تفسير سورة التحريم

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني.
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة التحريم
مدنية، اثْنَتَا عشرَة آيَة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ... (١) اضطربت الرواية في سبب نزولها، وما الذي أوجب تحريم ما أحل اللَّه، وما المحرم. روى البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه - ﷺ - دخل على زينب فشرب عندها عسلاً، فتواطتُ أنا وحفصة على أن أيَّتُنا دخل عليها نقول: نجد منك ريع مغافير -وكان يكره الرائحة الكريهة- فدخل على حفصة فقالت له ذلك. فقال: شربت عسلاً عند زينب، وقد حلفت لا أعود إليه فلا تخبري أحداً.
187
وفي رواية عن عائشة رضي اللَّه عنها أيضاً: أن التي سقته هي حفصة، وعائشة وسودة رضي اللَّه عنهما هما اللتان تواطأتا. وروى النسائي عن أنس أن رسول اللَّه - ﷺ - أصاب مارية في يوم حفصة في بيتها. فقالت أي رسول اللَّه - ﷺ - في يومي وفي بيتي؟! فقال: قد حرمتها فلا تقولي لأحد فذكرته لعائشة. (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) حال أو تفسير يفيد زيادة تهجين، أو استئناف كأنه قيل: ما وجه العتاب وقد تقدمه في ذلك الأنبياء كقوله: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)؟ فقيل: يحل مثله عن طلب مرضات النساء في ترك ما أباحه اللَّه. فالمنكر هو الباعث لا التحريم. (وَاللَّهُ غَفُورٌ) غفر لك ما تقدم وما تأخر (رَحِيمٌ) أعطاك ما لم يعط أحداً من العالمين.
188
(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ... (٢) بينها لكم بشرعية الكفَّارة، " فإذا حلف أحدكم على فعل ورأي غيره خيراً فليأته وليكَفِّر ". أو شرع استثناء اليمين بأن يقول في حلفه: إن شاء اللَّه. واستدل به الإمام أحمد على أن من حرّم شيئاً ضم فعله يلزمه الكفارة. وليس فيه دليل لما في رواية البخاري حلفت. (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ) متولي أموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بأحوالكم (الْحَكِيمُ) المتقن في أحكامه. فبادروا إلى ما أمرتم به.
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ... (٣) هي حفصة أو سودة. (حَدِيثًا) تحريم العسل، أو مارية. وما قيل: من أن الخلافة بعدي لأبي بكر وعمر منكر. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أطلعه على إفشائه، (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) عرف مقدار ما علمت اطلاعه وأعرض عن الاستقصاء. على ما هو دأب الكرام. وقرأ الكسائي (عرَف) مخففاً. أي: جازاها على البعض؛ إطلاقاً للسبب على المسبب كقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ). (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) تعجيباً لبناء الأمر على الكتمان بينهما. (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ) بالأشياء. (الْخَبِيرُ) ببواطنها.
(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ... (٤) عائشة وحفصة أو سودة. (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) أي: حق لكما التوبة؛ لوجود موجبه وهو ميل قلوبكما إلى مخالفة الرسول. والتفت إليهما مكافحاً؛ زيادة توبيخ، (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) مرة أخرى. وقرأ الكوفيون بالتخفيف بحذف إحدى التائين. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي: فلن يعدم مظاهراً من هذا نعته وهو اللَّه، ورئيس الكروبيين الذي يباشر عقاب المخالف، الذين هم أعوانه وأتباعه (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) " ظهير " عطف على قوله: " إن اللَّه مولاه " وما عطف عليه. وفي (بَعْدَ ذَلِكَ) دلالة على أن وجوه نصرة اللَّه له، وإن تنوعت أقواها نصرة الملائكة وفيهم جبرائيل؛ لأن إفراده بالذكر أولاً، لعلو شأنه.
(عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ... (٥) عن أنس - رضي الله عنه - أن عمر - رضي الله عنه - قال: اجتمعت نساء النبي - ﷺ - في الغيرة. قلت: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا
خَيْرًا مِنْكُنَّ) فنزلت. وقرأ نافع وأبو عمرو (أَن يُبْدِلَهُ) بالتخفيف، والتشديد أبلغ (مُسْلِمَاتٍ) منقادات لأوامره. (مُؤْمِنَاتٍ) بأن مخالفته عصيان. (قَانِتَاتٍ) طائعات. (تَائِبَاتٍ) عن الذنوب. (عَابِدَاتٍ) مذللات الأخلاق. (سَائِحَاتٍ) صائمات. لما في الحديث: " سياحة أمتي الصيام ". وقيل مهاجرات. (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) أدخل الواو هنا دون سائر الصفات؛ لأنهما متنافيان، فلابد من العاطف.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ... (٦) بترك المعاصي. (وَأَهْلِيكُمْ) أيضاً بأن تأمروهم بالطاعات، وتنهوهم عن المعاصي، وفي الحديث: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ". (نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) حجر الكبريت تتقد بهما كما يتقد غيرها بالحطب. (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ) الزبانية. تسعة عشر. (غِلَاظٌ) الأخلاق (شِدَادٌ) القوى لا يأخذهم في تعذيب أعداء اللَّه رأفة. (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) فيما مضى (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) في المستقبل. أو يقبلون الأوامر ويأتون بموجباتها.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ... (٧) يقال لهم حين يساق بها بهم إلى النار إذ لا عذر لهم، أو لأنه لا يقبل الاعتذار. (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جزاؤه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ... (٨) بالإقلاع عن الذنب، والندم على الماضي. (تَوْبَةً نَصُوحًا) النصح لغة: خلوص كل شيء. يقال: عسل ناصح: صاف. والنصوح صيغة مبالغة منه أي: بالغة في الصفاء عن شوب الذنوب. ويجوز أن يكون من النَّصح بفتح النون: إصلاح الثوب بعد الخرق. وفي الحديث: " من اغتاب خرّق ومن استغفر رفأ "، فهي تنصح صاحبها أو تدعو غيره إلى التوبة؛ لظهور آثارها، على الإسناد المجازي. وفسرها حبر الأمة: باليقين بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالجوارح، والاستمرار على الترك. ْوقرأ أبو بكر بضم النون مصدراً بمعنى: ذات خلوص. (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أردف التوبة النصوح بـ (عَسَى) على دأب الملوك؛ وإشعاراً بأن لا وجوب بل تفضل منه. (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ظرف ليدخلكم، ومعنى المعية: الاجتماع في الإيمان لا في الزمان. (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) استئناف؛ للتعريض بمن ناوأهم وقيل: خبر لـ (الَّذِينَ آمَنُوا) وليس بوجه.
(يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) إذا رأوا نور المنافقين قد انطفى يعتريهم الخوف على ما هو مقتضى البشرية، وإن كانوا جازمين بالإتمام والنجاة. أو هو قول من يكون نوره ضعيفاً، فإن الأنوار على قدر الأعمال، فيسألون إتمامه تفضلاً. أو يقولون ذلك على وجه التقرب والتلذذ كسائر الأذكار في الجنة. يؤيده قوله: (وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إذ إعطاء النور إنما هو بعد الغفران.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ... (٩) بالحجة والسيف لأن الرفق قد بلغ مداه. (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم.
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ... (١٠) مثَّل اللَّه حال الكفار في عدم الانتفاع بما لهم مع الأنبياء والمؤمنين من العلائق صهراً ونسباً بحال المرأتين. (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) ممتازين عن سائر العباد بالصلاح والزلفى.
(فَخَانَتَاهُمَا) في الدين لا في الفجور؛ لأنها فراش النبي، ولا عار عليه في كفرها. (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) يسيراً من الإغناء. (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) الذين لا علاقة بينهم وبين الأنبياء. وفيه تهديد للتين تظاهرتا على رسول اللَّه - ﷺ -، لاسيما التي أفشت سره كامرأة لوط حين دخلت على أضيافه، وإشارة إلى شرف صحبته إنما تفيد زيادة الكرامة إذا نصحت للَّه ولرسوله.
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ... (١١) أعدى عدو اللَّه. هى: آسية بنت مزاحم. (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ومعنى (عِنْدَكَ) مرتفع الدرجة كقوله: (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) من عذابه والابتلاء بعمله. قيل: لما علم يإيمانها هددها لترجع فأبت، وَتَدَ لها أوتاداً فربطها، وأرسل عليها الحيات.
(وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هم القبط أتباع فرعون.
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا... (١٢) عطف على " امرأة فرعون "، جمع في المثل بين ذات الزوج والتي لا زوج لها؛ تسلية للأرامل، وحثاً لهن على المحافظة وتحصين الفروج. (فَنَفَخْنَا فِيهِ) في الفرج. هو نفخ جبرائيل، والإسناد إليه، للشرف. (مِن رُوحِنَا) مخلوق بلا واسطة. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) بأحكامه. أو الصحف المنزلة، عبر بها عنها، لقصرها. (وَكُتُبِهِ) وقرأ غير أبى عمرو وحفص: (كِتابِهِ) مفرداً على إرادة الجنس. أو الإنجيل، والمؤمن به حقاً مؤمن بسائر الكتب. (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) من جملة العابدين. غلب التذكير؛ إشارة إلى أن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكمَّل. ويجوز أن يكون (من) ابتدائية؛ لأنها كانت من أعقابه هارون، فيكون مدحاً لها بشرف النسب بعد مدحها بكرم الحسب.
روى مسلم والبخاري رحمهما الله، أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد. وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام. وفيه دليل ظاهر على أن عائشة أفضل النساء على الإطلاق. ولأن الرفعة وعلو الشأن إنما هو بالعلم، ولم يدانيها كثير من الرجال، فضلاً عن النساء.
* * *
تمت سورة التحريم، والحمد لمن فضله عميم، والصلاة على النبي الكريم، وآله وصحبه ذوي الفضل الجسيم.
* * *
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).