مكية كلها في قول الجميع
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى :﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ ﴾ الآية.روى ابن جبير عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان.
قال ابن شهاب : فغلبت فارس الروم فسر بذلك المشركون وقالوا للمسلمين إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا لأنكم أهل كتاب، وقد غلبت فارس الروم والروم أهل كتاب.
وقيل : إنه كان آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فساءه فأنزل الله هاتين١ الآيتين فلما قال :
﴿ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيْغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ سر بذلك المسلمون وبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى مشركي قريش فأخبرهم بما أنزل عليهم وأن الروم ستغلب فارس. قال قتادة : فاقتمر أبو بكر والمشركون على ذلك، وذلك قبل تحريم القمار، مدة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : مدة ثلاث سنين تظهر الروم فيها على فارس، قاله السدي.
الثاني : خمس سنين، قاله قتادة.
الثالث : سبع سنين، قاله الفراء.
وكان الذي تولى ذلك من المسلمين أبو بكر رضي الله عنه، واختلف في الذي تولاه من المشركين مع أبي بكر على قولين :
أحدهما : أنه أبو سفيان ابن حرب، قاله السدي.
الثاني : أنه أُبي بن خلف، قاله قتادة. وحكى النقاش أن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم عَلِق به أبي بن خلف وقال : اعطني كفيلاً بالخطر٢ إن غلبت فكفله ابنه عبد الرحمن.
واختلف في قدر العوض المبذول على قولين :
أحدهما : أربع قلائص، قاله عامر.
الثاني : خمس قلائص، قاله قتادة.
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر لهم هذه المدة أنكرها وقال :" مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ ؟ " قال : ثقة بالله وبرسوله، قال :" فَكَم البِضْعُ " قال : ما بلغ بين الثلاث والعشر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" زِدْهُم فِي الخَطَرِ فِي وَزِدْ الأَجَلِ " فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين فصارت القلائص ستاً على القول الأول وسبعاً على الثاني وصار الأجل خمساً على القول الأول، وسبعاً على الثاني، وتسعاً على الثالث٣.
واختلف في الاستزادة والزيادة على قولين :
أحدهما : أنها كانت بعد انقضاء الأجل الأول قبل ظهور الغلبة، قاله عامر.
الثاني : أنها كانت قبل انقضاء الأجل الأول، قاله ابن شهاب. فأظفر الله الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقاً لخبره في التقدير ولرسوله صلى الله عليه وسلم في التنزيل.
واختلف في السنة التي غلبت فيها الروم أهل فارس على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها عام بدر ظهر الروم على فارس فيه وظهر المسلمون على قريش فيه، قاله أبو سعيد. قال : فكان في يوم بدر.
الثاني : أن ظهور فارس على الروم كان قبل الهجرة بسنتين، وظهور المسلمين على قريش كان في عام بدر بعد الهجرة بسنتين، ولعله قول عكرمة.
الثالث : عام الحديبية ظهرت الروم على فارس وكان ظهور المسلمين على المشركين في الفتح بعد مدة الحديبية، قاله عبيد الله بن عبد الله.
فأما قوله تعالى :﴿ فِي أَدْنَى الأَرْضِ ﴾ ففيه قولان :
أحدهما : في أدنى أرض فارس، حكاه النقاش.
الثاني : في أدنى أرض الروم، وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة أقاويل :
أحدها : أطراف الشام، قاله ابن عباس.
الثاني : الجزيرة٤ وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، قاله مجاهد.
الثالث : الأردن وفلسطين، قاله السدي.
الرابع : أذرعات٥ الشام وكانت بها الوقعة قاله يحيى بن سلام.
وقرأ أبو عمرو وحده :﴿ غَلَبَتِ ﴾، بالفتح أي ظهرت فقيل له علام غلبت فقال : في أدنى ريف الشام.
قوله تعالى :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ وهو ما بين الثلاث إلى العشر٦ وهذا نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال بعض أهل اللغة هو ما بين العقدين من الواحد إلى العشرة فيكون من الثاني إلى التاسع.
وأما النيف ففيه قولان :
أحدهما : ما بين الواحد والتسعة، قاله ابن زيد.
الثاني : ما بين الواحد والثلاثة، وهو قول الجمهور.
﴿ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت.
الثاني : من قبل غلبة دولة فارس على الروم ومن بعد غلبة دولة الروم على فارس.
﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه الخبر الذي ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بهلاك كسرى ففرح ومن معه فكان هذا يوم فرحهم بنصر الله لضعف الفرس وقوة العرب.
الثاني : يعني به نصر الروم على فارس.
وفي فرحهم بذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : تصديق خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني : لأنهم أهل كتاب مثلهم.
الثالث : لأنه مقدمة لنصرهم على المشركين.
٢ الخطر: الرهن وما يخاطر عليه..
٣ ويروى أنه لما كسب أبو بكر الرهن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق به، فتصدق به. وقد روى الترمذي حديث الرهان رقم ٣١٩٢ تفسير..
٤ الجزيرة: أرض بين العراق والشام..
٥ قال ابن عطية فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرت أدنى دارها نظر عال.
٦ رواه الترمذي رقم ٣١٩١..
﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ في نقمته ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ لأهل طاعته.
أحدهما : يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقال الضحاك : هو بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها فهذا ظاهر الحياة الدنيا.
الثاني : يعلمون ما ألقته الشياطين لهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا، قاله ابن جبير.
ويحتمل ثالثاً : أن ظاهر الحياة الدنيا العمل لها، وباطنها عمل الآخرة.
﴿ وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : عما أعده الله في الآخرة من ثواب عن طاعته وعقاب على معصيته.
الثاني : عما أمرهم الله به من طاعة وألزمهم إياه.
﴿ السُّوأَى ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : جهنم، قاله السدي.
الثاني : العذاب في الدنيا والآخرة، قاله الحسن.
وفي الفرق بين الإساءة والسوء وجهان :
أحدهما : أن الإساءة إنفاق العمر في الباطل، والسوء إنفاق رزقه في المعاصي.
الثاني : أن الإِساءَة فعل المسيء والسوء الفعل مما يسوء.
﴿ أَن كَذَّبُوا ﴾ لأن كذبوا.
﴿ بآيَاتِ اللَّهِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، قاله الكلبي.
الثاني : بالعذاب أن ينزل بهم، قاله مقاتل.
الثالث : بمعجزات الرسل، قاله الضحاك.
﴿ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي بالآيات.
(يا صاح هل تعرف رسْماً مكرساً | قال نعم أعرفه وأبلسَا) |
(فالحمد لله الذي أعطى الحبر | موالي الحي إن المولى يَسَر) |
(ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ | خضراء جاد عليها مسبل هطل) |
(يضحك الشمس منها كوكب شَرِقٌ | مؤزر بعميم النبت مكتهل) |
(يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ | ولا بأحسن منها إذا دنا الأُصُل) |
أحدها : أنه الفضيحة، قاله مجاهد.
الثاني : الاكتئاب، قاله ابن أبي نجيح.
الثالث : الإياس، قاله ابن عباس.
الرابع : الهلاك، قاله السدي.
الخامس : الندامة، قاله ابن قتيبة.
السادس : الحيرة، قال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسْماً مكرساً | قال نعم أعرفه وأبلسَا١ |
أحدهما : في الجزاء بالثواب والعقاب.
الثاني : في المكان بالجنة والنار.
أحدها : يمكرون، قاله ابن عباس.
الثاني : ينعمون، قاله مجاهد وقتادة.
الثالث : يتلذذون بالسماع والغناء، قاله يحيى بن أبي كثير.
الرابع : يفرحون، قاله السدي. والحبرة عند العرب السرور والفرح قال العجاج :
فالحمد لله الذي أعطى الحبر | موالي الحي إن المولى يَسَر |
ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ | خضراء جاد عليها مسبل هطل |
يضحك الشمس منها كوكب شَرِقٌ | مؤزر بعميم النبت مكتهل |
يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ | ولا بأحسن منها إذا دنا الأُصُل |
أحدها : مدخلون، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : نازلون ومنه قوله :
﴿ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ ﴾
[ البقرة : ١٨٠ ] و [ المائدة : ١٠٦ ] أي نزل به.
الثالث : مقيمون، قاله ابن شجرة.
الرابع : معذّبون.
الخامس : مجموعون، ومعاني هذه التأويلات متقاربة.
أحدهما : الحمد لله على نعمه وآلائه.
الثاني : الصلاة لاختصاصها بقراءة الحمد في الفاتحة.
﴿ وَعَشِّياً ﴾ يعني صلاة العصر.
﴿ وَحِينَ تَظْهِرُونَ ﴾ يعني صلاة الظهر وإنما خص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن الإنسان في النهار متقلب في أحوال توجب حمد الله عليها، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها فلذلك١ صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل.
والفرق٢ بين المساء والعشي أن المساء بدو الظلام بعد المغيب، والعشي آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس، فجاءت هذه الآية جامعة لأوقات الصلوات الخمس، وقد روى سفيان عن عاصم أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس : هل تجد في كتاب الله الصلوات الخمس ؟ فقرأ هذه الآية.
قال يحيى بن سلام : كل صلاة ذكرت في كتاب الله قبل الليلة التي أسري فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم فليست من الصلوات الخمس لأنها فرضت في الليلة التي أسري به فيها وذلك قبل الهجرة بسنة، قال : وهذه الآية نزلت بعد ليلة الإسراء وقبل الهجرة.
٢ هذه العبارة كاملة حتى الشمس نقلها القرطبي عن الماوردي ص ١٦ ج ١٤..
أحدها : يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي، قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة وابن جبير.
الثاني : يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن، قاله عمر ابن الخطاب رضي الله عنه والزهري، ورواه الأسود بن عبد يغوث١ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث : يخرج الدجاجة من البيضة ويخرج البيضة من الدجاجة، قاله عكرمة.
الرابع : يخرج النخلة من النواة ويخرج النواة من النخلة، والسنبلة من الحبة والحبة من السنبلة، قاله ابن٢ مالك والسدي.
ويحتمل خامساً : يخرج الفطن اللبيب من العاجز البليد ويخرج العاجز البليد من الفطن اللبيب.
﴿ وَيُحْيِى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ يعني بالنبات لأنه حياة أهلها فصار حياة لها.
ويحتمل ثانياً : أنه كثرة أهلها لأنهم يحيون مواتها ويعمرون خرابها.
﴿ وَكَذِلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات وأحيا الموتى كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس.
٢ ذكر القرطبي عكرمة بدلا من ابن ملك ص ٥٦ ج ٤..
أحدهما : حواء خلقها من ضلع آدم، قاله قتادة.
الثاني : أن خلق سائر الأزواج من أمثالهم من الرجال والنساء، قاله علي بن عيسى.
﴿ لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ لتأنسوا إليها لأنه جعل بين الزوجين من ١ الأنسية ما لم يجعله بين غيرهما.
﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ فيه أربعة :
أحدها : أن المودة المحبة والرحمة والشفقة، قاله السدي.
الثاني : أن المودة الجماع والرحمة الولد٢، قاله الحسن.
الثالث : أن المودة حب الكبير والرحمة الحنو على الصغير، قاله الكلبي.
الرابع : أنهما التراحم بين الزوجين، قاله مقاتل.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يتفكرون في أن لهم خالقاً معبوداً.
الثاني : يتفكرون في البعث بعد الموت.
٢ الولد هكذا بالأصل..
أحدهما : أن الليل والنهار معاً وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل، لأن من الناس من يتصرف في كسبه ليلاً وينام نهاراً.
الثاني : أن الليل وقت النوم والنهار وقت لابتغاء الفضل، ويكون تقدير الكلام : ومن آياته منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله بالنهار.
وفي ابتغاء الفضل وجهان :
أحدهما : التجارة، قاله مجاهد.
الثاني : التصرف والعمل. فجعل النوم في الليل دليلاً على الموت والتصرف في النهار دليلاً على البعث.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ فيه ثلاث أوجه :
أحدها : يسمعون الحق فيتبعونه.
الثاني : يسمعون الوعظ فيخافونه.
الثالث : يسمعون القرآن فيصدقونه.
(لا يكن برقك برقاً خُلّباً | إن خير البرق ما الغيث معه) |
(فقد أرد المياه بغير زادٍ | سوى عَدّي لها بَرْق الغمام) |
أحدهما : أن تكون.
الثاني : أن تثبت.
﴿ بِأَمْرِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بتدبيره وحكمته.
الثاني : بإذنه لها أن تقوم بغير عمد.
﴿ ثُمَّ إِذا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنْ الأَرْضِ ﴾ أي وأنتم موتى في قبوركم.
﴿ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ أي من قبوركم مبعوثين إلى القيامة. قال قتادة : دعاهم من السماء فخرجوا من الأرض.
ثم فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أخرجهم بما هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة قوله كن فيكون، قاله ابن عيسى.
الثاني : أنهم أخرجهم بدعاء دعاهم به، قاله قتادة.
الثالث : أنه أخرجهم بالنفخة الثانية وجعلها دعاء لهم. ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام.
(إن الذي سمك السماء بنى لنا | بيتاً دعائمه أعز وأطول) |
(وهان على أسماءَ أن شطت النوى | يحن إليها والهٌ ويتوق) |
ثم أكد ذلك بقوله :﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن إعادة الخلق أهون على الله من ابتداء الخلق على ما قد استقر في عقول الخلق أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه وإن كان جميعه على الله هينا، قاله عكرمة والضحاك.
الثاني : إن إعادة الخلق أهون من ابتداء إنشائهم لأنهم ينقلون في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم يعود رضيعاً ثم فطيماً، وهو في الإعادة يصاح به.
فيقوم سوياً وهذا مروي عن ابن عباس.
الثالث : معناه وهو هين عليه فجعل ﴿ أهْونُ ﴾ مكان ﴿ هَيِّنٌ ﴾ كقول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا | بيتاً دعائمه أعز وأطول |
وفي تأويل ﴿ أَهْوَنُ ﴾ وجهان :
أحدهما : أيسر، قاله ابن عباس.
الثاني : أسهل، وأنشد ابن شجرة قول الشاعر :
وهان على أسماءَ أن شطت النوى | يحن إليها والهٌ ويتوق |
﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى ﴾ أي الصفة العليا. وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن ليس كمثله شيء، قاله ابن عباس.
الثاني : هو شهادة أن لا إله إلا الله، قاله قتادة.
الثالث : أنه يحيي ويميت، قاله الضحاك.
ويحتمل رابعاً :-هو أعم- أنه جميع ما يختص به من الصفات التي لا يشاركه المخلوق فيها.
﴿ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ أي لا إله فيها غيره.
﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : المنيع في قدرته.
الثاني : في انتقامه.
﴿ الْحَكِيمُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في تدبيره لأمره وهو معنى قول أبي العالية.
الثاني : في إعذاره وحجته إلى عباده، قاله جعفر بن الزبير.
(إن تقتولنا فدين الله فطرتنا | والقتل في الحق عند الله تفضيل) |
(فإن تابوا فإن بني سليم | وقومهم هوازن قد أنابوا) |
أحدها : مقبلين إليه، قاله يحيى بن سلام والفراء.
الثاني : داعين إليه، قاله عبيد بن يعلى.
الثالث : مطيعين له، قاله عبد الرحمن بن زيد.
الرابع : تائبين إليه من الذنوب، ومنه قول أبي١ قيس بن الأسلت :
فإن تابوا فإنّ بني سليم | وقومهم هوازن قد أنابوا |
أحدهما : أن أصله القطع ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة.
الثاني : أن أصله الرجوع مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد مرة ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة.
٢ ينقل القرطبي عن الماوردي، وفي أصل الإنابة قولان... ص ٣١ ج ١٤..
أحدها : أنهم اليهود، قاله قتادة.
الثاني : أنهم اليهود والنصارى، قاله معمر.
الثالث : أنهم الخوارج من هذه الأمة، وهذا قول أبي هريرة ورواه أبو أمامة مرفوعاً.
الرابع : أنهم أصحاب الأهواء والبدع، روته عائشة مرفوعاً.
﴿ وَكَانُوا شِيَعاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فرقاً، قاله الكلبي.
الثاني : أدياناً، قاله مقاتل.
ويحتمل ثالثاً : أنهم أنصار الأنبياء وأتباعهم.
﴿ كُلُّ حِزْبٍ ﴾ أي فرقة.
﴿ بِمَا لَدَيْهِمْ فِرِحُونَ ﴾ أي بما عندهم من الضلالة.
﴿ فَرِحُونَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مسرورون، قاله الجمهور.
الثاني : معجبون، قاله ابن زيد.
الثالث : متمسكون، قاله مجاهد.
أحدها : يعني كتاباً، قاله الضحاك.
الثاني : عذراً، قاله قتادة.
الثالث : برهاناً، وهو معنى قول السدي وعطاء.
الرابع : رسولاً، حكاه ابن عيسى محتملاً.
﴿ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : معناه يخبر به.
الثاني : يحتج له.
أحدهما : أنها العافية والسعة، قاله يحيى بن سلام.
الثاني : النعمة والمطر، حكاه النقاش.
ويحتمل أنها الأمن والدعة.
﴿ فَرِحُوا بِهَا ﴾ أي بالرحمة.
﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سِيِّئَةً ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : بلاء وعقوبة، قاله مجاهد.
الثاني : قحط المطر، قاله السدي.
ويحتمل ثالثاً : أنها الخوف والحذر.
﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي بذنوبهم.
﴿ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن القنوط اليأس من الرحمة والفرج، قاله الجمهور.
الثاني : أن القنوط ترك فرائض الله في اليسر، قاله الحسن.
أحدها : أنه الرجل يهدي هدية ليكافأ عليها أفضل منها، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني : أنه في رجل صحبه في الطريق رجل فخدمه فجعل له المخدوم بعض الربح من ماله جزاء لخدمته لا لوجه الله، قاله الشعبي.
الثالث : أنه في رجل يهب لذي قرابة له مالاً ليصير به غنيّاً ذا مال ولا يفعله طلباً لثواب الله، قاله إبراهيم.
ومعنى قوله :﴿ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ أي فلا يكون له ثواب عند الله.
قال ابن عباس : هما رِبَوان أحدهما حلال والآخر حرام، فما تعاطيتم بينكم حلال ولا يصل إلى الله١.
﴿ وَمَا َآتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ﴾ أي ثواب الله، وفيها قولان :
أحدهما : أنها الزكاة المفروضة وهو الظاهر.
الثاني : أنها الصدقة، قاله ابن عباس والسدي.
﴿ فَأُوْلَئِكَ الْمُضْعِفُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تضاعف لهم الحسنات لأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، قاله السدي.
الثاني : تضاعف أموالهم في الدنيا بالزيادة فيها، وقال الكلبي : لم يقل مال رجل من زكاة.
(وكنا كندماني جذيمة حقبةً | من الدهر حتى قيل له يتصدعا) |
(فلا مزنة ودقت ودْقُها | ولا أرض أبقل إبقالها) |
﴿ كَيْفَ يُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ﴾ يعني بالماء حتى أنبتت شجراً ومرعى بعد أن كانت بالجدب مواتاً. قال عكرمة : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة.
﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ لأن القادر على إحياء الأرض الموات قادر على إحياء الأموات استدلالاً بالشاهد على الغائب.
وتأول من تعمّق في غوامض المعاني آثار رحمة الله أنه مواعظ القرآن وحججه تحيي القلوب الغافلة.
أحدهما : فرأوا السحاب مصفراً، لأن السحاب إذا كان كذلك لم يمطر، حكاه علي ابن عيسى. وقيل إنها الريح الدبور لأنها لا تلقح.
الثاني : فرأوا الزرع مصفراً بعد اخضراره، قاله ابن عباس وأبو عبيدة.
﴿ لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴾ ومعنى ظل هو أنه أوقع الفعل في صدر النهار وهو الوقت الذي فيه الظل، لأنه وقت مختص بأهم الأمور لتقديمه عن نّية من الليل. وكذلك قولهم أضحى يفعل، لكن قد يعبر بقولهم ظل يفعل عن فعل أول النهار وآخره اتساعاً لكثرة استعماله، وقلَّما يستعمل أضحى يفعل إلا في صدر النهار دون آخره.
ويحتمل ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾ هنا وجهين :
أحدهما : يَشْكَّونَ.
الثاني : يذمّون.
(أُريت الشيب من نذر المنايا | لصاحبه وحسبك من نذير) |
أحدهما : أنهم الملائكة، قاله الكلبي.
الثاني : أهل الكتاب.
﴿ وَالإِيمَانَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : الإيمان بالكتاب المتقدم من غير تحريف له ولا تبديل فيه.
الثاني : الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لقد لبثتم في علم الله، قاله الفراء.
الثاني : لقد لبثتم بما بيانه في كتاب الله، قاله ابن عيسى.
الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ في كتاب الله والإيمان ﴿ لَقَدْ لَبِثْتُم إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ قاله قتادة.
وفي ﴿ لَبِثْتُمْ ﴾ قولان :
أحدهما : لبثوا في قبورهم.
الثاني : في الدنيا أحياء وفي قبورهم أموات.
﴿ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ﴾ يعني الذي كذبتم به في الدنيا.
﴿ وَلكِنَّكُمْ كِنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي لا تعلمون في الدنيا أن البعث حق وقد علمتم الآن أنه حق.
﴿ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ أي عذرهم الذي اعتذروا به في تكذيبهم.
﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يعاتبون على سيئاتهم، قاله النقاش.
الثاني : لا يستتابون، قاله بعض المتأخرين.
الثالث : لا يطلب منهم العتبى وهو أن يُرَدُوا إلى الدنيا لِيُعْتَبُوا أي ليؤمنوا، قاله يحيى بن سلام.
مكية كلها في قول الجميع إلا رواية عطاء أن آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما قوله تعالى: ﴿ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام﴾ والتي بعدها. وقال الحسن إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى ﴿الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة﴾ لأن الصلاة والزكاة مدنيتان. بسم الله الرحمن الرحيم
أحدهما : أن وعد الله في نصرك وتأييدك حق.
الثاني : أن وعده في انتقامه من أعدائك حق.
﴿ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يَسْتَعْجَلَنَّكَ، قاله ابن شجرة.
الثاني : لا يَسْتَفِزَّنَّكَ، قاله يحيى بن سلام.
الثالث : لا يستنزلنك، قاله النقاش.
﴿ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لا يؤمنون.
الثاني : لا يصدقون بالبعث والجزاء. روى سعيد عن قتادة أن رجلاً من الخوارج قال لعلي كرم الله وجهه وهو خلفه في صلاة الصبح ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. . ﴾ الآية. فقال له عليّ وهو في الصلاة ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ﴾، والله أعلم.
سورة الروم
سورةُ (الرُّومِ) من السُّوَر المكية، وهي السورة الوحيدة التي ذُكِر فيها (الرُّومُ)؛ ولهذا سُمِّيت بهذا الاسم، وقد اشتمَلتْ هذه السورة الكريمة على الإخبارِ بغيبِ المستقبَل؛ من أن (الرُّومَ) سيكونون غالبين بعد أن كانوا مغلوبين، وفي ذلك تأكيدٌ لصِدْقِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومقصودُ السورة عظيم؛ ألا وهو: ردُّ الأمر كلِّه لله، مِن قبلُ ومِن بعدُ؛ مما يدعو كلَّ مؤمن إلى صدقِ التوكل عليه، والالتجاء إليه، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لها في الفجر.
ترتيبها المصحفي
30نوعها
مكيةألفاظها
817ترتيب نزولها
84العد المدني الأول
60العد المدني الأخير
59العد البصري
60العد الكوفي
60العد الشامي
60* سورةُ (الرُّومِ):
سُمِّيت سورةُ (الرُّومِ) بذلك؛ لأنه ورَد فيها ذِكْرُ (الرُّومِ)، ولم يَرِدْ في غيرها من القرآن.
* أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورةَ (الرُّومِ) في الفجرِ:
عن أبي مالكٍ الأغَرِّ المُزَنيِّ رضي الله عنه، قال: «صلَّيْتُ مع النبيِّ ﷺ، فقرَأَ سورةَ الرُّومِ في الصُّبْحِ». أخرجه الطبراني (٨٨٤).
اشتمَلتْ سورة (الرُّومِ) على عِدَّةِ موضوعات؛ وهي:
1. الإخبار عن غيب المستقبَل (١-٧).
2. التفكير في مخلوقات الله يدل على وجوده، وهو الذي يُعِيد خَلْقَ الإنسان يوم القيامة (٨-١٦).
3. تنزيه الله وَحْده، وأدلة وجوده وربوبيَّتِه سبحانه وتعالى (١٧-٢٧).
4. إثبات الوَحْدانية، وبطلان الشِّرك، والأمر باتباع الإسلام (٢٨-٣٢).
5. لجوء الناس إلى الله عند الشدائد، وإعراضهم عند زوالها (٣٣-٣٧).
6. الحث على الإنفاق لذوي الأرحام، والتحذير من المال الحرام (٣٨-٤٠).
7. جزاء المفسدين والمؤمنين (٤١-٤٥).
8. الرِّياح والأمطار دالة على قدرة الله تعالى، وتشبيهُ الكفار بالموتى (٤٦-٥٣).
9. أطوار حياة الإنسان، قَسَمُ المجرمين في الآخرة (٥٤-٥٧).
10. الأمثال للعِبْرة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الدعوة (٥٨-٦٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /4).
إثباتُ الأمرِ كلِّه لله عزَّ وجلَّ؛ فهو صاحب الحقِّ، المتصفُ بالرُّبوبية والألوهية وكلِّ صفات الكمال، والقادرُ على كل شيء، فيأتي البعثُ، ونصرُ أوليائه، وخِذْلان أعدائه؛ وهذا هو المقصود بالذات، واسمُ السورة واضح فيه؛ بما كان من السبب في نصرِ (الرُّوم) من الوعد الصادق، والسرِّ المكتوم، ومن أعظم ما اشتملت عليه: التصريحُ بأن الإسلامَ دِينٌ فطَر اللهُ الناسَ عليه، وأن مَن ابتغى غيرَه دِينًا فقد حاول تبديلَ ما خلَق الله، وأنَّى له ذلك؟!
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /349)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (21 /41).