَيْنِ وَالْهَاءِ وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ إِلَّا أَنَّ تَوَالِيَهُمَا لَمْ يُحْدِثْ ثِقْلًا فِي النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ يُنَافِي الْفَصَاحَةَ بِمُوجَبِ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ لِأَنَّ انْتِقَالَ النُّطْقِ فِي مَخْرَجِ الْعَيْنِ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ إِلَى مَخْرَجِ الْهَاءِ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ خَفَّفَ النُّطْقَ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنْ سُكُونٍ إِلَى حَرَكَةٍ زَادَ ذَلِكَ خِفَّةً.
وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: ٢٦] الْمُشْتَمِلُ عَلَى حَاءٍ وَهِيَ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ وَهَاءٍ وَهِيَ مَنْ أَقْصَاهُ إِلَّا أَنَّ الْأُولَى سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةَ مُتَحَرِّكَةٌ وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مِنْ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ، وَمُثِّلَ لَهُ بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالْوَرَى | مَعِي وَإِذَا مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي |
أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبي | د بَين عُيَيْنَة والأقرع |
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد فَقَالَ: «ويأتيك من لم تزَود بالأخبار».
وَرُبمَا أنْشد الْبَيْت دون تَغْيِير كَمَا أنْشد بَيت ابْن رَوَاحَة:
يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه | إِذا استثقلت بالمشركين الْمضَاجِع |
وَلَقَد أَبيت على الطوى وأظله | كَيْمَا أنال بِهِ شهيّ الْمطعم |
أَنا النَّبِي لَا كَذِبْ | أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ |
وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ نَفْيَ الشِّعْرِ عَنِ الْقُرْآنِ يُثِيرُ سُؤَالَ مُتَطَلِّبٍ يَقُولُ: فَمَا هُوَ هَذَا الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ قَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ جَوَابًا لِطِلْبَتِهِ.
وَضَمِيرُ هُوَ لِلْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ عَلَّمْناهُ، أَيْ لَيْسَ الَّذِي عَلِمَهُ الرَّسُولُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا أَوْ لِلشَّيْءِ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ، أَيْ لِلشَّيْءِ الْمُعَلَّمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ عَلَّمْناهُ، أَوْ عَائِدٌ إِلَى ذِكْرٌ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا ذِكْرٌ الَّذِي هُوَ مُبِينٌ. وَهَذَا مِنْ مَوَاضِعِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا وَرُتْبَةً لِأَنَّ الْبَيَانَ كَالْبَدَلِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٣٧].
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ الْمُفِيدَةِ قَصْرَ الْوَحْيِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْكَوْنِ ذِكْرًا وَقُرْآنًا قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ لَيْسَ شِعْرًا كَمَا زَعَمْتُمْ. فَحَصَلَ بِذَلِكَ اسْتِقْصَاءُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِ: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ شِعْرًا.
وَالذِّكْرُ: مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصْفًا لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ إِنْ هُوَ إِلَّا مُذَكِّرٌ لِلنَّاسِ بِمَا نَسُوهُ أَوْ جَهِلُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الذِّكْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦].
وَالْقُرْآنُ: مَصْدَرُ قَرَأَ، أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيِ الْكَلَامِ الْمَقْرُوءِ، وَتَقَدَّمَ
65
بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦١].
وَالْمُبِينُ: هُوَ الَّذِي أَبَانَ الْمُرَادَ بِفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ بِقَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ شِعْرًا ثُمَّ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ ذِكْرًا وَقُرْآنًا، أَيْ لِأَنَّ جُمْلَةَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: وَمَا عَلَّمْنَاهُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا مُبِينًا لِيُنْذِرَ أَوْ لِتُنْذِرَ. وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُتَعَلِّقًا بِ مُبِينٌ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ لِتُنْذِرَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِب، أَي لينذر النَّبِيءِ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ.
وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِأَمْرٍ يَجِبُ التَّوَقِّي مِنْهُ.
وَالْحَيُّ: مُسْتَعَارٌ لِكَامِلِ الْعَقْلِ وَصَائِبِ الْإِدْرَاكِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ مَنْ كَانَ مِثْلَ الْحَيِّ فِي الْفَهْمِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ لَا انْتِفَاعَ لَهُمْ بِعُقُولِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النَّمْل: ٨٠].
وَعَطَفَ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ عَلَى لِتُنْذِرَ عَطْفَ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ اللَّامَ النَّائِبَ عَنْهُ وَاوُ الْعَطْفِ لَيْسَ لَامَ تَعْلِيلٍ وَلَكِنَّهُ لَامُ عَاقِبَةٍ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]. فَفِي الْوَاوِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الْعَاقِبَةِ احْتِبَاكٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ
حَيًّا فَيَزْدَادَ حَيَاةً بِامْتِثَالِ الذِّكْرِ فَيَفُوزَ وَمَنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ فَيَحِقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١]، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْإِنْذَارِ ابْتِدَاءً وَالْبِشَارَةِ آخِرًا.
والْقَوْلُ: هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي جَاءَ بِوَعِيدِ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِإِنْذَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُبِينُ: هُوَ الَّذِي أَبَانَ الْمُرَادَ بِفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ بِقَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهِ شِعْرًا ثُمَّ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ ذِكْرًا وَقُرْآنًا، أَيْ لِأَنَّ جُمْلَةَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي قُوَّةِ أَنْ لَوْ قِيلَ: وَمَا عَلَّمْنَاهُ إِلَّا ذِكْرًا وَقُرْآنًا مُبِينًا لِيُنْذِرَ أَوْ لِتُنْذِرَ. وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُتَعَلِّقًا بِ مُبِينٌ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ لِتُنْذِرَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمْناهُ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِب، أَي لينذر النَّبِيءِ الَّذِي عَلَّمْنَاهُ.
وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ بِأَمْرٍ يَجِبُ التَّوَقِّي مِنْهُ.
وَالْحَيُّ: مُسْتَعَارٌ لِكَامِلِ الْعَقْلِ وَصَائِبِ الْإِدْرَاكِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ مَنْ كَانَ مِثْلَ الْحَيِّ فِي الْفَهْمِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ كَالْأَمْوَاتِ لَا انْتِفَاعَ لَهُمْ بِعُقُولِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النَّمْل: ٨٠].
وَعَطَفَ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ عَلَى لِتُنْذِرَ عَطْفَ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ اللَّامَ النَّائِبَ عَنْهُ وَاوُ الْعَطْفِ لَيْسَ لَامَ تَعْلِيلٍ وَلَكِنَّهُ لَامُ عَاقِبَةٍ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]. فَفِي الْوَاوِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الْعَاقِبَةِ احْتِبَاكٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ
حَيًّا فَيَزْدَادَ حَيَاةً بِامْتِثَالِ الذِّكْرِ فَيَفُوزَ وَمَنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَا يَنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ فَيَحِقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١]، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْإِنْذَارِ ابْتِدَاءً وَالْبِشَارَةِ آخِرًا.
والْقَوْلُ: هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي جَاءَ بِوَعِيدِ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِإِنْذَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
66
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الْمُسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِنْذَارَ وَرَدَ لِلنَّاسِ أَوَّلَ مَا وَرَدَ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَفِي ذِكْرِ الْإِنْذَارِ عَوْدٌ إِلَى مَا ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: ٦] فَهُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَبِذَلِكَ تَمَّ مَجَالُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالِ شُبَهِهِمْ وَتَخْلُصُ إِلَى الِامْتِنَانِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١] إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: ٧٣].
[٧١، ٧٣]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
بَعْدَ أَنِ انْقَضَى إِبْطَالُ مَعَاقِدِ شِرْكِ الْمُشْرِكِينَ أَخَذَ الْكَلَامُ يَتَطَرَّقُ غَرَضَ تَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ قَابَلُوهَا بِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَعِبَادَتِهِ وَاتَّخَذُوا لِعِبَادَتِهِمْ آلِهَةً زَعْمًا بِأَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ وأدمج فِي ذَلِك التَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْأَنْعَامَ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ شَوَاهِدَ النِّعْمَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةً كَانَ الْإِنْكَارُ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً فَالْإِنْكَارُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ مُشَاهَدَتِهِمْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ رُؤْيَتِهَا وَرُؤْيَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَجُمْلَةُ الْفِعْلِ الْمُنْسَبِكِ بِالْمَصْدَرِ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِلرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا مَفْعُولٌ لِلرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ.
وَفِي خِلَالِ هَذَا الِامْتِنَانِ إِدْمَاجُ شَيْءٍ مِنْ دَلَائِلَ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ الْمُبْطِلَةِ لِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّا خَلَقْنا وَقَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا وَقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها وَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، لِأَنَّ
وَفِي ذِكْرِ الْإِنْذَارِ عَوْدٌ إِلَى مَا ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: ٦] فَهُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَبِذَلِكَ تَمَّ مَجَالُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالِ شُبَهِهِمْ وَتَخْلُصُ إِلَى الِامْتِنَانِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١] إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: ٧٣].
[٧١، ٧٣]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
بَعْدَ أَنِ انْقَضَى إِبْطَالُ مَعَاقِدِ شِرْكِ الْمُشْرِكِينَ أَخَذَ الْكَلَامُ يَتَطَرَّقُ غَرَضَ تَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ قَابَلُوهَا بِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَعِبَادَتِهِ وَاتَّخَذُوا لِعِبَادَتِهِمْ آلِهَةً زَعْمًا بِأَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ وأدمج فِي ذَلِك التَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْأَنْعَامَ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ شَوَاهِدَ النِّعْمَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةً كَانَ الْإِنْكَارُ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً فَالْإِنْكَارُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ مُشَاهَدَتِهِمْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ رُؤْيَتِهَا وَرُؤْيَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَجُمْلَةُ الْفِعْلِ الْمُنْسَبِكِ بِالْمَصْدَرِ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِلرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا مَفْعُولٌ لِلرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ.
وَفِي خِلَالِ هَذَا الِامْتِنَانِ إِدْمَاجُ شَيْءٍ مِنْ دَلَائِلَ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ الْمُبْطِلَةِ لِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّا خَلَقْنا وَقَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا وَقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها وَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، لِأَنَّ
67
مَعْنَاهُ: أَوْدَعْنَا لَهُمْ فِي
أَضْرَاعِهَا أَلْبَانًا يَشْرَبُونَهَا وَفِي أَبْدَانِهَا أَوْبَارًا وَأَشْعَارًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: لَهُمْ هُوَ مَحَلُّ الِامْتِنَانِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ خَلَقَهَا الله لأجل انْتِفَاع الْإِنْسَانِ بِهَا تَكْرِمَةً لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩].
وَاسْتُعِيرَ عَمَلُ الْأَيْدِي الَّذِي هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الصُّنْعِ إِلَى إِيجَادِ أُصُولِ الْأَجْنَاسِ بِدُونِ سَابِقِ مَنْشَأٍ مِنْ تَوَالُدٍ أَوْ نَحْوِهِ فَأُسْنِدَ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي اللَّهِ تَعَالَى لِظُهُورِ أَنَّ تِلْكَ الْأُصُولَ لَمْ تَتَوَلَّدْ عَنْ سَبَبٍ كَقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧]، فَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي لَهُمْ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ أُصُولٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أُصُولِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَلْقِ بِأَنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِتَقْرِيبِ شَأْنِ الْخَلْقِ الْخَفِيِّ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]. وَقَرِينَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مَا تَقَرِّرَ مِنْ أَنَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَذَلِكَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنْ تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ فَسَمَّوْهَا الْمُتَشَابِهَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّنَا لَمْ نَصِلْ إِلَى حَقِيقَةِ مَا نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْكُنْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوهَا بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا تَقْرِيبٌ وَإِسَاغَةٌ لِغُصَصِ الْعِبَارَةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِظَوَاهِرِهَا فَبَاعِثُهُمْ فَرْطُ الْخَشْيَةِ، وَكَانَ لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ لَا يَسَعُ أَهْلَ الْعُصُورِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الْإِلْحَادُ وَالْكُفْرُ فَهُمْ عَنْ إِقْنَاعِ السَّائِلِينَ بِمَعْزِلٍ، وَقَلَمُ التَّطْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَغْزِلٌ.
وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ. وَفَرَّعَ عَلَى خَلْقِهَا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَهَا مَالِكُونَ قَادِرُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَشَاءُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ أَنْوَاعُ التَّصَرُّفِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُعَمَّرِينَ:
وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ التَّذْكِيرِ.
وَتَقْدِيمُ لَها عَلَى مالِكُونَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقَهُ لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ
أَضْرَاعِهَا أَلْبَانًا يَشْرَبُونَهَا وَفِي أَبْدَانِهَا أَوْبَارًا وَأَشْعَارًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: لَهُمْ هُوَ مَحَلُّ الِامْتِنَانِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ خَلَقَهَا الله لأجل انْتِفَاع الْإِنْسَانِ بِهَا تَكْرِمَةً لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩].
وَاسْتُعِيرَ عَمَلُ الْأَيْدِي الَّذِي هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الصُّنْعِ إِلَى إِيجَادِ أُصُولِ الْأَجْنَاسِ بِدُونِ سَابِقِ مَنْشَأٍ مِنْ تَوَالُدٍ أَوْ نَحْوِهِ فَأُسْنِدَ ذَلِكَ إِلَى أَيْدِي اللَّهِ تَعَالَى لِظُهُورِ أَنَّ تِلْكَ الْأُصُولَ لَمْ تَتَوَلَّدْ عَنْ سَبَبٍ كَقَوْلِهِ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧]، فَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي لَهُمْ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ أُصُولٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أُصُولِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَلْقِ بِأَنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِتَقْرِيبِ شَأْنِ الْخَلْقِ الْخَفِيِّ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]. وَقَرِينَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ مَا تَقَرِّرَ مِنْ أَنَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَذَلِكَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الْإِمْسَاكَ عَنْ تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ فَسَمَّوْهَا الْمُتَشَابِهَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّنَا لَمْ نَصِلْ إِلَى حَقِيقَةِ مَا نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْكُنْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوهَا بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا تَقْرِيبٌ وَإِسَاغَةٌ لِغُصَصِ الْعِبَارَةِ. فَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِظَوَاهِرِهَا فَبَاعِثُهُمْ فَرْطُ الْخَشْيَةِ، وَكَانَ لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ لَا يَسَعُ أَهْلَ الْعُصُورِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الْإِلْحَادُ وَالْكُفْرُ فَهُمْ عَنْ إِقْنَاعِ السَّائِلِينَ بِمَعْزِلٍ، وَقَلَمُ التَّطْوِيلِ فِي ذَلِكَ مَغْزِلٌ.
وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ. وَفَرَّعَ عَلَى خَلْقِهَا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَهَا مَالِكُونَ قَادِرُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَشَاءُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ أَنْوَاعُ التَّصَرُّفِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُعَمَّرِينَ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا | أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا |
وَتَقْدِيمُ لَها عَلَى مالِكُونَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقَهُ لِزِيَادَةِ اسْتِحْضَارِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ
68
السَّامِعِينَ قَبْلَ سَمَاعِ مُتَعَلِّقِهِ لِيَقَعَ كِلَاهُمَا أَمْكَنَ وَقَعَ بِالتَّقْدِيمِ وَبِالتَّشْوِيقِ، وَقَضَى بِذَلِكَ أَيْضًا رَعْيُ الْفَاصِلَةِ.
وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَال: فهم مالكوها، إِلَى فَهُمْ لَها مالِكُونَ لِيَتَأَتَّى التَّنْكِيرُ فَيُفِيدَ بِتَعْظِيمِ الْمَالِكِينَ لِلْأَنْعَامِ الْكِنَايَةَ عَنْ تَعْظِيمِ الْمِلْكِ، أَيْ بِكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ.
وَأَنَّ إِضَافَةَ الْوَصْفِ الْمُشْبِهِ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُكْسِبُ الْمُضَافَ تَعْرِيفًا لَكِنَّهَا لَا تَنْسَلِخُ مِنْهَا خَصَائِصُ التَّنْكِيرِ مِثْلَ التَّنْوِينِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ ثَبَاتِ هَذَا الْمِلْكِ وَدَوَامِهِ.
وَالتَّذْلِيلُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ذَلِيلًا، وَالذَّلِيلُ ضِدُّ الْعَزِيزِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَكْرَهُهُ. وَمَعْنَى تَذْلِيلِ الْأَنْعَامِ خَلْقُ مَهَانَتِهَا لِلْإِنْسَانِ فِي جِبِلَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تُقْدِمُ عَلَى مُدَافَعَةِ مَا يُرِيدُ مِنْهَا فَإِنَّهَا ذَاتُ قُوَاتٍ يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا عَنْ نَفْسِهِ بِهَا فَإِذَا زَجَرَهَا الْإِنْسَانُ أَوْ أَمَرَهَا ذَلَّتْ لَهُ وَطَاعَتْ مَعَ كَرَاهِيَتِهَا مَا يُرِيدُهُ مِنْهَا، مِنْ سَيْرٍ أَوْ حَمْلٍ أَوْ حَلْبٍ أَوْ أَخْذِ نَسْلٍ أَوْ ذَبْحٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ.
وَالرَّكُوبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ: الْمَرْكُوبُ مِثْلُ الْحَلُوبُ وَهُوَ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ يُقَالُ: بَعِيرٌ رَكُوبٌ وَنَاقَةٌ حَلُوبَةٌ.
وَمن تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ وَبَعْضُهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِثْلُ الْحَرْثِ وَالْقِتَالِ كَمَا قَالَ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ وَالْمَشَارِبُ: جَمْعُ مَشْرَبٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى: الشُّرْبِ، أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيْ مَشْرُوبَاتٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ بِ (مِنْ) عَلَى مَا حَقِّهِمَا أَنْ يَتَأَخَّرَا عَنْهُمَا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَها مالِكُونَ.
وَفرع على هَذَا التَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ قَوْلُهُ: أَفَلا يَشْكُرُونَ استفهاما تعجيبيا لِتَرْكِهِمْ تَكْرِيرَ الشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الْعِدَّةِ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجْدِيدِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ مُتَتَالِيَةٌ مُتَعَاقِبَةٌ فِي كُلِّ حِينٍ، وَإِذْ قَدْ عُجِبَ مِنْ عَدَمِ
وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَال: فهم مالكوها، إِلَى فَهُمْ لَها مالِكُونَ لِيَتَأَتَّى التَّنْكِيرُ فَيُفِيدَ بِتَعْظِيمِ الْمَالِكِينَ لِلْأَنْعَامِ الْكِنَايَةَ عَنْ تَعْظِيمِ الْمِلْكِ، أَيْ بِكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ.
وَأَنَّ إِضَافَةَ الْوَصْفِ الْمُشْبِهِ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُكْسِبُ الْمُضَافَ تَعْرِيفًا لَكِنَّهَا لَا تَنْسَلِخُ مِنْهَا خَصَائِصُ التَّنْكِيرِ مِثْلَ التَّنْوِينِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَةِ ثَبَاتِ هَذَا الْمِلْكِ وَدَوَامِهِ.
وَالتَّذْلِيلُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ذَلِيلًا، وَالذَّلِيلُ ضِدُّ الْعَزِيزِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَكْرَهُهُ. وَمَعْنَى تَذْلِيلِ الْأَنْعَامِ خَلْقُ مَهَانَتِهَا لِلْإِنْسَانِ فِي جِبِلَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تُقْدِمُ عَلَى مُدَافَعَةِ مَا يُرِيدُ مِنْهَا فَإِنَّهَا ذَاتُ قُوَاتٍ يَدْفَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا عَنْ نَفْسِهِ بِهَا فَإِذَا زَجَرَهَا الْإِنْسَانُ أَوْ أَمَرَهَا ذَلَّتْ لَهُ وَطَاعَتْ مَعَ كَرَاهِيَتِهَا مَا يُرِيدُهُ مِنْهَا، مِنْ سَيْرٍ أَوْ حَمْلٍ أَوْ حَلْبٍ أَوْ أَخْذِ نَسْلٍ أَوْ ذَبْحٍ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ.
وَالرَّكُوبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ: الْمَرْكُوبُ مِثْلُ الْحَلُوبُ وَهُوَ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ يُقَالُ: بَعِيرٌ رَكُوبٌ وَنَاقَةٌ حَلُوبَةٌ.
وَمن تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ وَبَعْضُهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِثْلُ الْحَرْثِ وَالْقِتَالِ كَمَا قَالَ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ وَالْمَشَارِبُ: جَمْعُ مَشْرَبٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى: الشُّرْبِ، أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيْ مَشْرُوبَاتٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ بِ (مِنْ) عَلَى مَا حَقِّهِمَا أَنْ يَتَأَخَّرَا عَنْهُمَا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَها مالِكُونَ.
وَفرع على هَذَا التَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ قَوْلُهُ: أَفَلا يَشْكُرُونَ استفهاما تعجيبيا لِتَرْكِهِمْ تَكْرِيرَ الشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الْعِدَّةِ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجْدِيدِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ مُتَتَالِيَةٌ مُتَعَاقِبَةٌ فِي كُلِّ حِينٍ، وَإِذْ قَدْ عُجِبَ مِنْ عَدَمِ
69
تَكْرِيرِهِمُ الشُّكْرَ كَانَتْ إِفَادَةُ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ الشُّكْرِ مِنْ أَصْلِهِ بِالْفَحْوَى وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [يس: ٧٤].
[٧٤، ٧٥]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٥]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١]، أَيْ أَلَمْ يَرَوْا دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا جَلَائِلَ النِّعْمَةِ، وَاتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ وَالْمُنْفَرِدِ بِالْخَلْقِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمُفَرَّعَتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ
بِاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ التَّعْجِيبُ مِنْ جَرَيَانِهِمْ عَلَى خِلَافِ حَقِّ النِّعْمَةِ ثُمَّ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمُدْمَجِ فِي ذِكْرِ النِّعَمِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ دُونَ ضَمِيرِ إِظْهَارٍ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ اسْمُهُ الْعَلَمُ مِنْ عَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يس: ٧٦] أَيْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مَا هُوَ أَشَدُّ نُكْرًا.
وَأَمَّا الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣] : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ صَرِيحًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: ٢].
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ وَقَعَتْ (لَعَلَّ) فِيهِ مَوْقِعًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ لِأَنَّ شَأْنَ (لَعَلَّ) أَنْ تُفِيدَ إِنْشَاءَ رَجَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ هُنَا. وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ التَّعَرُّضَ لِتَفْسِيرِهِ، وَأَهْمَلَهَ عُلَمَاءُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مِنِ اسْتِعْمَالِ (لَعَلَّ)، فَيَتَعَيَّنُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ (لَعَلَّ) تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً بِأَنْ شُبِّهَ شَأْنُ اللَّهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ
[٧٤، ٧٥]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٥]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١]، أَيْ أَلَمْ يَرَوْا دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا جَلَائِلَ النِّعْمَةِ، وَاتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ وَالْمُنْفَرِدِ بِالْخَلْقِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمُفَرَّعَتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ
بِاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ التَّعْجِيبُ مِنْ جَرَيَانِهِمْ عَلَى خِلَافِ حَقِّ النِّعْمَةِ ثُمَّ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمُدْمَجِ فِي ذِكْرِ النِّعَمِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ دُونَ ضَمِيرِ إِظْهَارٍ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ اسْمُهُ الْعَلَمُ مِنْ عَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يس: ٧٦] أَيْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مَا هُوَ أَشَدُّ نُكْرًا.
وَأَمَّا الْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣] : وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ فَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ صَرِيحًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: ٢].
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ وَقَعَتْ (لَعَلَّ) فِيهِ مَوْقِعًا غَيْرَ مَأْلُوفٍ لِأَنَّ شَأْنَ (لَعَلَّ) أَنْ تُفِيدَ إِنْشَاءَ رَجَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ هُنَا. وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ التَّعَرُّضَ لِتَفْسِيرِهِ، وَأَهْمَلَهَ عُلَمَاءُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مِنِ اسْتِعْمَالِ (لَعَلَّ)، فَيَتَعَيَّنُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ (لَعَلَّ) تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً بِأَنْ شُبِّهَ شَأْنُ اللَّهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِحَالِ مَنْ
70
يَرْجُو مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ خَبَرُ (لَعَلَّ)، وَذِكْرُ حَرْفُ (لَعَلَّ) رمز لرديف الْمُشبه بِهِ فَتَكُونُ جُمْلَةَ لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آلِهَةً وَبَيْنَ صِفَتِهِ وَهِيَ جُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَرَى عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَوْ تَهَكُّمِيٌّ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ أَيْضًا، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الرَّجَاءُ مُنْصَرِفًا إِلَى رَجَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ، أَيْ رَاجِينَ أَنْ تَنْصُرَهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ وَعَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ: لَعَلَّنَا نُنْصَرُ، وَحُكِيَ يُنْصَرُونَ بِالْمَعْنَى عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ تَقُولُ: قَالَ أَفْعَلُ كَذَا، وَقَالَ يَفْعَلُ كَذَا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ اسْتِئْنَافًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ (لَعَلَّ) لِلتَّعْلِيلِ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ فَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ اسْتِئْنَافًا.
وَالْمَقْصُودُ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] وَهُمْ سَالِكُونَ فِي هَذَا الزَّعْمِ مَسْلَكَ مَا يَأْلَفُونَهُ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِالْمُوَالَاةِ وَالْحِلْفِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى قَادَتِهِمْ، فَبِمِقْدَارِ كَثْرَةِ الْمَوَالِي تَكُونُ عِزَّةُ الْقَبِيلَة فقاسوا شؤونهم مَعَ رَبهم على شؤونهم الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ وَقِيَاسُ أُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى أَحْوَالِ الْبَشَرِ مِنْ أَعْمَقِ مَهَاوِي الضَّلَالَةِ.
وَأجْرِي عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ
بِأَسْمَاءِ الْعُقَلَاءِ وَزَعَمُوا لَهُمْ إِدْرَاكًا.
وَضَمِيرُ وَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى آلِهَةً تَبَعًا لِضَمِيرِ لَا يَسْتَطِيعُونَ. وَضَمِيرِ لَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ وَالْأَصْنَامُ لِلْمُشْرِكِينَ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ، وَالْجُنْدُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ.
وَالْمُحْضَرُ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِيَحْضُرَ مَشْهَدًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّصْرَ مَعَ حُضُورِهِمْ فِي مَوْقِفِ الْمُشْرِكِينَ لِمُشَاهَدَةِ تَعْذِيبِهِمْ وَمَعَ كَوْنِهِمْ عَدَدًا كَثِيرًا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَصْرِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِمْ، أَيْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ نَفْعِ أَصْنَامِهِمْ.
وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، أَيْ وَالْمُشْرِكُونَ جُنْدٌ لِأَصْنَامِهِمْ مُحَضَرُونَ لِخِدْمَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِمْ مَعَ أَصْنَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَالْمَقْصُودُ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] وَهُمْ سَالِكُونَ فِي هَذَا الزَّعْمِ مَسْلَكَ مَا يَأْلَفُونَهُ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِالْمُوَالَاةِ وَالْحِلْفِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى قَادَتِهِمْ، فَبِمِقْدَارِ كَثْرَةِ الْمَوَالِي تَكُونُ عِزَّةُ الْقَبِيلَة فقاسوا شؤونهم مَعَ رَبهم على شؤونهم الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ وَقِيَاسُ أُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى أَحْوَالِ الْبَشَرِ مِنْ أَعْمَقِ مَهَاوِي الضَّلَالَةِ.
وَأجْرِي عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ
بِأَسْمَاءِ الْعُقَلَاءِ وَزَعَمُوا لَهُمْ إِدْرَاكًا.
وَضَمِيرُ وَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى آلِهَةً تَبَعًا لِضَمِيرِ لَا يَسْتَطِيعُونَ. وَضَمِيرِ لَهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ وَالْأَصْنَامُ لِلْمُشْرِكِينَ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ، وَالْجُنْدُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ.
وَالْمُحْضَرُ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِيَحْضُرَ مَشْهَدًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّصْرَ مَعَ حُضُورِهِمْ فِي مَوْقِفِ الْمُشْرِكِينَ لِمُشَاهَدَةِ تَعْذِيبِهِمْ وَمَعَ كَوْنِهِمْ عَدَدًا كَثِيرًا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَصْرِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِمْ، أَيْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا تَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ نَفْعِ أَصْنَامِهِمْ.
وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، أَيْ وَالْمُشْرِكُونَ جُنْدٌ لِأَصْنَامِهِمْ مُحَضَرُونَ لِخِدْمَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِمْ مَعَ أَصْنَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
71
وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَسْتَطِيعُونَ، أَيْ لَيْسَ عَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِمْ نَصرهم لبعد مكانهم وَتَأَخُّرِ الصَّرِيخِ لَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ وَهُمْ حَاضِرُونَ لَهُمْ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلْأَجَلِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُ الْأَصْنَامَ حِينَ حَشْرِ عَبَدَتِهَا إِلَى النَّارِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ خَطَلَ رَأْيِهِمْ وَخَيْبَةَ أَمَلِهِمْ، فَهَذَا وَعِيدٌ بِعَذَابٍ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ ملْجأ.
[٧٦]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٧٦]
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ.
فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [يس: ٧٤] صَرْفَ أَنْ تُحْزِنَ أَقْوَالُهُمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَحْذِيرُهُ مِنْ أَنْ يَحْزَنَ لِأَقْوَالِهِمْ فِيهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي شَأْنِ اللَّهِ مَا هُوَ أَفْظَعُ.
وقَوْلُهُمْ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ، أَيْ فَلَا تُحْزِنْكَ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمَقُول، أَي لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْزِنَكَ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِ وَهُوَ اشْتِغَالُ بَالِ الرَّسُولِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ الصَّارِفَةِ لِلْحُزْنِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ التَّسَلِّي بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ مَنْ نَاوَوْهُ وَعَادَوْهُ.
إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ لِقَوْلِهِمْ.
وَالْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِمَا يَقُولُونَ، أَيْ أَنَّا مُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهَمْ وَمَا تُسِرُّهُ أَنْفُسُهُمْ مِمَّا لَا يَجْهَرُونَ بِهِ فَنُؤَاخِذُهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا يُكَافِئُهُ مِنْ عِقَابِهِمْ وَنَصْرِكَ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تَعْمِيمٌ لِجَعْلِ التَّعْلِيلِ تَذْيِيلًا أَيْضًا.
وَ «إِنَّ» مُغْنِيَةٌ عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ فِي مَقَامِ وُرُودِهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّأْكِيدِ الْمُخْبَرِ بِالْجُمْلَةِ لَيْسَتْ مُسْتَأْنَفَةً وَلَكِنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ.
[٧٦]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٧٦]
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ.
فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [يس: ٧٤] صَرْفَ أَنْ تُحْزِنَ أَقْوَالُهُمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَحْذِيرُهُ مِنْ أَنْ يَحْزَنَ لِأَقْوَالِهِمْ فِيهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي شَأْنِ اللَّهِ مَا هُوَ أَفْظَعُ.
وقَوْلُهُمْ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الْجِنْسِ فَيَعُمُّ، أَيْ فَلَا تُحْزِنْكَ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمَقُول، أَي لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْزِنَكَ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْحُزْنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِ وَهُوَ اشْتِغَالُ بَالِ الرَّسُولِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ الصَّارِفَةِ لِلْحُزْنِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ التَّسَلِّي بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ مَنْ نَاوَوْهُ وَعَادَوْهُ.
إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ لِقَوْلِهِمْ.
وَالْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِمَا يَقُولُونَ، أَيْ أَنَّا مُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهَمْ وَمَا تُسِرُّهُ أَنْفُسُهُمْ مِمَّا لَا يَجْهَرُونَ بِهِ فَنُؤَاخِذُهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا يُكَافِئُهُ مِنْ عِقَابِهِمْ وَنَصْرِكَ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تَعْمِيمٌ لِجَعْلِ التَّعْلِيلِ تَذْيِيلًا أَيْضًا.
وَ «إِنَّ» مُغْنِيَةٌ عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ فِي مَقَامِ وُرُودِهَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّأْكِيدِ الْمُخْبَرِ بِالْجُمْلَةِ لَيْسَتْ مُسْتَأْنَفَةً وَلَكِنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ يَحْزُنْكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَحْزَنَهُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَزَنًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ مِنْ حَزَنَهُ بِفَتْحِ الزَّايِ بِمَعْنَى أَحْزَنَهُ وَهَمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَدَّمَ الْإِسْرَارَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ الْإِعْلَانَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْخَبَرِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِيعَابِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ وَكُلِّيَّاتِهَا.
وَالْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَعْلَمُ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ لِأَنَّهُ أَوْضَحُ لِلْمَعْنَى، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ سَامِعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَلَوْ قَالُوهُ لَمَا كَانَ مِمَّا يَحْزُنُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَنْهَى عَنِ الْحزن مِنْهُ.
[٧٧، ٧٩]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧٧ إِلَى ٧٩]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
لَمَّا أُبْطِلَتْ شُبَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِحَالَتِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنْبَائِهِ بِذَلِكَ إِبْطَالًا كُلِّيًّا، عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى جَانِبِ تَسْفِيهِ أَقْوَالٍ جُزْئِيَّةٍ لِزُعَمَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى وَقَاحَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ وَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَحْسَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ الدَّلَائِل ويزينون الْجِدَال لِلنَّاسِ وَيَأْتُونَ لَهُمْ بِأَقْوَالٍ إِقْنَاعِيَّةٍ جَارِيَةٍ عَلَى وَفْقِ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، فَقيل أُرِيد ب الْإِنْسانُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ أُرِيد بِهِ العَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَقِيلَ أَبُو جَهْلٍ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ بِأَسَانِيدَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ تَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضَهَا.
قَالُوا فِي الرِّوَايَاتِ: جَاءَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ عَظْمُ إِنْسَانٍ
رَمِيمٍ فَفَتَّهُ وَذَرَاهُ فِي الرِّيحِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ (أَيْ بَلِيَ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ.
وَقَدَّمَ الْإِسْرَارَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ الْإِعْلَانَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْخَبَرِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِيعَابِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ وَكُلِّيَّاتِهَا.
وَالْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَعْلَمُ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ لِأَنَّهُ أَوْضَحُ لِلْمَعْنَى، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ سَامِعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَلَوْ قَالُوهُ لَمَا كَانَ مِمَّا يَحْزُنُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَنْهَى عَنِ الْحزن مِنْهُ.
[٧٧، ٧٩]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧٧ إِلَى ٧٩]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
لَمَّا أُبْطِلَتْ شُبَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِحَالَتِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنْبَائِهِ بِذَلِكَ إِبْطَالًا كُلِّيًّا، عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى جَانِبِ تَسْفِيهِ أَقْوَالٍ جُزْئِيَّةٍ لِزُعَمَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى وَقَاحَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ وَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَحْسَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ الدَّلَائِل ويزينون الْجِدَال لِلنَّاسِ وَيَأْتُونَ لَهُمْ بِأَقْوَالٍ إِقْنَاعِيَّةٍ جَارِيَةٍ عَلَى وَفْقِ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، فَقيل أُرِيد ب الْإِنْسانُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ أُرِيد بِهِ العَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَقِيلَ أَبُو جَهْلٍ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ بِأَسَانِيدَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ تَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضَهَا.
قَالُوا فِي الرِّوَايَاتِ: جَاءَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ عَظْمُ إِنْسَانٍ
رَمِيمٍ فَفَتَّهُ وَذَرَاهُ فِي الرِّيحِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ (أَيْ بَلِيَ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ.
73
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ الْمَعْرُوفُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٦] أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا نَزَلَ فِي أَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَذُكِرَ مَعَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [٣].
وَوَجْهُ حَمْلِ التَّعْرِيفِ هُنَا عَلَى التَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ جَعْلَهُ لِلْجِنْسِ يَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، كَيْفَ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْمِلَلِ، وَحَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَبْعَدُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ الِاسْتِغْرَاقُ الْعُرْفِيُّ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مَوَاقِعِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤] : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فَهُوَ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِ خَصِيمٌ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: أَنَّهُ شَدِيدُ الشَّكِيمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَصْلُهُ نُطْفَةً، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ [يس: ٧١] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ كَالِاسْتِفْهَامِ فِي الْجُمْلَة الْمَعْطُوف عَلَيْهَا. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا قَلْبِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ أَنَّا خَلَقْناهُ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١].
وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ. وَوَجْهُ الْمُفَاجَأَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيَعْلَمَ مَا يَلِيقُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ فَاجَأَ بِمَا لَمْ يَكُنْ مُتَرَقَّبًا مِنْهُ مَعَ إِفَادَةِ أَنَّ الْخُصُومَة فِي شؤون الْإِلَهِيَّةِ كَانَتْ بِمَا بَادَرَ بِهِ حِينَ عَقَلَ.
وَالْخَصِيمُ فَعِيلٌ مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى مُفَاعِلٍ، أَيْ مُخَاصِمٌ شَدِيدُ الْخِصَامِ.
وَالْمُبِينُ: مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: إِيجَادُهُ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، وَضَرَبَ دِينَارًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمَثَلُ: تَمْثِيلُ الْحَالَةِ، فَالْمَعْنَى: وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَأَتَى لَهُمْ بِتَشْبِيهِ حَالِ قُدْرَتِنَا بِحَالِ عَجْزِ النَّاسِ إِذْ أَحَالَ إِحْيَاءُنَا الْعِظَامَ بَعْدَ أَنْ أَرَمَّتْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَوَجْهُ حَمْلِ التَّعْرِيفِ هُنَا عَلَى التَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ جَعْلَهُ لِلْجِنْسِ يَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، كَيْفَ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْمِلَلِ، وَحَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَبْعَدُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ الِاسْتِغْرَاقُ الْعُرْفِيُّ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مَوَاقِعِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤] : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فَهُوَ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِ خَصِيمٌ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: أَنَّهُ شَدِيدُ الشَّكِيمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَصْلُهُ نُطْفَةً، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ [يس: ٧١] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ كَالِاسْتِفْهَامِ فِي الْجُمْلَة الْمَعْطُوف عَلَيْهَا. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا قَلْبِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ أَنَّا خَلَقْناهُ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١].
وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ. وَوَجْهُ الْمُفَاجَأَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيَعْلَمَ مَا يَلِيقُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ فَاجَأَ بِمَا لَمْ يَكُنْ مُتَرَقَّبًا مِنْهُ مَعَ إِفَادَةِ أَنَّ الْخُصُومَة فِي شؤون الْإِلَهِيَّةِ كَانَتْ بِمَا بَادَرَ بِهِ حِينَ عَقَلَ.
وَالْخَصِيمُ فَعِيلٌ مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى مُفَاعِلٍ، أَيْ مُخَاصِمٌ شَدِيدُ الْخِصَامِ.
وَالْمُبِينُ: مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: إِيجَادُهُ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، وَضَرَبَ دِينَارًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمَثَلُ: تَمْثِيلُ الْحَالَةِ، فَالْمَعْنَى: وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَأَتَى لَهُمْ بِتَشْبِيهِ حَالِ قُدْرَتِنَا بِحَالِ عَجْزِ النَّاسِ إِذْ أَحَالَ إِحْيَاءُنَا الْعِظَامَ بَعْدَ أَنْ أَرَمَّتْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
74
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: ٧٤]، أَيْ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ فَتَجْعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
[النَّحْل: ٧٣].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ إِنْكَارِيٌّ. ومَنْ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْخَبَرُ. فَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يُحْيِيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فَشَمِلَ عُمُومُهُ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى مُحْيِيًا لِلْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا رَمِيمًا.
وَجُمْلَةُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ [طه: ١٢٠] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ بَيَان لجملة فَوَسْوَسَ.
وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ مُسْتَعَارٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْلِهِ، أَيْ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَيْ نَسِيَ أَنَّنَا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، أَيْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَةِ عَظْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥].
وَذِكْرُ النُّطْفَةِ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْمُفَاجَأَةِ بِكَوْنِهِ خَصِيمًا مُبِينًا عَقِبَ خَلْقِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْهَيِّنُ الْمَنْشَأِ قَدْ أَصْبَحَ خَصِيمًا عَنِيدًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ نَسِيَ خَلْقَهُ الضَّعِيفَ فَتَطَاوَلَ وَجَاوَزَ، وَلِأَنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَائِهِ وَهُوَ عَظَمٌ مُجَارَاةٌ لِزَعْمِهِ فِي مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُحْيِي مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْعِظَامِ فَيُحْيِي الْإِنْسَانَ مِنْ رَمَادِهِ، وَمِنْ تُرَابِهِ، وَمِنْ عَجْبِ ذَنَبِهِ، وَمَنْ لَا شَيْءَ بَاقِيًا مِنْهُ.
وَالرَّمِيمُ: الْبَالِي، يُقَالُ: رَمَّ الْعَظْمُ وَأَرَمَّ، إِذَا بَلِيَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، يُقَالُ:
رَمَّ الْعَظْمُ رَمِيمًا، فَهُوَ خَبَرٌ بِالْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقِ الْمُخْبَرَ عَنْهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ وَهِيَ بِلَى.
وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَمْرٌ بِجَوَابٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا تَطَلُّبُ تَعْيِينِ الْمُحْيِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِحَالَةَ، فَأُجِيبَ جَوَابَ مَنْ هُوَ مُتَطَلَّبٌ عَلِمًا. فَقِيلَ لَهُ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
[النَّحْل: ٧٣].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ إِنْكَارِيٌّ. ومَنْ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْخَبَرُ. فَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يُحْيِيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فَشَمِلَ عُمُومُهُ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى مُحْيِيًا لِلْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا رَمِيمًا.
وَجُمْلَةُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ [طه: ١٢٠] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ بَيَان لجملة فَوَسْوَسَ.
وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ مُسْتَعَارٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْلِهِ، أَيْ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَيْ نَسِيَ أَنَّنَا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، أَيْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَةِ عَظْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥].
وَذِكْرُ النُّطْفَةِ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْمُفَاجَأَةِ بِكَوْنِهِ خَصِيمًا مُبِينًا عَقِبَ خَلْقِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْهَيِّنُ الْمَنْشَأِ قَدْ أَصْبَحَ خَصِيمًا عَنِيدًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ نَسِيَ خَلْقَهُ الضَّعِيفَ فَتَطَاوَلَ وَجَاوَزَ، وَلِأَنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَائِهِ وَهُوَ عَظَمٌ مُجَارَاةٌ لِزَعْمِهِ فِي مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُحْيِي مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْعِظَامِ فَيُحْيِي الْإِنْسَانَ مِنْ رَمَادِهِ، وَمِنْ تُرَابِهِ، وَمِنْ عَجْبِ ذَنَبِهِ، وَمَنْ لَا شَيْءَ بَاقِيًا مِنْهُ.
وَالرَّمِيمُ: الْبَالِي، يُقَالُ: رَمَّ الْعَظْمُ وَأَرَمَّ، إِذَا بَلِيَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، يُقَالُ:
رَمَّ الْعَظْمُ رَمِيمًا، فَهُوَ خَبَرٌ بِالْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقِ الْمُخْبَرَ عَنْهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ وَهِيَ بِلَى.
وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَمْرٌ بِجَوَابٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا تَطَلُّبُ تَعْيِينِ الْمُحْيِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِحَالَةَ، فَأُجِيبَ جَوَابَ مَنْ هُوَ مُتَطَلَّبٌ عَلِمًا. فَقِيلَ لَهُ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.
75
فَلِذَلِكَ بُنِيَ الْجَوَابُ عَلَى فِعْلِ الْإِحْيَاءِ مُسْنَدًا لِلْمُحْيِي، عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ صَالِحٌ لِأَن يكون إبطالا لِلنَّفْيِ الْمُرَادِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَلَمْ يُبْنَ الْجَوَابُ عَلَى بَيَانِ إِمْكَانِ الْإِحْيَاءِ وَإِنَّمَا جُعِلَ بَيَانُ الْإِمْكَانِ فِي جَعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولًا لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلَى الْإِمْكَانِ فَيَحْصُلُ الْغَرَضَانِ، فَالْمَوْصُولُ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ يُحْيِيهَا، أَيْ
يُحْيِيهَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِنْشَائِهَا ثَانِي مرّة كَمَا أَنْشَأَهَا أول مَرَّةٍ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٢]، وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧].
وَذُيِّلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِجُمْلَةِ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أَيْ وَاسِعُ الْعِلْمِ مُحِيطٌ بِكُلِّ وَسَائِلِ الْخَلْقِ الَّتِي لَا نَعْلَمُهَا: كَالْخَلْقِ مِنْ نُطْفَةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ ذَرَّةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ أَجْزَاءِ النَّبَاتِ الْمُغْلَقَةِ كَسُوسِ الْفُولِ وَسُوسِ الْخَشَبِ، فَتِلْكَ أَعْجَبُ مِنْ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ عِظَامِهِ.
وَفِي تَعْلِيقِ الْإِحْيَاءِ بِالْعِظَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِظَامَ الْحَيِّ تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ كَلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقَصَبِ وَالْخَشَبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلِذَلِكَ تَنَجَّسُ عِظَامُ الْحَيَوَانِ الَّذِي مَاتَ دُونَ ذَكَاةٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْعَظْمَ لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ فَلَا يَنَجُسُ بِالْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدِ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ، يَعْنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ نَسَبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَيَصِيرُ اتِّفَاقًا وَعُلَمَاءُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ الْحَيَاةَ فِي الْعِظَامِ وَالْإِحْسَاسِ. وَقَالَ ابْنُ زُهْرٍ الْحَكِيمُ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِ «التَّيْسِيرِ» : أَنَّ جَالِينُوس اضْطَرَبَ كَلَامُهُ فِي الْعِظَامِ هَلْ لَهَا إحساسا وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ لَهَا إحساسا بطيئا.
[٨٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)
بَدَلٌ مِنَ الَّذِي أَنْشَأَها [يس: ٧٩] بَدَلًا مُطَابِقًا، وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الصِّلَةُ عَلَى الصِّلَةِ فَيُكْتَفَى بِالْعَطْفِ عَنْ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ وَاهْتِمَامًا بِالثَّانِي حَتَّى تَسْتَشْرِفَ نَفْسُ السَّامِعِ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَيَفْطَنُ بِمَا فِي
يُحْيِيهَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِنْشَائِهَا ثَانِي مرّة كَمَا أَنْشَأَهَا أول مَرَّةٍ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٢]، وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧].
وَذُيِّلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِجُمْلَةِ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أَيْ وَاسِعُ الْعِلْمِ مُحِيطٌ بِكُلِّ وَسَائِلِ الْخَلْقِ الَّتِي لَا نَعْلَمُهَا: كَالْخَلْقِ مِنْ نُطْفَةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ ذَرَّةٍ، وَالْخَلْقِ مِنْ أَجْزَاءِ النَّبَاتِ الْمُغْلَقَةِ كَسُوسِ الْفُولِ وَسُوسِ الْخَشَبِ، فَتِلْكَ أَعْجَبُ مِنْ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ عِظَامِهِ.
وَفِي تَعْلِيقِ الْإِحْيَاءِ بِالْعِظَامِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِظَامَ الْحَيِّ تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ كَلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقَصَبِ وَالْخَشَبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلِذَلِكَ تَنَجَّسُ عِظَامُ الْحَيَوَانِ الَّذِي مَاتَ دُونَ ذَكَاةٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْعَظْمَ لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ فَلَا يَنَجُسُ بِالْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدِ اضْطَرَبَ أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ، يَعْنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ نَسَبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَيَصِيرُ اتِّفَاقًا وَعُلَمَاءُ الطِّبِّ يُثْبِتُونَ الْحَيَاةَ فِي الْعِظَامِ وَالْإِحْسَاسِ. وَقَالَ ابْنُ زُهْرٍ الْحَكِيمُ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِ «التَّيْسِيرِ» : أَنَّ جَالِينُوس اضْطَرَبَ كَلَامُهُ فِي الْعِظَامِ هَلْ لَهَا إحساسا وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ لَهَا إحساسا بطيئا.
[٨٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)
بَدَلٌ مِنَ الَّذِي أَنْشَأَها [يس: ٧٩] بَدَلًا مُطَابِقًا، وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفِ الصِّلَةُ عَلَى الصِّلَةِ فَيُكْتَفَى بِالْعَطْفِ عَنْ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ وَاهْتِمَامًا بِالثَّانِي حَتَّى تَسْتَشْرِفَ نَفْسُ السَّامِعِ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَيَفْطَنُ بِمَا فِي
76
هَذَا الْخَلْقِ مِنَ الْغَرَابَةِ إِذْ هُوَ إِيجَادُ الضِّدِّ وَهُوَ نِهَايَةُ الْحَرَارَةِ مِنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ. وَهَذَا هُوَ وَجْهُ وَصْفِ الشَّجَرِ بِالْأَخْضَرِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَخْضَرِ اللَّوْنَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَازِمُهُ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ لِأَنَّ الشَّجَرَ أَخْضَرُ اللَّوْنِ مَا دَامَ حَيًّا فَإِذَا جَفَّ وَزَالَتْ مِنْهُ الْحَيَاةُ اسْتَحَالَ لَوْنُهُ إِلَى الْغَبَرَةِ فَصَارَتِ الْخُضْرَةُ كِنَايَةً عَنْ رُطُوبَةِ النَّبْتِ وَحَيَاتِهِ. قَالَ ذُوُ الرمة:
وَوَصْفُ الشَّجَرِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ شَجَرَةٍ وَهُوَ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى بِ الْأَخْضَرِ بِدُونِ تَأْنِيثٍ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ الْمَوْصُوفِ بِخُلُوِّهِ عَنْ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَيَقُولُونَ: شَجَرٌ خَضْرَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ: لَآكِلُونَ
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ
[الْوَاقِعَة: ٥٢- ٥٤].
وَالْمُرَادُ بِالشَّجَرِ هُنَا: شَجَرُ الْمَرْخِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ) وَشَجَرُ الْعَفَارِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ) فَهُمَا شَجْرَانِ يُقْتَدَحُ بِأَغْصَانِهِمَا يُؤْخَذُ غُصْنٌ مِنْ هَذَا وَغُصْنٌ مِنَ الْآخَرِ بِمِقْدَارِ الْمِسْوَاكِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يُقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ عَلَى الْعَفَارِ فَتَنْقَدِحُ النَّارُ، قِيلَ: يُجْعَلُ الْعَفَارُ أَعْلَى وَالْمَرْخُ أَسْفَلَ، وَقِيلَ الْعَكْسُ لِأَنَّ الْجَوْهَرِي وَابْن السَّيِّد فِي «الْمُخَصَّصِ» قَالَا: الْعَفَارُ هُوَ الزَّنْدُ وَهُوَ الذَّكَرُ وَالْمَرْخُ الْأُنْثَى وَهُوَ الزَّنْدَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : الْمَرْخُ الذَّكَرُ وَالْعَفَارُ الْأُنْثَى، وَالنَّارُ هِيَ سِقْطُ الزَّنْدِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ عِنْدَ الِاقْتِدَاحِ مُشْتَعِلًا فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ قَابِلٌ لِلِالْتِهَابِ مِنْ تِبْنٍ أَوْ ثَوْبٍ بِهِ زَيْتٌ فَتُخْطَفُ فِيهِ النَّارُ.
وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دَالَّةٌ عَلَى عَجِيبِ إِلْهَامِ اللَّهِ الْبَشَرَ لِاسْتِعْمَالِ الِاقْتِدَاحِ بِالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وَاهْتِدَائِهِمْ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ.
وَالْإِيقَادُ: إِشْعَالُ النَّارِ يُقَالُ: أَوْقَدَ، وَيُقَالُ: وَقَدْ بِمَعْنًى.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِك واستمراره.
وَلما تمنّت تَأْكُلُ الرُّمَّ لَمْ تَدَعْ | ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَا خُضْرَا |
مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ
[الْوَاقِعَة: ٥٢- ٥٤].
وَالْمُرَادُ بِالشَّجَرِ هُنَا: شَجَرُ الْمَرْخِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ) وَشَجَرُ الْعَفَارِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ) فَهُمَا شَجْرَانِ يُقْتَدَحُ بِأَغْصَانِهِمَا يُؤْخَذُ غُصْنٌ مِنْ هَذَا وَغُصْنٌ مِنَ الْآخَرِ بِمِقْدَارِ الْمِسْوَاكِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يُقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ عَلَى الْعَفَارِ فَتَنْقَدِحُ النَّارُ، قِيلَ: يُجْعَلُ الْعَفَارُ أَعْلَى وَالْمَرْخُ أَسْفَلَ، وَقِيلَ الْعَكْسُ لِأَنَّ الْجَوْهَرِي وَابْن السَّيِّد فِي «الْمُخَصَّصِ» قَالَا: الْعَفَارُ هُوَ الزَّنْدُ وَهُوَ الذَّكَرُ وَالْمَرْخُ الْأُنْثَى وَهُوَ الزَّنْدَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : الْمَرْخُ الذَّكَرُ وَالْعَفَارُ الْأُنْثَى، وَالنَّارُ هِيَ سِقْطُ الزَّنْدِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ عِنْدَ الِاقْتِدَاحِ مُشْتَعِلًا فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ قَابِلٌ لِلِالْتِهَابِ مِنْ تِبْنٍ أَوْ ثَوْبٍ بِهِ زَيْتٌ فَتُخْطَفُ فِيهِ النَّارُ.
وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ دَالَّةٌ عَلَى عَجِيبِ إِلْهَامِ اللَّهِ الْبَشَرَ لِاسْتِعْمَالِ الِاقْتِدَاحِ بِالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وَاهْتِدَائِهِمْ إِلَى خَاصِّيَّتِهِ.
وَالْإِيقَادُ: إِشْعَالُ النَّارِ يُقَالُ: أَوْقَدَ، وَيُقَالُ: وَقَدْ بِمَعْنًى.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِك واستمراره.
77
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨١]
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)عُطِفَ هَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى الِاحْتِجَاجَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمَعْنِيِّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: ٧٧]، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ أَشْيَاءَ عَلَى إِمْكَانِ خَلْقِ أَمْثَالِهَا ارْتُقِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ مَخْلُوقَاتٍ عَظِيمَةٍ عَلَى إِمْكَانِ خَلْقِ مَا دَونَهَا.
وَجِيءَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ بِطَرِيقَةِ التَّقْرِيرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ لِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لِوُضُوحِهِ لَا يَسَعُ الْمُقِرَّ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِهِ فَإِنَّ الْبَدِيهَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ عَلَى خَلْقِ نَاسٍ بَعْدَ الْمَوْتِ أَقْدَرُ. وَإِنَّمَا وُجِّهَ التَّقْرِيرُ إِلَى نَفْيِ الْمُقَرَّرِ بِثُبُوتِهِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُقَرَّرِ إِنْ أَرَادَ إِنْكَارًا مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ الْإِنْكَارُ فَيَكُونُ إِقْرَارُهُ بَعْدَ تَوْجِيهِ التَّقْرِيرِ إِلَيْهِ عَلَى نَفْيِ الْمَقْصُودِ، شَاهِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ يُقِرَّ، وَأَمْثَالُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ كَثِيرَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِقادِرٍ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِأَلْفٍ بَعْدِ الْقَافِ وَجُرَّ الِاسْمُ بِالْبَاءِ الْمَزِيدَةِ فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِهِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَحْتِيَّةٍ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَقْدِرُ. وَلِكَوْنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَقِبَ التَّقْرِيرِ بِجَوَابٍ عَنِ الْمُقَرَّرِ بِكَلِمَةِ بَلى الَّتِي هِيَ لِنَقْضِ النَّفْيِ، أَيْ بَلَى هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.
وَضَمِيرُ مِثْلَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسانُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ [يس: ٧٧] عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالنَّاسِ سَوَاءً كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: ٧٧] شَخْصًا مُعَيَّنًا أَمْ غَيْرَ شَخْصٍ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُشَايِعِينَ لَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ، أَيْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ أَمْثَالَهُمْ، أَيْ أَجْسَادًا عَلَى صُوَرِهِمْ وَشَبَهِهِمْ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ الْمَخْلُوقَةَ لِلْبَعْثِ هِيَ أَمْثَالُ النَّاسِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرَكَّبِينَ مِنْ أَجْزَائِهِمْ فَإِنَّ إِعَادَةَ الْخَلْقِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ بِجَمْعِ مُتَفَرِّقِ الْأَجْسَامِ بَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا عَنْ عَدَمِهَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَيْفِيَّاتٌ، فَالْأَمْوَاتُ الْبَاقِيَةُ أَجْسَادُهَا تُبَثُّ فِيهَا الْحَيَاةُ، وَالْأَمْوَاتُ الَّذِينَ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ وَتَفَسَّخَتْ يُعَادُ تَصْوِيرُهَا، وَالْأَجْسَادُ
الَّتِي لَمْ تَبْقَ مِنْهَا بَاقِيَة تُعَاد أجساد عَلَى صُوَرِهَا لِتُودَعَ فِيهَا أَرْوَاحُهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَسَدَ الْإِنْسَانِ يَتَغَيَّرُ عَلَى حَالَتِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَيَكْبُرُ وَتَتَغَيَّرُ مَلَامِحُهُ، وَيُجَدَّدُ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ بِقَدْرِ مَا اضْمَحَلَّ وَتَبَخَّرَ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ التَّغَيُّرُ تَبْدِيلًا لِذَاتِهِ فَهُوَ يُحِسُّ بِأَنَّهُ هُوَ هُوَ وَالنَّاسُ يُمَيِّزُونَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَغَيُّرِ الرُّوحِ.
وَفِي آيَاتِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِلْمَعَادِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي أَنَّ الْبَعْثَ عَنْ عَدَمٍ أَوْ عَنْ تَفْرِيقٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيِّ فِي «أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ» وَمُودَعَةٌ فِيهَا أَرْوَاحُهُمُ الَّتِي كَانَتْ تُدَبِّرُ أَجْسَامَهُمْ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَادِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ هُوَ يَخْلُقُ خَلَائِقَ كَثِيرَةً وواسع الْعلم بأحوالهم ودقائق ترتيبها.
[٨٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٢]
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)
هَذِهِ فَذَلَكَةُ الِاسْتِدْلَالِ، وَفَصْلُ الْمَقَالِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَمَّا قَبْلَهَا كَمَا تُفْصَلُ جُمْلَةُ النَّتِيجَةِ عَنْ جُمْلَتِيِ الْقِيَاسِ، فَقَدْ نَتَجَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِإِيجَادِهِ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنْ تَقْرِيبِهِ بِ كُنْ وَهُوَ أَخْصَرُ كَلِمَةٍ تُعَبِّرُ عَنِ الْأَمْرِ بِالْكَوْنِ، أَيِ الِاتِّصَافَ بِالْوُجُودِ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَاءِ
الرَّمِيمِ، أَيْ لَا شَأْنَ لِلَّهِ فِي وَقْتِ إِرَادَتِهِ تَكْوِينَ كَائِنٍ إِلَّا تَقْدِيرُهُ بِأَنْ يُوجِدَهُ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ الَّذِي يَنْطَاعُ لَهُ الْمَقْدُورُ بِقَوْلِ: كُنْ لِيُعْلِمَ أَنْ لَا يُبَاشِرَ صُنْعَهُ بِيَدٍ وَلَا بِآلَةٍ وَلَا بِعَجْنِ مَادَّةِ مَا يَخْلُقُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُ الصُّنَّاعُ وَالْمُهَنْدِسُونَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَشَأَ لَهُمْ تَوَهُّمُ اسْتِحَالَةِ الْمَعَادِ مِنِ انْعِدَامِ الْمَوَادِ فَضْلًا عَنْ إِعْدَادِهَا وَتَصْوِيرِهَا، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى جَمْعِ مَادَّةٍ وَتَكْيِيفِهَا وَمُضِيُّ مُدَّةٍ لِإِتْمَامِهَا.
وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ، أَيْ حِينَ إِرَادَتِهِ شَيْئًا.
وَفِي آيَاتِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِلْمَعَادِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي أَنَّ الْبَعْثَ عَنْ عَدَمٍ أَوْ عَنْ تَفْرِيقٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيِّ فِي «أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ» وَمُودَعَةٌ فِيهَا أَرْوَاحُهُمُ الَّتِي كَانَتْ تُدَبِّرُ أَجْسَامَهُمْ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَادِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ هُوَ يَخْلُقُ خَلَائِقَ كَثِيرَةً وواسع الْعلم بأحوالهم ودقائق ترتيبها.
[٨٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٢]
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)
هَذِهِ فَذَلَكَةُ الِاسْتِدْلَالِ، وَفَصْلُ الْمَقَالِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَمَّا قَبْلَهَا كَمَا تُفْصَلُ جُمْلَةُ النَّتِيجَةِ عَنْ جُمْلَتِيِ الْقِيَاسِ، فَقَدْ نَتَجَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِإِيجَادِهِ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنْ تَقْرِيبِهِ بِ كُنْ وَهُوَ أَخْصَرُ كَلِمَةٍ تُعَبِّرُ عَنِ الْأَمْرِ بِالْكَوْنِ، أَيِ الِاتِّصَافَ بِالْوُجُودِ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَاءِ
الرَّمِيمِ، أَيْ لَا شَأْنَ لِلَّهِ فِي وَقْتِ إِرَادَتِهِ تَكْوِينَ كَائِنٍ إِلَّا تَقْدِيرُهُ بِأَنْ يُوجِدَهُ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ الَّذِي يَنْطَاعُ لَهُ الْمَقْدُورُ بِقَوْلِ: كُنْ لِيُعْلِمَ أَنْ لَا يُبَاشِرَ صُنْعَهُ بِيَدٍ وَلَا بِآلَةٍ وَلَا بِعَجْنِ مَادَّةِ مَا يَخْلُقُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُ الصُّنَّاعُ وَالْمُهَنْدِسُونَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَشَأَ لَهُمْ تَوَهُّمُ اسْتِحَالَةِ الْمَعَادِ مِنِ انْعِدَامِ الْمَوَادِ فَضْلًا عَنْ إِعْدَادِهَا وَتَصْوِيرِهَا، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى جَمْعِ مَادَّةٍ وَتَكْيِيفِهَا وَمُضِيُّ مُدَّةٍ لِإِتْمَامِهَا.
وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ، أَيْ حِينَ إِرَادَتِهِ شَيْئًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَهُوَ يَكُونُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى يَقُولَ الْمَنْصُوب.
[٨٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٣]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِذَا ظَهَرَ كُلُّ مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَنْشَأُ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ فِي شَأْنِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى نَقْصِ عَظْمَتِهِ لِأَنَّ بِيَدِهِ الْمُلْكَ الْأَتَمَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ.
وَالْمَلَكُوتُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمِلْكِ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) فَإِنَّ مَادَّةَ فَعَلَوْتٍ وَرَدَتْ بِقِلَّةٍ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَهَبُوتٌ وَرَحَمُوتٌ، وَمِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِالْأَمْثَالِ «رَهَبُوتٌ خَيْرُ مِنْ رَحَمُوتٍ» أَيْ لَأَنْ يَرْهَبَكَ النَّاسُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَرْحَمُوكَ، أَيْ لَأَنْ تَكُونَ عَزِيزًا يُخْشَى بَأْسُكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَيِّنًا يَرِقُّ لَكَ النَّاسُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٥].
وَجُمْلَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّسْبِيحِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَهُوَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْفَصِيحَةُ. وَالْمَعْنَى: قَدِ اتَّضَحَ أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ غَيْرَ خَارِجِينَ مِنْ قَبْضَةِ مُلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ خَلْقِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ ثَمَّةَ رَجْعَةً إِلَى غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ مِنْ أَصْلِهِ.
[٨٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨٣]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِذَا ظَهَرَ كُلُّ مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَنْشَأُ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَقْوَالِهِمْ فِي شَأْنِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى نَقْصِ عَظْمَتِهِ لِأَنَّ بِيَدِهِ الْمُلْكَ الْأَتَمَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ.
وَالْمَلَكُوتُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْمِلْكِ (بِكَسْرِ الْمِيمِ) فَإِنَّ مَادَّةَ فَعَلَوْتٍ وَرَدَتْ بِقِلَّةٍ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَهَبُوتٌ وَرَحَمُوتٌ، وَمِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِالْأَمْثَالِ «رَهَبُوتٌ خَيْرُ مِنْ رَحَمُوتٍ» أَيْ لَأَنْ يَرْهَبَكَ النَّاسُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَرْحَمُوكَ، أَيْ لَأَنْ تَكُونَ عَزِيزًا يُخْشَى بَأْسُكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَيِّنًا يَرِقُّ لَكَ النَّاسُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٥].
وَجُمْلَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّسْبِيحِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَهُوَ مِمَّا شَمِلَتْهُ الْفَصِيحَةُ. وَالْمَعْنَى: قَدِ اتَّضَحَ أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ غَيْرَ خَارِجِينَ مِنْ قَبْضَةِ مُلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ خَلْقِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَى تُرْجَعُونَ لِلِاهْتِمَامِ وَرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ ثَمَّةَ رَجْعَةً إِلَى غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَعَادَ مِنْ أَصْلِهِ.
80
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٣٧- سُورَةُ الصَّافَّاتِاسْمُهَا الْمَشْهُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ «الصَّافَّاتِ». وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْمِيَتِهَا، وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : رَأَيْتُ فِي كَلَامِ الْجَعْبَرِيِّ أَنَّ سُورَةَ «الصَّافَّاتِ» تُسَمَّى «سُورَةَ الذَّبِيحِ» وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى مُسْتَند من الْأَثر.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بَاسِمِ «الصَّافَّاتِ» وُقُوعُ هَذَا اللَّفْظِ فِيهَا بِالْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ «الْمُلْكِ» لَكِنْ بِمَعْنًى آخَرَ إِذْ أُرِيدَ هُنَالِكَ صِفَةُ الطَّيْرِ، عَلَى أَنَّ الْأَشْهَرَ أَنَّ «سُورَةَ الْمُلْكِ» نَزَلَتْ بَعْدَ «سُورَةِ الصَّافَّاتِ».
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَقَبْلَ سُورَةِ لُقْمَانَ.
وَعُدَّتْ آيُهَا مِائَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعَدَدِ. وَعَدَّهَا الْبَصْرِيُّونَ مِائَةً وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ.
أَغْرَاضُهَا
إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَوْقُ دَلَائِلَ كَثِيرَةٍ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَى انْفِرَادِهِ بِصُنْعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا قِبَلَ لِغَيْرِهِ بِصُنْعِهَا وَهِيَ الْعَوَالِمُ السَّمَاوِيَّةِ بِأَجْزَائِهَا وَسُكَّانِهَا وَلَا قِبَلَ لِمَنْ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي ذَلِكَ. وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْبَعْثَ يَعْقُبُهُ الْحَشْرُ وَالْجَزَاءُ.
81
وَوَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَوُقُوعِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. وَوَصْفُ حُسْنِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَعِيمِهِمْ. وَمُذَاكَرَتُهُمْ فِيمَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمُحَاوَلَتِهِمْ صَرْفَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى تَنْظِيرِ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ
بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ وَرَفَعَ شَأْنَهُمْ وَبَارَكَ عَلَيْهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ وَمَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْكُرُوبِ الَّتِي حَفَّتْ بِهِمْ. وَخَاصَةً مَنْقَبَةُ الذَّبِيحِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. وَوَصَفُ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. ثُمَّ الْإِنْحَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَسَادَ مُعْتَقَدَاتِهِمْ فِي اللَّهِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ الشُّرَكَاءِ.
وَقَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَتَكْذِيبِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُم على رُؤُوس الْأَشْهَادِ. وَقَوْلِهِمْ فِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَكَيْفَ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِتَابٌ. ثُمَّ وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالنَّصْرِ كَدَأْبِ الْمُرْسَلِينَ وَدَأْبِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، وَأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ نَازِلٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَتَخْلُصُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِأَغْرَاضِهَا بِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْمَلَائِكَةِ مُنَاسِبٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَمْ يَدَّعُوا لَهَا مَلَائِكَةً، وَالَّذِي تَخْدِمُهُ الْمَلَائِكَةُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالِّ خَلْقُهَا عَلَى عِظَمِ الْخَالِقِ، وَيُؤْذِنُ الْقَسَمُ بِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ الصِّفَات الَّتِي لَو حظت فِي الْقَسَمِ بِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْأَغْرَاضِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا، فَ الصَّافَّاتِ يُنَاسِبُ عَظمَة رَبهَا، وفَالزَّاجِراتِ يُنَاسِبُ قَذْفَ الشَّيَاطِينِ عَنِ السَّمَاوَاتِ، وَيُنَاسِبُ تَسْيِيرَ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظَهَا مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُنَاسِبُ زَجْرَهَا النَّاسَ فِي الْمَحْشَرِ.
بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ وَرَفَعَ شَأْنَهُمْ وَبَارَكَ عَلَيْهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ وَمَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْكُرُوبِ الَّتِي حَفَّتْ بِهِمْ. وَخَاصَةً مَنْقَبَةُ الذَّبِيحِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. وَوَصَفُ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. ثُمَّ الْإِنْحَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَسَادَ مُعْتَقَدَاتِهِمْ فِي اللَّهِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ الشُّرَكَاءِ.
وَقَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَتَكْذِيبِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُم على رُؤُوس الْأَشْهَادِ. وَقَوْلِهِمْ فِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَكَيْفَ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِتَابٌ. ثُمَّ وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالنَّصْرِ كَدَأْبِ الْمُرْسَلِينَ وَدَأْبِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، وَأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ نَازِلٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَتَخْلُصُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِأَغْرَاضِهَا بِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْمَلَائِكَةِ مُنَاسِبٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَمْ يَدَّعُوا لَهَا مَلَائِكَةً، وَالَّذِي تَخْدِمُهُ الْمَلَائِكَةُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالِّ خَلْقُهَا عَلَى عِظَمِ الْخَالِقِ، وَيُؤْذِنُ الْقَسَمُ بِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ الصِّفَات الَّتِي لَو حظت فِي الْقَسَمِ بِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْأَغْرَاضِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا، فَ الصَّافَّاتِ يُنَاسِبُ عَظمَة رَبهَا، وفَالزَّاجِراتِ يُنَاسِبُ قَذْفَ الشَّيَاطِينِ عَنِ السَّمَاوَاتِ، وَيُنَاسِبُ تَسْيِيرَ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظَهَا مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُنَاسِبُ زَجْرَهَا النَّاسَ فِي الْمَحْشَرِ.
82