مكية وآياتها ستون
هذه السورة مكية لا خلاف أحفظه في ذلك١.
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الرّومهذه السورة مكية. ولا خلاف أحفظه في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)
تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور بما فيه كفاية، وقرأ الجمهور «غلبت» بضم الغين وقالوا معنى الآية أنه طرأ بمكة أن الملك كسرى هزم جيش ملك الروم قال مجاهد: في الجزيرة وهو موضع بين العراق والشام، وقال عكرمة: وهي بين بلاد العرب والشام، وقال مقاتل: بالأردن وفلسطين، فلما طرأ ذلك سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ وتكون الدولة لهم في الحرب، وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة وعبد الله بن عمر «غلبت» الروم بفتح الغين واللام، وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كان أن الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر المسلمون فبشر الله تعالى عباده بأنهم سَيَغْلِبُونَ أيضا فِي بِضْعِ سِنِينَ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم، والرواية الأولى والقراءة بضم الغين أصح، وأجمع الناس على «سيغلبون» أنه بفتح الياء يريد به الروم، وروي عن ابن عمرو أنه قرأ أيضا «سيغلبون» بضم الياء، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به، وأَدْنَى الْأَرْضِ معناه أقرب الأرض، فإن كانت الوقعة في أذرعات فهي من أَدْنَى الْأَرْضِ بالقياس إلى مكة وهي التي ذكر امرؤ القيس في قوله: [الطويل]
تنورتها من أذرعات وأهلها | بيثرب أدنى دارها نظر عال |
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤنة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله ﷺ ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. وسِنِينَ، يجمع كجمع من يعقل عوضا من النقص الذي في واحده لأن أصل سنة سنهة أو سنوة، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه خارج عن قياسه ونمطه ثم أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدره، فقال لِلَّهِ الْأَمْرُ أي إنفاذ الأحكام مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء القوم، وقَبْلُ وبَعْدُ ظرفان بنيا على الضم لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليه وصارا متضمنين ما حذف فخالفا معرب الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبينا وخصا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر أو أضيف زال بناؤه، وكذلك هما فضما كما المنادى مبني على الضم، وقيل في ذلك أيضا أن الفتح تعذر فيهما لأنه حالهما في إظهار ما أضيفا إليه، وتعذر الكسر لأنه حالهما عند إضافتهما إلى المتكلم، وتعذر السكون لأن ما قبل أحدهما ساكن، فلم يبق إلا الضم فبنيا عليه، ومن العرب من يقول «من قبل ومن بعد» بالخفض والتنوين.
قال الفراء: ويجوز ترك التنوين فيبقى كما هو في الإضافة وإن حذف المضاف، وقوله تعالى:
وَيَوْمَئِذٍ يحتمل أن يكون عطفا على القبل والبعد، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر، ويحتمل أن يكون الكلام تم في قوله بَعْدُ، ثم استأنف عطف جملة أخبر فيها أن يوم غلبت الروم الفرس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وعلى هذا الاحتمال مشى المفسرون، والنصر الذي يَفْرَحُ به الْمُؤْمِنُونَ يحتمل أن يشار فيه إلى نصر الروم على فارس وهي نصرة الإسلام بحكم السببين اللذين قد ذكرتهما، ويحتمل أن يشار فيه إلى نصر يخص المؤمنين على عدوهم وهذا أيضا غيب أخبر به وأخرجه الوجود إما يوم بدر وإما يوم بيعة الرضوان، ويحتمل
قال القاضي أبو محمد: هذا الذي ذكرناه هو عمدة ما قيل، وقد حكى الطبري وغيره روايات يردها النظر أو قول الجمهور، من ذلك أن بعضهم قال إنما نزلت وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ بعد غلبة الروم لفارس ووصول الخبر بذلك، وهذا يقتضي أن الآية مدنية والسورة مكية بإجماع ونحو هذا من الأقوال.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٧ الى ٨]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، واختلف الناس في معنى ظاهِراً فقالت فرقة معناه بينا أي ما أدته إليهم حواسهم فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم، وقال ابن عباس والحسن والجمهور: معناه ما فيه الظهور والعلو في الدنيا من إتقان الصناعات والمباني ومظان كسب الأموال والفلاحات ونحو هذا، وقالت فرقة: معناه ذاهبا زائلا أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة ومثل هذه اللفظة قول الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها | وتلك شكاة ظاهر عنك عارها |
قال القاضي أبو محمد: وفيه تقع الغفلة وتقصير الجهال، ثم وصفهم ب «الغفلة» والإعراض عن أمر الآخرة وكرر الضمير تأكيدا، وغفلة الكافر هي على الكمال والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه يأخذ من هذه الآية بحظ، نوّر الله قلوبنا بهداه، ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنهم قد فكروا فلم تنفعهم الفكرة والنظر إذ لم يكن على سداد، وقوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ يحتمل معنيين: أحدهما أن تكون الفكرة في ذواتهم وحواسهم وخلقتهم ليستدلوا بذلك على الخالق المخترع، ثم أخبر عقب هذا المعنى بأن الحق هو السبب في خلق السماوات والأرض، فيفهم على طريقة الإيجاز والاختصار أن من فكر في نفسه علم حقيقة هذا الخبر ووقف عليه ببصيرة نفسه، والمعنى الثاني أن تكون النفس ظرفا للفكرة في خلق السماوات والأرض فيكون قوله فِي أَنْفُسِهِمْ تأكيدا لقوله يَتَفَكَّرُوا كما تقول انظر بعينك واسمع بأذنك، فقولك بأذنك تأكيد، وقوله إِلَّا بِالْحَقِّ أي بسبب المنافع التي هي حق واجب يريد من
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٩]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
هذا أيضا توقيف وتوبيخ على أنهم ساروا ونظروا، أي إن ذلك لم ينفعهم حين لم يعملوا بحسب العبرة وخوف العاقبة.
قال القاضي أبو محمد: ولا يتوجه للكفرة أن يعارض منهم من لم يسر فيقول لم أسر لأن كافة من سار من الناس قد نقلت إلى من لم يسر فاستوت المعرفة وحصل اليقين للكل، وقامت الحجة، وهذا بين، وقوله تعالى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ يريد بالمباني والحرث والحروب، وسائر الحوادث التي أحدثوها هي كلها إثارة للأرض بعضها حقيقة وبعضها تجوز لأن إثارة أهل الأرض والحيوان والمتاع، إثارة للأرض، وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمد الهمزة قال ابن مجاهد: ليس هذا بشيء، قال أبو الفتح: وجهها أنه أشبع فتحة الهمزة فنشأت ألف ونحوه قول ابن هرمة: [الوافر]
فأنت من الغوائل حين ترمى | ومن ذم الرجال بمنتزاح |
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٠ الى ١٣]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم كانَ والخبر يجوز أن يكون السُّواى ويجوز أن يكون أَنْ كَذَّبُوا وتكون السُّواى على هذا مفعولا ب أَساؤُا وإذا كان السُّواى خبرا
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا | قال نعم أعرفه وأبلسا |
وقوله وَكانُوا معناه يكونون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام فعبر عنه بالماضي لتيقن الأمر وصحة وقوعه.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٤ الى ١٨]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)
يَتَفَرَّقُونَ معناه في المنازل والأحكام والجزاء، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها، ويُحْبَرُونَ معناه ينعمون، قاله مجاهد، والحبرة والحبور السرور والتنعم، وقال يحيى بن أبي كثير:
يُحْبَرُونَ معناه يسمعون الأغاني، وهذا نوع من الحبرة، وقال ابن عباس يُحْبَرُونَ يكرمون وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينظرون العبرة ومنه بيت أبي ذؤيب: [الطويل]
فراق كقيص السن فالصبر انه | لكل أناس عبرة وحبور |
وما روضة من رياض الحزن معشبة | خضراء جاد عليها مسل هطل |
فما روضة طيبة الثرى | تمج الندا جثجاثها وعرارها |
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢)
الْحَيَّ والْمَيِّتِ في هذه الآية يستعمل حقيقة ويستعمل مجازا، فالحقيقة المني يخرج منه الإنسان والبيضة يخرج منها الطائر وهذه بعينها ميتة تخرج من حي وما جرى هذا المجرى، وبهذا المعنى فسر ابن عباس وابن مسعود وقال الحسن: المعنى المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
قال الفقيه الإمام القاضي: وروي هذا المعنى عن النبي ﷺ أنه قرأ هذه الآية عند ما كلمته بالإسلام أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والمجاز إخراج النبات الأخضر من الأرض وإخراج الطعم من النبات وما جرى هذا المجرى، ومثل بعد إحياء الأرض بالمطر بعد موتها
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)
ذكر تعالى النوم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وعرف النوم إنما هو بالليل وحده، ثم ذكر الابتغاء مِنْ فَضْلِهِ كأنه فيهما وإنما معنى ذلك أنه عم بالليل والنهار فسمى الزمان وقصد من ذلك تعديد آية النوم وتعديد آية ابتغاء الفضل فإنهما آيتان تكونان في ليل ونهار، والعرف يجيز كل واحدة من النعمتين أي محلها من الأغلب وقال بعض المفسرين في الكلام تقديم وتأخير.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف وإنما أراد أن يرتب النوم لليل والابتغاء للنهار ولفظ الآية لا يعطي ما أراد، وقوله تعالى: يُرِيكُمُ فعل مرتفع لما حذفت «أن» التي لو كانت لنصبته فلما حل الفعل محل الاسم أعرب بالرفع.
ومنه قول طرفة: [الطويل]
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى | وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي |
وما الدهر إلا تارتان فمنهما | أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح |
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا على أن مِنْ للتبعيض كسائر هذه الآيات، ويحتمل في هذه وحدها أن تكون مِنْ لابتداء الغاية فلا يحتاج إلى تقدير «أن» ولا إلى تقدير «آية»، وإنما يكون الفعل مخلصا للاستقبال وقوله خَوْفاً وَطَمَعاً، قال قتادة خَوْفاً للمسافر وَطَمَعاً للمقيم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولا وجه لهذا التخصيص ونحوه بل فيه الخوف والطمع لكل بشر، قال الضحاك: الخوف من صواعقه والطمع في مطره، وقوله تعالى: أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ معناه تثبت، كقوله تعالى وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [البقرة: ٢٠] وهذا كثير، وقيل هو فعل مستقبل أحله محل الماضي ليعطي فيه معنى الدوام الذي هو في المستقبل، والدعوة من الأرض هي البعث ومِنَ الْأَرْضِ حال للمخاطبين كأنه قال: خارجين من الأرض، ويجوز أن يكون مِنَ الْأَرْضِ صفة للدعوة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومِنْ، عندي هاهنا لانتهاء الغاية كما تقول دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل، والوقف في هذه الآية عند نافع ويعقوب الحضرمي على دَعْوَةً، والمعنى بعد إذا أنتم تخرجون من الأرض، وهذا على أن مِنْ لابتداء الغاية، والوقف عند أبي حاتم على قوله مِنَ الْأَرْضِ، وهذا على أن مِنْ لانتهاء الغاية، قال مكي: والأحسن عند أهل النظر أو الوقف في آخر الآية لأن مذهب الخليل وسيبويه في إِذا الثانية أنها جواب الأولى كأنه قال: ثم إذا دعاكم خرجتم وهذا أسدّ الأقوال.
وقرأ حمزة والكسائي «تخرجون» بفتح التاء، وقرأ الباقون «تخرجون» بضم التاء.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)
اللام في لَهُ الأولى لام الملك، وفي الثانية لام تعدية ل «قنت» إذ «قنت» بمعنى خضع في طاعته وانقياده، وهذه الآية ظاهر لفظها العموم في القنت والعموم في كل من يعقل، وتعميم ذلك في المعنى لا يصح لأنه خبر، ونحن نجد كثيرا من الجن والإنس لا يقنت في كثير من المعتقد والأعمال، فلا بد أن عموم
فتلك سبيل لست فيها بأوحد واستشهد بهذا البيت أبو عبيدة وهذا شاهده كثير، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه»، وفي بعض المصاحف و «كل هين عليه»، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة: المعنى وهو أيسر عليه، وإن كان الكل من اليسر عليه في حيز واحد وحال متماثلة، ولكن هذا التفضيل بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البداءة للتمرن والاستغناء عن الروية التي كانت في البدأة، وهذان القولان الضمير فيهما عائد على الله تعالى، وقالت فرقة أخرى: الضمير في عَلَيْهِ عائد على الخلق.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهذا بمعنى المخلوق فقط، وعلى التأويلين الأولين يصح أن يكون المخلوق أو يكون مصدرا من خلق، فقال الحسن بن أبي الحسن إن الإعادة أهون على المخلوق من إنشائه لأنه في إنشائه يصير من حالة إلى حالة، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ونحو هذا، وفي الإعادة إنما يقوم في حين واحد، فكأنه قال وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالا، وقال بعضها: المعنى «وهو أهون» على المخلوق أن يعيد شيئا بعد إنشائه، أي فهذا عرف المخلوقين فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق.
قال الفقيه الإمام القاضي: والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ويؤيده قوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى لما جاء بلفظ فيه استعارة واستشهاد بالمخلوق على الخالق وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به تكييف ولا تماثل مع شيء و «العزة والحكمة»، صفتان موافقتان لمعنى الآية، فبهما يعيد وينفذ أمره في عباده كيف شاء، ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم
وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير، وقرأ الناس «كخيفتكم أنفسكم» بنصب السين، وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسكم» بضمها، وقرأ الجمهور «نفصل» بالنون حملا على رَزَقْناكُمْ، وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصل» بالياء حملا على ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
الإضراب ب بَلِ هو عما تضمنه معنى الآية المتقدمة، كأنه يقول: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من تشريكهم مع الله تعالى، بل اتبعوا أهواءهم جهالة وشهوة وقصدا لأمر دنياهم، ثم قرر على جهة التوبيخ لهم على من يهدي إذا أضل الله، أي لا هادي لأهل هذه الحال، ثم أخبر أنه لا ناصر لهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه، وحَنِيفاً، معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة، وقوله فِطْرَتَ اللَّهِ نصب على المصدر، كقوله صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: ١٣٨] وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم فِطْرَتَ اللَّهِ، واختلف الناس في «الفطرة» هاهنا، فذكر مكي وغيره في ذلك جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه قال فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الذي هو الحنيف وهو فِطْرَتَ اللَّهِ الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه» الحديث، فذكر الأبوين: إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ يحتمل تأويلين:
أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه، والآخران أن يكون قوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون، وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله، وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي.
قال الفقيه الإمام القاضي: فلفظة الإشراك على هذا فيها تجوز فإنهم صاروا في دينهم فرقا، و «الشيع» الفرق واحدها «شيعة»، وقوله كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ معناه أنهم مفتونون بآرائهم معجبون بضلالهم، وذلك أضل لهم، وقرأت فرقة «فارقوا دينهم» بالألف.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
هذا ابتداء إنحاء على عبدة الأصنام المشركين بالله عز وجل غيره بين الله تعالى لهم أنهم كسائر البشر في أنهم إذا مسهم ضُرٌّ دَعَوْا الله وتركوا الأصنام مطرحة ولهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع، ف إِذا أَذاقَهُمْ رحمته أي باشرهم أمره بها، والذوق مستعار، إذا طائفة تشرك به أصناما ونحو هذا، وإِذا للمفاجأة فلذلك صلحت في جواب إِذا الأولى بمنزلة الفاء وهذه الطائفة هي عبدة الأصنام.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين إذا جاءهم فرج بعد شدة فعلقوا ذلك بمخلوقين أو بحذق آرائهم وغير ذلك لأن فيه قلة شكر لله تعالى، ويسمى تشريكا مجازا، وقوله تعالى لِيَكْفُرُوا اللام لام كي، وقالت فرقة هي لام الأمر على جهة الوعيد والتهديد، وأما قوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا فأمر على جهة الوعيد، والتقدير قل لهم يا محمد فَتَمَتَّعُوا وقرأ أبو العالية «فيتمتعوا» بياء قبل التاء وذلك عطف على لِيَكْفُرُوا أي لتطول أعمارهم
وقوله أَمْ بمعنى بل وألف الاستفهام كأنه أضرب عن صدر الكلام ورجع إلى هذه الحجة، و «السلطان» هنا البرهان من رسول أو كتاب ونحوه، والسلطان في كلام العرب جمع سليط كرغيف ورغفان وغدير وغدران فهو مأخوذ من التسلط والتغلب، ولزم هذا الاسم في العرب الرئيس لأنه سليط بوجه الحق ولزمه اسم جمع من حيث أنواع الغلبة والملك عنده، وقال قوم: هو اسم مفرد وزنه فعلان، وقوله تعالى:
فَهُوَ يَتَكَلَّمُ معناه أن يظهر حجتهم وينطق بشركهم قاله قتادة، فيقوم ذلك مقام الكلام، كما قال تعالى هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: ٢٩].
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
لما ذكر تعالى حالة الناس متى تأتيهم شدة وضر ونجوا منه إلى سعة ذكر في هذه الآية الأمر أيضا من الطرف الآخر بأن تنال الرحمة ثم تعقب الشدة فلهم في الرتبة الأولى تضرع ثم إشراك وقلة شكر، ولهم في هذه فرج وبطر ثم قنط ويأس، وكل أحد يأخذ من هذه الخلق بقسط، والمقل والمكثر إلا من ربطت الشريعة جأشه ونهجت السنة سبيله وتأدب بأدب الله تعالى، فصبر عند الضراء، وشكر عند السراء، ولم يبطر عند النعمة، ولا قنط عند الابتلاء، وقوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي إن الله يمتحن الأمم ويصيب منهم عند فشو المعاصي وظهور المناكر، وكذلك قد يصاب شخص بسوء أعماله يسيء وحده ويصاب وحده، وفي الأغلب يعفو الله عن كثير، و «القنط» اليأس الصريح، وقرأ أبو عمرو وجماعة «يقنطون» بكسر النون، وقرأ نافع والحسن وجماعة «يقنطون» بفتحها، وجواب الشرط في قوله إِنْ تُصِبْهُمْ قوله إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ وذلك أنها للمفاجأة لا يبتدأ بها، فهي بمنزلة الفاء لا يبتدأ بها ويجاب بها الشرط، وأما «إذا» التي للشرط أو التي فيها معنى الشرط فهما يبدأ بهما ولا يكون فيهما جواب الشرط، ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله على حال وهو أن الله تعالى يخص من يشاء من عباده ببسط الرزق ويقدر على من شاء منهم فينبغي لكل عبد أن يكون راجيا ما عند ربه، ثم أمر تعالى نبيه أمرا تدخل الأمة فيه وهذا على جهة الندب إلى إيتاء ذي القربى حقه من صلة المال وحسن المعاشرة ولين القول، قال الحسن: حَقَّهُ المواساة في اليسر وقول ميسور في العسر.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومعظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)
قرأ جمهور القراء «وما آتيتم» بمعنى وما أعطيتم، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم» بغير مد بمعنى ما فعلتم كما تقول أتيت صوابا وأتيت خطأ، وأجمعوا على المد في قوله وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ. و «الربا» الزيادة، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس: هذه آية نزلت في هبات الثواب.
قال الفقيه الإمام القاضي: وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم النخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع، وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحدا وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية النهي عن الربا في التجارات لما حض عز وجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل المرء من ربا ليزداد به مالا وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك «لا يربوا عند الله» ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة، وما أعطى الإنسان من زكاة تنمية لماله وتطهيرا يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافا مضاعفة على ما شاء الله تعالى له، وقال السدي: نزلت هذه الآية في ربا ثقيف لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش، وقرأ جمهور القراء السبعة «ليربو» بالياء وإسناد الفعل إلى الربا، وقرأ نافع وحده «لتربوا» بضم التاء على وزن تفعلوا بمعنى تكونوا ذوي زيادة، وهذه قراءة ابن عباس وأهل المدينة الحسن وقتادة وأبي رجاء والشعبي، قال أبو حاتم هي قراءتنا، وقرأ أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث، و «المضعف» الذي هو ذو أضعاف من الثواب كما المؤلف الذي له آلاف، وكما تقول أخصب إذا كان ذا خصب. وهذا كثير، ومنه أربى المتقدم في قراءة من قرأ «لتربوا» بضم التاء، ثم كرر مخاطبة الكفرة في أمر أوثانهم فذكر أفعال الله تعالى التي لا شريك له فيها وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ولا يمكن أن ينكر ذلك عاقل، ووقف الكفار على جهة التقرير والتوبيخ هل من شركائهم أي الذين
قال الفقيه الإمام القاضي: ومنه قول سعد بن عبادة للنبي ﷺ في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ «في البر والبحور»، ورويت عن ابن عباس، وقال مجاهد أيضا: ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه، وفي البحر أخذ السفن غضبا، وقال بعض العباد الْبَرِّ اللسان والْبَحْرِ القلب، وقال الحسن بن أبي الحسن الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هما المعروفان المشهوران في اللغة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي ﷺ قد كان الظلم عم الأرض برا وبحرا، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى، وقوله تعالى: بِما كَسَبَتْ تقديره جزاء ما كسبت، ويحتمل أن تتعلق الباء ب ظَهَرَ أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر، والترجي في «لعل» هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور، وقرأ عامة القراء والناس «ليذيقهم» بالياء، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي «لنذيقهم» بالنون ومعناهما بين، وقرأ أيضا أبو عبد الرحمن «لتذيقهم» بالتاء من فوق.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)
هذا تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار فيمن سلف من الأمم وفي سوء عواقبهم بكفرهم وإشراكهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه، والمعنى اجعل قصدك ومسعاك للدين أي لطريقه ولأعماله واعتقاداته، والْقَيِّمِ أصله قيوم اجتمعت الواو والياء وسبقت الياء وهي ساكنة فأبدلت الواو ياء وأدغمت
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
اللام في قوله لِيَجْزِيَ متعلقة ب يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣]، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك أو فعل ذلك لِيَجْزِيَ وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى مَنْ كَفَرَ [الروم: ٤٤] وعَمِلَ صالِحاً [الروم: ٤٤]، وقوله تعالى: لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ليس الحب بمعنى الإرادة ولكنه بمعنى لا يظهر عليهم أمارات رحمته ولا يرضاه لهم دينا ونحو هذا، ثم ذكر تعالى من آياته أشياء يقضي كل عقل بأنها لا مشاركة للأوثان فيها وهو ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر، ويذيق الله بها المطر ويلقح بها الشجر وغير ذلك ويجري بها السفن في البحر ويبتغي الناس بها فضل الله في التجارات في البحر وفي ذرو الأطعمة وغير ذلك، ثم أنس محمدا بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، وتوعد قريشا بأن ضرب لهم مثل من هلك من الأمم الذين أجرموا وكذبوا الأنبياء، ثم وعد محمدا وأمته النصر إذ أخبر أنه جعله قًّا
عليه تبارك وتعالى، وقًّا
خبرانَ
قدمه اهتماما لأنه موضع فائدة الجملة، وبعض القراء في هذه الآية وقف على قوله قًّا
وجعله من الكلام المتقدم ثم استأنف جملة من قوله لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
، وهذا قول ضعيف لأنه لم يدر قدما عرضه في نظم الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
«الإثارة» تحريكها من سكونها وتسييرها، وبسطه فِي السَّماءِ هو نشره في الآفاق، و «الكسف»
فلا مزنة ودقت ودقها | ولا أرض أبقل إبقالها |
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
ثم أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم في أنه بعيد الاستبشار بالمطر أن بعث الله ريحا فاصفر بها النبات ظلوا يكفرون قلقا منهم وقلة توكل وتسليم لله تعالى، والضمير في «رأوه» للنبات كما قلنا أو للأثر وهو حوة النبات الذي أحييت به الأرض وقال قوم هو للسحاب، وقال قوم هو للريح، وهذا كله ضعيف، واللام في لَئِنْ مؤذنة بمجيء القسم، وفي لَظَلُّوا لام القسم، وقوله «ظلوا» فعل ماض نزله منزلة
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦)
وهذه أيضا عبر بين فيها أن الأوثان لا مدخل لها فيها.
وقرأ جمهور القراء والناس بضم الضاد في «ضعف»، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها وهي قراءة ابن مسعود وأبي رجاء، والضم أصوب، وروي عن ابن عمر أنه قرأ على النبي ﷺ بالفتح فردها عليه بالضم، وقال كثير من اللغويين: ضم الضاد في البدن وفتحها في العقل، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك أنهم ضموا الضاد في الأول والثاني وفتحو «ضعفا»، وقرأ عيسى بن عمر «من ضعف» بضمتين، وهذه الآية إنما يراد بها حال الإنسان، و «الضعف» الأول هو كون الإنسان من ماء مهين، و «القوة» بعد ذلك الشبيبة، وقوة الأسر، و «الضعف» الثاني الهرم والشيخ هذا قول قتادة وغيره، ثم أخبر تعالى عن يوم القيامة أن المجرمين يقسمون لجاجا منهم وتسورا على ما لا علم لهم به أنهم ما لبثوا تحت التراب غير ساعة وهذا إتباع لتحيلهم الفاسد ونظرهم في ذلك الوقت على نحو ما كانوا في الدنيا يتبعون ذلك، ويُؤْفَكُونَ عن الحق أي يصرفون وقيل المعنى ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها لما عاينوا من أمر الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يضعفه قوله تعالى: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ إذ لو أراد تقليل الدنيا بالإضافة إلى الآخرة لكان منزعا سديدا وكان قولهم ساعَةٍ تجوزا في القدر والموازنة، ثم أخبر تعالى عن الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ أنهم يقفون في تلك الحال على حق ويعرفون أنه الوعد المتقرر في الدنيا، وقال بعض المفسرين: إنما أراد أوتوا الإيمان والعلم ففي الكلام تقديم وتأخير.
قوله عز وجل:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضى، ويُسْتَعْتَبُونَ بمعنى يعتبون كما تقال يملك ويستملك، والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى كان يفسد إذا كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى.
وقرأ عاصم والأعمش «ينفع» بالياء كما قال تعالى فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: ٢٧٥] وحسن هذا أيضا بالتفرقة التي بين الفعل وما أسند إليه كما قال الشاعر: [الطويل]
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى | ثلاث الأثافي والديار البلاقع |
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
سورة الروم
سورةُ (الرُّومِ) من السُّوَر المكية، وهي السورة الوحيدة التي ذُكِر فيها (الرُّومُ)؛ ولهذا سُمِّيت بهذا الاسم، وقد اشتمَلتْ هذه السورة الكريمة على الإخبارِ بغيبِ المستقبَل؛ من أن (الرُّومَ) سيكونون غالبين بعد أن كانوا مغلوبين، وفي ذلك تأكيدٌ لصِدْقِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومقصودُ السورة عظيم؛ ألا وهو: ردُّ الأمر كلِّه لله، مِن قبلُ ومِن بعدُ؛ مما يدعو كلَّ مؤمن إلى صدقِ التوكل عليه، والالتجاء إليه، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لها في الفجر.
ترتيبها المصحفي
30نوعها
مكيةألفاظها
817ترتيب نزولها
84العد المدني الأول
60العد المدني الأخير
59العد البصري
60العد الكوفي
60العد الشامي
60* سورةُ (الرُّومِ):
سُمِّيت سورةُ (الرُّومِ) بذلك؛ لأنه ورَد فيها ذِكْرُ (الرُّومِ)، ولم يَرِدْ في غيرها من القرآن.
* أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورةَ (الرُّومِ) في الفجرِ:
عن أبي مالكٍ الأغَرِّ المُزَنيِّ رضي الله عنه، قال: «صلَّيْتُ مع النبيِّ ﷺ، فقرَأَ سورةَ الرُّومِ في الصُّبْحِ». أخرجه الطبراني (٨٨٤).
اشتمَلتْ سورة (الرُّومِ) على عِدَّةِ موضوعات؛ وهي:
1. الإخبار عن غيب المستقبَل (١-٧).
2. التفكير في مخلوقات الله يدل على وجوده، وهو الذي يُعِيد خَلْقَ الإنسان يوم القيامة (٨-١٦).
3. تنزيه الله وَحْده، وأدلة وجوده وربوبيَّتِه سبحانه وتعالى (١٧-٢٧).
4. إثبات الوَحْدانية، وبطلان الشِّرك، والأمر باتباع الإسلام (٢٨-٣٢).
5. لجوء الناس إلى الله عند الشدائد، وإعراضهم عند زوالها (٣٣-٣٧).
6. الحث على الإنفاق لذوي الأرحام، والتحذير من المال الحرام (٣٨-٤٠).
7. جزاء المفسدين والمؤمنين (٤١-٤٥).
8. الرِّياح والأمطار دالة على قدرة الله تعالى، وتشبيهُ الكفار بالموتى (٤٦-٥٣).
9. أطوار حياة الإنسان، قَسَمُ المجرمين في الآخرة (٥٤-٥٧).
10. الأمثال للعِبْرة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الدعوة (٥٨-٦٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /4).
إثباتُ الأمرِ كلِّه لله عزَّ وجلَّ؛ فهو صاحب الحقِّ، المتصفُ بالرُّبوبية والألوهية وكلِّ صفات الكمال، والقادرُ على كل شيء، فيأتي البعثُ، ونصرُ أوليائه، وخِذْلان أعدائه؛ وهذا هو المقصود بالذات، واسمُ السورة واضح فيه؛ بما كان من السبب في نصرِ (الرُّوم) من الوعد الصادق، والسرِّ المكتوم، ومن أعظم ما اشتملت عليه: التصريحُ بأن الإسلامَ دِينٌ فطَر اللهُ الناسَ عليه، وأن مَن ابتغى غيرَه دِينًا فقد حاول تبديلَ ما خلَق الله، وأنَّى له ذلك؟!
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /349)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (21 /41).