سورة الروم
هي ستون أو تسع وخمسون آية
قال القرطبي : كلها مكية بل خلاف. قال بن عباس : نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وقال البيضاوي. إلا قوله ﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ﴾ والأول أولى.
وأخرج عبد الرزاق. وأحمد- قال السيوطي بسند حسن- عن رجل من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ فيها سورة الروم. وأخرج البزار عن أغر المزني مثله. وعن عبد الملك بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر يوم الجمعة سورة الروم، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وأحمد بن قانع من طريق ابن عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة. وزاد فتردد فيها فلما انصرف قال :" إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم يحضرون بغير طهور. من شهد الصلاة فليحسن الطهور ".
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الم ( ١ ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( ٢ ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( ٣ ) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( ٤ ) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٥ ) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ٦ ) ﴾
ﰡ
_________
(١) لا أصل لكلام ابن جزي من علم التاريخ ولا من علم الأجناس ولا من علوم الدين، والروم يعدون سلالة إبراهيم وغير الروم على الإطلاق برابرة حتى بعد دخولهم المسيحية؟ المطيعي.
وسبب تسميتها جزيرة، إحاطة البحار والأنهار العظيمة بها، كبحر الحبشة وبحر فارس، ودجلة والفرات. وقال ابن جزي في تفسيره: الجزيرة بين الشام
_________
(١) الحقيقة التي أجمع المؤرخون لهذه الحرب عليها أن الفرس انتصروا على الروم ودخلوا بيت المقدس وانتزعوا منه الصليب المقدس الذي يزعم الرومان أنه الذي صلب عليه المسيح. فتأهب الروم للكر على الفرس فانتصروا عليهم بقيادة ملكهم هرقل واستردوا الصليب وفي أثناء تجول هرقل في بلاد الشام سمع بالبعثة المحمدية فبعث من يطلب أحداً من مكة يعلم بخبر النبي - ﷺ - وكان يومئذ بغزة كما في حديث البخاري واستاق له رجاله أبا سفيان بن حرب وجرى بينهما الحوار المعروف الذي استنتج منه الإمبراطور أن صاحب هذه الدعوة سيملك موضع قدميه فالمعركة محددة المعالم معروفة الأماكن؟. المطيعي.
وعن ابن عباس قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم لأنهم كانوا أصحاب أوثان؛ وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي - ﷺ - فقال رسول الله - ﷺ -: " أما إنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا؛ وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلاً خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله - ﷺ - فقال: ألا جعلته أراه قال دون العشرة، فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله: الم غلبت الروم، فغلبت ثم غلبت بعد. قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر.
وعن البراء بن عازب نحوه، وزاد أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارس ساء النبي - ﷺ - ما جعله أبو بكر من المدة وكرهه، وقال: ما دعاك إلى هذا؟ قال: تصديقاً دته ولرسوله، فقال: تعرض لهم وأعظم الخطة، واجعله إلى بضع سنين، فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود، فإن العود أحمد، قالوا: نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن، وبنوا رومية فقمر (١) أبو بكر، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله ﷺ فقال: هذا السحت تصدق به. ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد: إن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار، وقد احتجا على صحة ذلك بهذه القصة والقصة حجة عليهما، لا لهما لأنها كانت قبل تحريم القمار، وفيه: هذه السحت تصدق به.
_________
(١) قمر أبو بكر أي كسب الرهان وهو من القمار الذي حرم بعد ذلك. المطيعي.
أخرج الترمذي وصححه، والدارقطني في الأفراد، والطبراني، وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في الشعب، عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت: الم غلبت الروم الآية، كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك يقول الله: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الخ وكانت قريش تحب ظهور فارس، لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: الم غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين فقال ناس من قريش لأبي بكر: ذلك بيننا وبينكم، يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر: لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين؟ فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه قال فسموا بينهم ست سنين فمضت الست قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين، لأن الله قال في بضع سنين، فأسلم عند ذلك ناس كثير.
وأخرج الترمذي وحسنه، عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال لأبي بكر: " ألا احتطت يا أبا بكر؟ فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ". وأخرج
(لله الأمر) أي هو المتفرد بالقدرة وإنفاذ الأحكام (من قبل ومن بعد) أي من وقت المغلوبية ووقت الغالبية. فهو لف ونشر مرتب على الآية وقال أبو السعود: أي في أول الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا، وحين يغلبون والمعنى أن كُلاًّ من كونهم مغلوبين أولاً وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه، وتلك الأيام نداولها بين الناس انتهى. قرئ بضم الظرفين لكونهما مقطوعين عن الإضافة أي من قبل الغلب، ومن بعده، أو من قبل كل أمر وبعده. قال الزجاج: معنى الآية من متقدم ومن متأخر، وحكى الكسائي. من قبل ومن بعد، بكسر الأول منوناً وضم الثاني بلا تنوين. وحكى الفراء بكسرهما من غير تنوين، وغلطه النحاس، وقال: إنما يجوز مكسوراً منوناً، تلت وقد قرئ بذلك، ووجهه أنه لم ينو إضافتهما فأعربهما وقال شهاب الدين: وقد قرئ بكسرهما منونين.
(ويومئذ) أي ويوم أن تغلب الروم على فارس، ويحل ما وعد الله من غلبتهم (يفرح المؤمنون
(ينصر من يشاء) أن ينصره (وهو العزيز) الغالب القاهر (الرحيم) الكثير الرحمة لعباده المؤمنين، وقيل المراد بالرحمة هنا الدنيوية وهي شاملة للمسلم والكافر
(ظاهراً من الحياة الدنيا) أي ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها، وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية. وقيل: هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع. وقيل: الظاهر الباطل، وقيل: يعني معايشهم كيف يكسبون، ويتجرون، ومتى يغرسون، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون.
قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه لا يخطئ وهو لا يحسن يصلي. وقيل: يعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها، وقيل: لا يعلمون الدنيا بحقيقتها إنما يعلمون ظاهرها، وهو ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها، وهو مضارها ومتاعبها. وأفادت الآية الكريمة أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة، وبالأعمال الصالحة، وتنكير الظاهر، يفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها.
(وهم عن الآخرة) التي هي النعمة الدائمة واللذة الخالصة (هم غافلون) لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما تحتاج إليه؛ أو غافلون عن الإيمان بها، والتصديق بمجيئها، وفيه أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرها، وإعادة
والمعنى أولم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئاًً. والأول أولى، لأن المعنى أولم يتفكروا في قلوبهم الفارغة من الفكر التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات وهم أعلم بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكمة الدالة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت يجازى فيه على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها، جار على الحكمة في التدبير، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت.
(ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما) متعلق بالقول المحذوف، معناه: أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل: معناه فيعلموا لأن في الكلام دليلاً عليه، (وما) في (ما خلق) نافية أي لم يخلقها (إلا بالحق) الثابت الذي يحق ثبوته أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض، أي: بما خلق الله ويضعف أن تكون استفهامية، بمعنى النفي، والباء للسببية، أو هي ومجرورها في محل النصب على الحال، أي متلبسة بالحق. قال الفراء: معناه إلا للحق، أي للثواب والعقاب، وقيل: بالحق بالعدل، وقيل: بالحكمة، وقيل: إنه هو الحق، وللحق خلقها.
(وأجل مسمى) للسموات والأرض وما بينهما تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، وفي هذا تنبيه على الفناء وأن لكل مخلوق أجلاً لا يجاوزه، وقيل: معناه أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء (وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم) أي بالبعث بعد الموت (لكافرون) واللام هي المؤكدة والمراد بهؤلاء الكفار على الإطلاق أو كفار مكة.
(كانوا أشد منهم قوة) كعاد وثمود، والجملة مبينة للكيفية التي كانوا عليها وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية؛ وقال ابن عمر: كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل، أخرجه ابن مردويه (وأثاروا الأرض) أي حرثوها وقلبوها للزراعة، وزاولوا أسباب ذلك، ولم يكن أهل مكة أهل حرث.
(وعمروها) عمارة (أكثر مما عمروها) لأن أولئك كانوا أطول منهم أعماراً وأقوى أجساماً، وأكثر تحصيلاً لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس (وجاءتهم رسلهم بالبينات) أي: المعجزات والحجج الظاهرات وقيل: بالأحكام الشرعية (فما كان الله ليظلمهم) بتعذيبهم على غير ذنب، وإهلاكهم بغير جرم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بالكفر والتكذيب للرسل.
(أن كذبوا) أي: لأن كذبوا (بآيات الله) التي أنزلها على رسوله، أو بأن كذبوا، قال الزجاج: المعنى ثم كان عاقبة الذين أشركوا تكذيبهم بآيات الله واستهزاؤهم بها (وكانوا بها يستهزئون) عطف على كذبوا، داخل معه في حكم العلية أو في حكم الاسمية لكان أو الخبرية لهما.
(يحبرون) الحبور والحبرة السرور، أي فهم في رياض الجنة ينعمون وقال ابن عباس: يحبرون يكرمون. وقال النحاس: حكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته، وقيل: يحلون، والأولى تفسير يحبرون بالسرور، كما هو المعنى العربي، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام، والنعيم، وفي السرور زيادة على ذلك، وقيل: التحبير التحسين فمعنى يحبرون يحسن إليهم، وقيل: هو السماع الذي يسمعون في الجنة، وقيل: غير ذلك والوجه ما ذكرناه.
وأخرج الديلمي عن جابر قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إذا كان يوم القيامة قال الله: أين الذين كانوا ينزهون أسماعهم وأبصارهم عن مزامير الشيطان ميزوهم، فيميزون في كثب المسك والعنبر، ثم يقول للملائكة اسمعوهم من تسبيحي، وتحميدي، وتهليلي، قال فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط ".
وعن مجاهد قال: ينادي مناد يوم القيامة فذكر نحوه. وعن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح: في الجنة شجر على ساق، قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم، فيحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم، ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا، وعن أبي هريرة مرفوعاً نحوه، أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر.
(وعشياً) عطف على حين، وفيه صلاة العصر، والعشي من صلاة المغرب إلى العتمة، قاله الجوهري، وقال قوم: هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، أي الحمد له يكون في السماوات والأرض (وحين تظهرون) أي تصفون صلاة الظهر، كذا قال الضحاك، وسعيد بن جبير، وغيرهما قال الواحدي: قال المفسرون: إن معنى فسبحان الله فصلو الله، قال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات الخمس، قال: وسمعت محمد بن يزيد يقول: حقيقته عندي فسبحوا الله في الصلوات، لأن التسبيح يكون في الصلاة وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وعنه قال: جمعت هذه الآية
وقد وردت أحاديث صحاح في فضل التسبيح، وثواب المسبح، وأخرج أحمد، وابن السني والطبراني، وغيرهم، عن معاذ بن أنس، عن رسول الله - ﷺ - قال: " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون، وحين تصبحون، وله الحمد الآية " وفي إسناده ابن لهيعة.
وأخرج أبو داود، والطبراني، وابن السني وغيرهم عن ابن عباس عن رسول الله - ﷺ -: " من قال حين يصبح: سبحان الله إلى قوله وكذلك تخرجون، أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته " وإسناده ضعيف.
(ويحي الأرض) بالنبات (بعد موتها) باليباس، وهو شبيه بإخراج الحي من الميت (وكذلك) الإخراج (تخرجون) من قبوركم قرئ على البناء للمفعول والفاعل فأسند الخروج إليهم كقوله: يخرجون من الأجداث، والمعنى أن الإبداء والإعادة يتساويان في قدرة من هو قادر على إخراج الميت من الحي وعكسه.
(أن خلقكم) أي خلق أباكم آدم (من تراب) وخلقكم في ضمن خلقه، لأن الفرع مستمد من الأصل، ومأخوذ منه، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام.
(ثم إذا أنتم بشر) الترتيب والمهلة هنا ظاهران، فإنهم إنما يصيرون بشراً بعد أطوار كثيرة و (إذا) هي الفجائية وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع من كونه نطفة، ثم علقة، ثم
(وجعل بينكم مودة ورحمة) أي: وداداً وترحماً بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم من قبل ذلك معرفة فضلاً عن مودة ورحمة، وقال مجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد، وبه قال الحسن وابن عباس، وقال السدي: المودة المحبة، والرحمة: الشفقة وقيل: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء وقيل: المودة للشابة، والرحمة: للعجوز وقيل: المودة والرحمة من الله والفرك من الشيطان، أي بغض المرأة زوجها وبغض الزوج المرأة.
(إن في ذلك) المذكور سابقاً (لآيات) عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة البرهان على قدرته سبحانه على البعث والنشور (لقوم يتفكرون) أن قوام الدنيا بوجود التناسل، لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادة له، يتحصل عنه، أو لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المطلوبة من التأنس والتجانس بين الأشياء كالزوجين وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلا كالأنعام.
(واختلاف ألسنتكم) أي: لغاتكم من عرب، وعجم، وترك، وروم، وغير ذلك، بأن علم كل صنف لغته، أو ألهمه وضعها وأقدره عليها أو أجناس النطق وأشكاله، فإنك لا تكاد تسمع متكلمين متساويين في الكيفية من كل وجه.
(وألوانكم) من البياض، والسواد، والحمرة، والصفرة، والشقرة، والزرقة، والخضرة، مع كونكم أولاد رجل واحد، وأم واحدة، يجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية، وفصل واحد وهو الناطقية، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم، لا يلتبس هذا بهذا، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد، حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما، والأمور الملاقية لهما في التخليق، يختلفان في شيء من ذلك لا محالة، وإن كانا في غاية التشابه، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلا العالمون، ولا يفهمه إلا المتفكرون ولو اتفقت الأصوات، والصور، وتشاكلت، وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، ولم يعرف العدو من الصديق، ولا القريب من البعيد؛ فسبحان من خلق الخلق على ما أراد، وكيف أراد، وإنما نظم هذا في سلك الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض، مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام، في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم؛ للإيذان باستقلاله، والاحتراز عن توهم كونه من تتمات خلقهم.
(إن في ذلك لآيات) لدلالات على قدرته تعالى (للعالمين) لعموم العلم فيهم، قرئ بكسر اللام وبفتحها وهما سبعيتان. وقال الفراء للكسرة وجه جيد لأنه قد قال: لآيات لقوم يعقلون، لآيات لأولي الألباب، وما يعقلها إلا العالمون.
(إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) الآيات والمواعظ سماع متفكر متدبر بآذان واعية فيستدلون بذلك على البعث.
(إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدل بها على القدرة الباهرة، كيف؟ والعقل ملاك الأمر. وهو المؤدي إلى العلم فيما ذكر وغيره، وإنما قال هنا: يعقلون، وفيما تقدم: يتفكرون، لأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف؛ كان يتطرق إلى الأوهام القاصرة أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة من المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة، وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قوياً وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار. فقال: هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً، قاله الكرخي.
(بأمره) أي: قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه، وقدرته بلا عمد يعمدهما، ولا مستقر يستقران عليه. قال الفراء: يقول أن تدوما قائمتين بأمره، وإنما ذكر قوله: إن في ذلك لآيات، في أربع مواضع، ولم يذكره في الأول، وهو قوله: ومن آياته أن خلقكم من تراب، ولا في الأخيرة وهي هذا لأن في الأول خلق الأنفس وخلق الأزواج من باب واحد، وهو الإيجاد فاكتفى فيهما بذكره مرة واحدة. وأما قيام السماوات والأرض الذي هو الأخير فلأن في
(ثم) أي بعد موتكم ومصيركم في القبور (إذا دعاكم دعوة) واحدة (من الأرض) التي أنتم فيها كما يقال: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي وقيل: أي خرجتم من الأرض ولا يجوز أن يتعلق بـ (تخرجون) لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدم بيانه (إذا أنتم تخرجون) أي فاجأتم الخروج منها بسرعة من غير تلبث ولا توقف كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع وإذا الفجائية تقوم مقام الفاء في جواب الشرط، وقال هنا: إذا أنتم، وقال في خلق الإنسان: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، لأن هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلاً للحياة فتنفخ فيه الروح فإذا هو بشر وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج فلم يقل هنا (ثم) ذكره الكرخي، وقد أجمع القراء على فتح التاء في (تخرجون) هنا وإنما قرئ بضمها في الأعراف
(كل له قانتون) مطيعون طاعة انقياد قاله النحاس، وقيل: مقرون بالعبودية إما بالمقال وإما بالدلالة قاله عكرمة وأبو مالك والسدي وقيل: مصلون وقيل: قائمون يوم القيامة، كقوله: يوم يقوم الناس لرب العالمين أي للحساب قاله الربيع بن أنس، وقيل: بالشهادة أنهم عباده قال الحسن وقيل مطيعون لأفعاله لا يمتنع عليه شيء يريد فعله بهم، من حياة وموت ومرض وصحة فهي طاعة الإرادة، لا طاعة العبادة وقيل: مخلصون قاله سعيد بن جبير وقال ابن عباس: مطيعون في الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة.
إن الذي سمك السماء بنى لنا | بيتاً دعائمه أعز وأطول |
تمنى رجال أن أموت وإن أمت | فتلك سبيل لست فيها بأوحد |
(وله المثل الأعلى) أي: الوصف الأعلى العجيب الشأن من القدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال، والجلال، والجمال، التي ليس لغيره ما يدانيها فضلاً عما يساويها، وقال الخليل: المثل الصفة أي: وله الوصف الأعلى قول: لا إله إلا الله أي الوحدانية، وبه قال قتادة وقال الزجاج: وله المثل الأعلى.
(في السماوات والأرض) مرتبط بما قبله، وهو قوله: وهو أهون عليه، قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل، وقيل: مرتبط بما بعده من قوله " ضرب لكم مثلاً من أنفسكم " وقيل: المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء، قاله ابن عباس. وقيل: هو أن ما أراده كان بقول: كن، والمعنى أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى ووصف به في السماوات والأرض، أي في هاتين الجهتين؛ وقيل: غير ذلك (وهو العزيز) في ملكه القادر الذي لا يغالب (الحكيم) في أفعاله وأقواله.
(فيما زرقناكم) من الأموال وغيرها كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم، وهم العبيد والإماء؟ والاستفهام للإنكار. قال ابن عباس في
(فأنتم) وهم (فيه سواء) أي مستوون في التصرف فيه على عادة الشركاء، وهذا جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي، ومحقق لنفي الشركة بينهم وبين العبيد والإماء المملوكين لهم في أموالهم، والمعنى هل ترضون لأنفسكم والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية أن يساووكم في التصرف بما رزقناكم من الأموال؟ ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم؟
(تخافونهم) خيفة (كخيفتكم أنفسكم) أي كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في الحرية وملك الأموال، وجواز التصرف. والمراد نفي الأشياء الثلاثة، الشركة بينهم وبين المملوكين، والاستواء معهم وخوفهم إياهم. وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم: ما تأتينا فتحدثنا. والمراد إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بد أن يقولوا: لا نرضى بذلك، فيقال لهم: فكيف تنزهون أنفسكم عن مشاركة المملوكين لكم؟ وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟ فإذا بطلت الشركة. بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله تعالى، لم يبق إلا أنه الرب وحده لا شريك له. قرئ أنفسكم بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله، وبالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله.
(كذلك نفصل الآيات) تفصيلاً واضحاً وبياناً جلياً لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها (لقوم يعقلون) لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية، والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها، ثم أضرب سبحانه عن مخاطبة المشركين وإرشادهم إلى الحق بما ضرب لهم من المثل فقال:
(فمن يهدي من أضل الله) أي: لا أحد يقدر على هدايته، لأن الرشاد والهداية بتقدير الله وإرادته (وما لهم) أي: ما لهؤلاء الذين أضلهم الله، والجمع باعتبار معنى من (من ناصرين) ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين عذاب الله سبحانه؛ ثم أمر رسول الله - ﷺ - بتوحيده وعبادته كما أمره فقال:
أخرج أحمد والنسائي، والحاكم، وصححه، وغيرهم، عن أسود بن سريع: إن رسول الله - ﷺ - بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين فانتهى القتل إلى الذرية. فلما جاءوا قال النبي - ﷺ -: " ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين، قال: وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده، ما من نسمة تولد إلا على الفطرة، حتى يُعْرِبَ عنها لسانها ".
وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - ﷺ -: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه، إما شاكراً وإما كفوراً "
وروى الإمام أحمد في المسند عن عياش بن حماد أن رسول الله - ﷺ -
والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف، قال آخرون: هي البداءة التي ابتدأهم عليها فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة، والفاطر في كلام العرب: هو المبتدئ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة. وإهمال معناها شرعاً، والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها اللغوي. كقوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) أي خالقهما ومبتديهما، وكقوله: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة، وهو ما ذكره الأولون كما بيناه. وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها. وقال الزجاج: منصوب بمعنى اتبع فطرة الله، قال: لأن معنى فأقم وجهك للدين: اتبع الدين واتبع فطرة الله: وقال ابن جرير: هي مصدر من معنى فأقم وجهك، لأن معنى ذلك فطرة الله الناس على الدين. وقيل: هي منصوبة على الإغراء، أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، ورد هذا الوجه أبو حيان، وقال: إن كلمة الإغراء لا تضمر، إذ هي عوض عن الفعل، فلو حذفها لزم حذف العوض والمعوض عنه، وهو إجحاف، وأجيب بأن هذا رأي البصريين، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك.
(لا تبديل لخلق الله) أي لما جبلكم وطبعكم عليه من قبول الحق، وهذا تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة. أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس
وقيل: لا يقدر أحد أن يغيره، فلا بد حينئذ من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأساً، ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق، والتمكن من إدراكه ضرورة أن التبديل بالمعنى الأول مقدور، بل واقع قطعاً، فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد، فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من اتباع الهوى، وخطوات الشيطان، ذكره أبو السعود.
وقيل: هو نفي؛ معناه: النهي. أي: لا تبدلوا خلق الله، قال مجاهد وإبراهيم النخعي: معناه لا تبديل لدين الله، قال قتادة، وابن جبير، والضحاك، وابن زيد: هذا في المعتقدات، وقال عكرمة: إن المعنى لا تغيير لخلق الله في البهائم، بأن تخصى فحولها. وقيل: لا تبدلوا التوحيد بالشرك، والسنة بالبدعة، وقيل: لا تبديل لما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، فلا يصير السعيد شقياً، ولا الشقي سعيداً.
(ذلك) الدين المأمور بإقامة الوجه له هو (الدين القيم) أو لزوم الفطرة هو الدين القيم، أي: المستقيم. وقال ابن عباس: الدين: القضاء (ولكن أكثر الناس) أي: كفار مكة (لا يعلمون) ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به.
(وأقيموا الصلاة) التي أمرتم بها (ولا تكونوا من المشركين) بالله أي ممن يشرك به غيره في العبادة وقوله
(وكانوا شيعاً) الشيع: الفرق، أي لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقاً في الدين، يشايع بعضهم بعضاً، من أهل البدع والأهواء، وقيل المراد بهم اليهود والنصارى، وقرئ فرقوا دينهم، أي الذي يجب اتباعه وهو التوحيد، وهي سبعية، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام.
(كل حزب) أي كل فريق منهم (بما لديهم) من الدين المبني على غير الصواب (فرحون) أي مسرورون مبتهجون يظنون أنهم على الحق وليس بأيديهم منه شيء، والجملة اعتراض مقرر لا قبله من تفريقهم دينهم، وكونهم شيعاً.
(ثم إذا أذاقهم منه رحمة) بإجابة دعائهم، ورفع تلك الشدائد عنهم (إذا فريق منهم بربهم يشركون) إذا: هي الفجائية وقعت جواباً للشرط؛ كأنها كالفاء في إفادة التعقيب، أي: فاجأ فريق منهم بالإشراك، وهم الذين دعوه فخلصهم مما كانوا فيه، وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم، وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم، وفيه مراعاة معنى لفظ الفريق وكذا في قوله.
(فهو يتكلم) أي يدل، كما في قوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) وهو في حيز النفي المستفاد من أم (بما كانوا يشركون) أي ينطق بإشراكهم
(وإن تصيبهم سيئة) أي بلاء من جدب، أو ضيق، أو مرض أو شدة على أي صفة (بما قدمت أيديهم) أي بسبب شؤم ذنوبهم (إذا هم يقنطون) القنوط الإياس من الرحمة، كذا قال الجمهور؛ وقال الحسن: القنوط ترك فرائض الله سبحانه؛ وقرئ يقنطون بفتح النون وبكسرها؛ وهما سبعيتان، وبابه ضرب وتعب؛ والمعنى إذا هم ييأسون، وهذا خلاف وصف المؤمنين؛ فإن من شأنهم أن يشكروا عند النعمة؛ ويرجوا ربهم عند الشدة أو يقال: الدعاء اللساني بناء على مجرد العادة لا ينافي القنوط القلبي، وقد يشاهد مثل ذلك في كثير من الناس، فلا يخالف هذا قوله: (دعوا ربهم منيبين إليه) أو المراد يفعلون فعل القانطين، كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء، قاله الكرخي.
(والمسكين وابن السبيل) أي آتهما حقهما الذي يستحقانه، ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف، ولكون ذلك واجباً لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول، سواء كان زكوياً أو لم يكن، وسواء كان قبل الحول أو بعده، لأن المقصود هنا الشفقة العامة وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم، وإن لم يكن للإنسان مال زائد، والفقير داخل في المسكين، لأن من أوصى للمساكين بشيء يصرف إلى الفقراء أيضاً وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف، رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم، وأما المسكين فحاجته ليست مختصة بموضع فقدم على من حاجته مختصة بموضع دون موضع قال مقاتل: حق المسكين أن يتصدق عليه، وحق ابن السبيل الضيافة، وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فقيل: هي منسوخة بآية المواريث، وقيل محكمة.
(ذلك خير للذين يريدون وجه الله) أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرب إلى الله سبحانه، ويقصد بمعروفه إياه خالصاً (وأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالاً لأمره.
(من ربا) وأجمعوا على الأولى في قوله: وما آتيتم من زكاة، أصل الربا الزيادة والمعني: ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض بأن تعطوا شيئاًً هبة أو هدية.
(ليربوا في أموال الناس) أي ليزيد ويزكو في أموالهم (فلا يربو عند الله) قرئ بالتحتية، على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا، وقرئ بالفوقية مضمومة خطاباً للجماعة، بمعنى لتكونوا ذوي زيادات، وقرئ لتربوها، ومعنى الآية: أنه لا يزكو عند الله ولا يثيب عليه، لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه خالصاً، قال السدي: الربا في هذا الموضع: الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة، فإن ذلك لا يربو عند الله، أي لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه وهكذا قال قتادة والضحاك قال الواحدي: وهذا قول جماعة المفسرين قال الزجاج: يعني دفع الرجل الشيء ليعوض أكثر منه، وذلك ليس بحرام ولكنه لا ثواب فيه لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه.
قال عكرمة: الربا ربوان، فربا حلال، وربا حرام، فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه، يعني كما في هذه الآية. وقيل: إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرم، فمعنى لا يربو عند الله على هذا القول: لا يحكم به، بل هو للمأخوذ منه، قال المهلب: اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله مثل ذلك، مثل هبة الفقير للغني، وهبة الخادم للمخدوم، وهبة الرجل لأميره، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط، وهو قول الشافعي رحمه الله الآخر.
وعن عليّ قال: المواهب ثلاثة: موهبة يراد بها وجه الله، وموهبة يراد بها ثناء الناس، وموهبة يراد بها الثواب؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب عليها، بخلاف القسمين الآخرين، فلا يرجع فيهما صاحبهما. قال ابن عباس: في الآية الربا ربوان، ربا لا بأس به، وربا لا يصلح، فأما الربا الذي لا بأس به، فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها وإضعافها، وعنه قال: هذا هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر، ونهى النبي - ﷺ - خاصة فقال: ولا تمنن تستكثر.
(وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله) أي: وما أعطيتم من صدقة
(من يفعل من ذلكم)؟ أي: الخلق والرزق والإماتة والإحياء (من شيء) أي شيئاًً من هذه الأفعال؟ ومعلوم أنهم يقولون: ليس فيهم من يفعل شيئاًً من ذلك، فتقوم عليهم الحجة، و (من) الأولى والثانية لبيان شروع الحكم في جنس الشركاء والأفعال، والثالثة مزيدة لتعميم النفي، ثم نزه سبحانه نفسه فقال: (سبحانه وتعالى عما يشركون) أي نزهوه تنزيهاً، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك.
وقال السدي: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد، ويمكن أن يقال: إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه وقيل: الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش، وقيل: قطع السبل والظلم وقيل: نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا، قال النحاس: وهو أحسن ما قيل في الآية. وعنه أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم. قال ابن عطية: فإذا قل المطر قل الغوص فيه، وعميت دواب البحر. وقيل غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه، والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه، سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات، وتقاطعهم وتظالمهم، وتقاتلهم، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه،
وقيل: البر الفيافي، والبحر القرى التي على ماء، قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار البحار. قال مجاهد: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر، وعن ابن عباس نحوه، والأول أولى، ويكون معنى البر مدن البر، ومعنى البحر مدن البحر، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها.
(بما كسبت أيدي الناس) من المعاصي والذنوب، والباء للسببية وأما (ما) موصولة أو مصدرية (ليذيقهم بعض الذي عملوا) اللام للعلة، أي: ليذيقهم بعض عقوبة عملهم، أو جزاء بعض عملهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة. وقيل: للصيرورة، قرئ بالياء وبنون العظمة (لعلهم يرجعون) عما هم فيه من المعاصي، ويتوبون إلى الله، قال ابن عباس: يرجعون من الذنوب. ولما بيَّن سبحانه ظهور الفساد فيهما بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأول فقال:
(من قبل أن يأتي يوم) يعني يوم القيامة (لا مرد له من الله) المرد مصدر، رد، أي لا يقدر أحد على أن يرده كقوله: لا يستطيعون ردها فلا بد من وقوعه، وقيل: المعنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه، قاله أبو السعود (يومئذ) أي: يوم إذ يأتي هذا اليوم.
(يصدعون) أصله يتصدعون، والتصدع: التفرق، يقال: تصدع القوم، إذا تفرقوا، ومنه قول الشاعر (١):
وكنا كندماني حذيمة حقبة | من الدهر حتى قيل لن يتصدعا |
(١) الشاعر هو متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً الذي قتل في حروب الردة والبيت الذي يليه:
فلما تفرقنا كأني ومالكاً | لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً. المطيعي |