تفسير سورة التحريم

تفسير السمعاني

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني.
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة التحريم وهي مدنية

قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك وَالله غَفُور رَحِيم﴾ فِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا نزلت فِي تَحْرِيم رَسُول الله على نَفسه مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَسبب ذَلِك: أَن النَّبِي خلا بهَا فِي بَيت حَفْصَة، وَكَانَت حَفْصَة قد خرجت لزيارة أَبِيهَا، فَلَمَّا رجعت وَعرفت ذَلِك فوقفت على الْبَاب، وَخرج النَّبِي وَرَأى الكآبة فِي وَجههَا. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا راجعته فِي ذَلِك بعض الْمُرَاجَعَة وَقَالَت هَذَا من حقارتي عنْدك وَصغر شأني وَلَو كَانَت فِي بَيت غَيْرِي لم تفعل ذَلِك، فَحرم مَارِيَة على نَفسه لطلب رِضَاهَا وَقَالَ لَهَا: " لَا تُخْبِرِي بذلك عَائِشَة ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: " أَن النَّبِي كَانَ يشرب عسلا فِي بَيت زَيْنَب بنت جحش وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت سَوْدَة، وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت أم سَلمَة فَتَوَاطَأت عَائِشَة وَحَفْصَة على أَن النَّبِي إِذا دخل على وَاحِدَة مِنْهُمَا أَيَّتهمَا كَانَت قَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريح مَغَافِير " وَقد روى أَن صَفِيَّة كَانَت مَعَهُمَا فِي هَذِه المواطأة، فَدخل النَّبِي على عَائِشَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على حَفْصَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على صَفِيَّة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، فَكَانَ النَّبِي يكره أَن يُوجد مِنْهُ ريح لأجل الْمَلَائِكَة فَقَالَ: شربت عسلا عِنْد زَيْنَب. فَقُلْنَ لَهُ: جرست نَخْلَة العرقط والعرقط شَجَرَة يُوجد مِنْهَا ريح
470
﴿قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم﴾ مَكْرُوه فَحرم الْعَسَل على نَفسه، وَقَالَ: لَا أَعُود إِلَى شربه أبدا ". حكى هَذَا القَوْل عبيد بن عُمَيْر عَن عَائِشَة. وَالْأول قَول عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَامة الْمُفَسّرين.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَن الْآيَة وَردت فِي الواهبة نَفسهَا للنَّبِي، وَهُوَ قَول شَاذ، وَمعنى الْآيَة: هُوَ المعاتبة مَعَ النَّبِي فِي تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ لطلب رضَا أَزوَاجه.
وَقَوله: ﴿وَالله غَفُور رَحِيم﴾ قد بَينا.
471
قَوْله تَعَالَى: ﴿قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم﴾ أَي: كَفَّارَة أَيْمَانكُم، وَالْفَرْض هَا هُنَا بِمَعْنى الْبَيَان وَالتَّسْمِيَة وَيُقَال: بِمَعْنى التَّقْدِير؛ لِأَن الْكَفَّارَات مقدرَة مَعْدُودَة، فَإِن قيل: أَيْن الْيَمين فِي الْآيَة، وَالله تَعَالَى قَالَ: ﴿قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم﴾ ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّبِي كَانَ حرم وَحلف فَعَاتَبَهُ على التَّحْرِيم، وَأمره بالتفكير فِي الْيَمين، وَهَذَا قَول مَنْقُول عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم مَسْرُوق وَالشعْبِيّ وَغَيرهمَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه كَانَ حرم وَلم يحلف إِلَّا أَن تَحْرِيم الْحَلَال يُوجب الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَحْرِيم الْحَلَال، فَذهب ابْن مَسْعُود أَنه إِذا حرم حَلَالا أَي حَلَال كَانَ، فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول جمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ والكوفيين. وَأما مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن تَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء يُوجب الْكَفَّارَة، وَفِي غير النِّسَاء لَا يُوجب شَيْئا. وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن تَحْرِيم الْحَلَال لَيْسَ بِشَيْء، قَالَ مَسْرُوق: لَا أُبَالِي أَحرمت امْرَأَتي أَو قَصْعَة من ثريد يَعْنِي: أَنه لَيْسَ بِشَيْء. وَعَن بَعضهم: أَنه إِيلَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه ظِهَار. وَعَن بَعضهم: أَنه يلْزمه الطَّلَاق الثَّلَاث بِتَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه على نِيَّته. وتحلة الْيَمين كَفَّارَة الْيَمين، وسماها تَحِلَّة؛ لِأَنَّهُ يتَحَلَّل بهَا عَن الْيَمين أَي: يخرج. وَعَن بَعضهم: أَن تَحِلَّة الْيَمين
471
﴿وَالله مولاكم وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم (٢) وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا فَلَمَّا نبأت بِهِ وأظهره الله عَلَيْهِ عرف بعضه﴾ هُوَ الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَنَّهُ يخرج بِهِ عَن الْيَمين. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَبَيَان الْكَفَّارَة فِي سُورَة الْمَائِدَة فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان﴾ الْآيَة، فروى " أَن النَّبِي أعتق رَقَبَة ".
وَقَوله: ﴿وَالله مولاكم﴾ أَي: ولي أُمُوركُم، يهديكم إِلَى الأرشد والأقوم وَالْأولَى.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم﴾ أَي: الْعَالم بِأَمْر خلقه، الْحَكِيم بِمَا يدبره لَهُم.
472
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا﴾ هِيَ حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا وَالَّذِي أسره إِلَيْهَا هُوَ تَحْرِيمه مَارِيَة. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: أسر إِلَيْهَا هَذَا، وَأسر إِلَيْهَا أَن الْخلَافَة بعده لأبي بكر، ثمَّ لأَبِيهَا بعده، وَهَذَا مَذْكُور فِي كثير من التفاسير عَن مَيْمُون بن مهْرَان وَغَيره.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا نبأت بِهِ﴾ روى أَن النَّبِي قَالَ لحفصة: " لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا " وَكَانَت لَا تكْتم شَيْئا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَذَهَبت وأخبرت عَائِشَة بذلك؛ فَنزل جِبْرِيل وَأخْبرهُ بِمَا كَانَ بَينهمَا، وَذَلِكَ قَوْله: ﴿وأظهره الله عَلَيْهِ﴾.
وَقَوله: ﴿عرف بعضه﴾ أَي: عرفهَا بعض مَا كَانَ بَينهمَا، وَأعْرض عَن الْبَعْض تكرما وصفحا، والتغافل عَن كثير من الْأُمُور من شِيمَة الْعُقَلَاء وَأهل الْكَرم. وَيُقَال: الْعَاقِل هم المتغافل. وَالَّذِي أظهره لَهَا هُوَ إخبارها بِتَحْرِيم مَارِيَة، وَالَّذِي أعرض عَنهُ هُوَ حَدِيث أبي بكر وَعمر كَرَامَة أَن يفشو ذَلِك بَين النَّاس. وَقَرَأَ الْكسَائي: " عرف بعضه " بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْفراء: أَي: جازى عَلَيْهِ، ومجازاته إِيَّاهَا أَنه طَلقهَا، ثمَّ إِنَّه نزل جِبْرِيل وَأمره بمراجعتها، وَقَالَ: إِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة. وَقَالَ الْفراء: وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: لأعرفن مَا عملت أَي: لأجازينك عَلَيْهِ. وَهُوَ أَيْضا مثل قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَيْهِ
472
﴿وَأعْرض عَن بعض فَلَمَّا نبأها بِهِ قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير (٣) إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا﴾ لتنبئنهم بأمرهم) أَي: لتجازينهم.
وَقَوله: ﴿وَأعْرض عَن بعض﴾ أَي: لم يجاز عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا نبأها بِهِ﴾ أَي: أخْبرهَا.
وَقَوله: ﴿قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا﴾ أَي: من أخْبرك بِهَذَا.
وَقَوله: ﴿قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير﴾ أَي: الله، فَإِنَّهُ الْعَلِيم بالأمور، الْخَبِير بِمَا فِي الصُّدُور.
473
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى الله﴾ هَذَا خطاب لعَائِشَة وَحَفْصَة، وَمَعْنَاهُ: إِن تَتُوبَا فقد فعلتما مَا عَلَيْكُمَا، التَّوْبَة فِي ذَلِك، وَالَّذِي فعلنَا: المظاهرة على النَّبِي بالمواطأة على مَا بَينا، وبالسرور بِمَا يكرههُ من تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ، وبشدة الْغيرَة عَلَيْهِ وأذاه بذلك.
وَقَوله: ﴿فقد صغت قُلُوبكُمَا﴾ أَي: مَالَتْ قُلُوبكُمَا عَن الصَّوَاب. وَقد روى " أَنه كَانَ يصغي الْإِنَاء للهرة " أَي: يمِيل.
وَقَوله: ﴿قُلُوبكُمَا﴾ أَي: قلباكما. قَالَ الْفراء: هُوَ مثل قَول الْعَرَب: ضربت ظهوركما، وهشمت رءوسكما أَي: رأسيكما وظهريكما. وَيُقَال: إِن أَكثر مَا فِي الْإِنْسَان من الْجَوَارِح اثْنَان اثْنَان، وَإِذا هِيَ تذكر باسم الْجمع، فَمَا كَانَ وَاحِدًا جرى ذَلِك المجرى، مثل: الرَّأْس وَالْقلب وَغير ذَلِك، ذكره النقاش.
473
﴿وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير (٤) عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن﴾
وَقَوله: ﴿وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ﴾ ثَبت أَن ابْن عَبَّاس سَأَلَ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا على النَّبِي أَي: توافقتا على فعل مَا يشْتَد عَلَيْهِ ويؤذيه غَيره عَلَيْهِ، فَقَالَ: هما حَفْصَة وَعَائِشَة.
وَقَوله: ﴿فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ﴾ أَي: ناصره وحافظه ﴿وَجِبْرِيل﴾ أَي: ينصره أَيْضا ويحفظه.
وَقَوله: ﴿وَصَالح الْمُؤمنِينَ﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ الْعَلَاء بن زِيَاد: هم الْأَنْبِيَاء، وَهُوَ قَول قَتَادَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ.
وَعَن قَتَادَة فِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ: هُوَ أَبُو بكر وَعمر، وهما أَبَوا الْمَرْأَتَيْنِ. قَالَ سعيد بن أبي عرُوبَة وَهُوَ الحاكي ذَلِك عَن قَتَادَة: ذكرت ذَلِك لسَعِيد بن جُبَير فَقَالَ: صدق قَتَادَة. وروى اللَّيْث عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هُوَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَعَن بَعضهم: هُوَ خِيَار الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير﴾ أَي: ظهراء وَأَعْوَان، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ أَي: رُفَقَاء. قَالَ الشَّاعِر
(إِن العواذل لَيْسَ لي بأمير... )
أَي: بأمراء. وَرُوِيَ أَن عمر عَاتب حَفْصَة وَقَالَ: لَو أَمرنِي رَسُول الله أَن أضْرب رقبتك لضَرَبْت.
474
قَوْله تَعَالَى: ﴿عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن﴾ فَإِن قيل: كَيفَ خيرا مِنْكُن وَلم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت أحد من النِّسَاء خيرا مِنْهُنَّ؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: إِن طَلَّقَكُن بإلجائكن إِيَّاه إِلَى الطَّلَاق، وَشدَّة آذاكن لَهُ، وَترك التَّوْبَة فيبدله خير مِنْكُن أَي: أطوع لَهُ مِنْكُن، وَيُقَال: أحب لَهُ مِنْكُن.
474
﴿مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (٥) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا﴾
وَقَوله: ﴿مسلمات﴾ أَي: خاضعات منقادات.
وَقَوله: ﴿مؤمنات﴾ أَي: مصدقات.
وَقَوله: ﴿قانتات﴾ أَي: مطيعات.
وَقَوله: ﴿تائبات﴾ أَي: تائبات من كل الذُّنُوب، وَمن كل مَا يُؤْذِي النَّبِي.
وَقَوله: ﴿عابدات﴾ أَي: متذللات أَو فاعلات للطاعة كَمَا أمرهن الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿سائحات﴾ أَي: صائمات، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: سمي الصَّائِم سائحا؛ لِأَن السائح يسيح بِغَيْر زَاد، فَإِن وجد شَيْئا أكل على جوع شَدِيد. وَيُقَال: سائحات أَي: مهاجرات.
وَقَوله: ﴿ثيبات وأبكارا﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَيُقَال: الثّيّب مثل آسِيَة، والأبكار مثل: مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام.
475
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا﴾ أَي: بفعلكم طَاعَة الله، وأمركم إياهن بِطَاعَة الله. وَيُقَال: أدبوهن وعلموهن ودلوهن على الْخَيْر. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: " علق السَّوْط حَيْثُ يرَاهُ أهلك " يَعْنِي: بالتأديب. وَعَن عَمْرو بن قيس الْملَائي قَالَ: " إِن الْمَرْأَة لتخاصم زَوجهَا يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله فَتَقول: إِنَّه كَانَ لَا يؤدبني، وَلَا يعلمني شَيْئا، كَانَ يأتيني بِخبْز السُّوق. وَقيل: قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا أى: قوا أَنفسكُم نَارا وقوا أهليكم نَارا بِمَا ذكرنَا، وَهُوَ تَقْدِير الْآيَة.
475
﴿وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون (٦) يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٧) ﴾
وَقَوله: ﴿وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة﴾ قد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَهُوَ حِجَارَة الكبريت.
وَقَوله: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد﴾ أَي: غِلَاظ الْقُلُوب، شَدَّاد الْأَيْدِي. وَفِي التَّفْسِير: أَن وَاحِدًا مِنْهُم يلقِي سبعين ألفا بدفعة وَاحِدَة فِي النَّار. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى لم يخلق فِي قُلُوب الزَّبَانِيَة شَيْئا من الرَّحْمَة ". وَعَن بَعضهم: أَنه يَأْخُذ العَبْد الْكَافِر بعنف شَدِيد، فَيَقُول ذَلِك العَبْد: أما ترحمني؟ ! فَيَقُول: كَيفَ أرحمك، وَلم يَرْحَمك أرْحم الرَّاحِمِينَ.
وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن الله تَعَالَى يغْضب على الْوَاحِد من عبيده، فَيَقُول للْمَلَائكَة: خذوه فيبتدره مائَة ألف ملك، كلهم يغضبون بغضب الله تَعَالَى، فيجرونه إِلَى النَّار، وَالنَّار أَشد غَضبا عَلَيْهِ مِنْهُم بسبعين ضعفا.
وَقَوله: ﴿لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
476
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم﴾ يَعْنِي: يُقَال لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: لَا تعتذروا، أَي: لَا عذر لكم فتعتذروا.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ أَي: بعملكم فِي الدُّنْيَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ قَالَ (الزُّهْرِيّ) : كل مَوضِع فِي الْقُرْآن ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ افعلوا كَذَا فالنبي عَلَيْهِ السَّلَام فيهم. وَعَن خَيْثَمَة قَالَ: كل مَا فِي الْقُرْآن ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فَهُوَ فِي التَّوْرَاة يَا أَيهَا الْمَسَاكِين. وَقد ذكرنَا عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت الله يَقُول: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فارعها سَمعك، فَإِنَّهُ شَيْء تُؤمر بِهِ، أَو شَيْء تنْهى عَنهُ.
476
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم وبأيمانهم يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إِنَّك على كل﴾
وَقَوله: ﴿تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا﴾ قَالَ عمر وَابْن مَسْعُود: هُوَ أَن يَتُوب من الذَّنب ثمَّ لَا يعود إِلَيْهِ أبدا، وَيُقَال: نصُوحًا أَي: صَادِقَة، وَيُقَال: خَالِصَة، وَقيل: محكمَة وَثِيقَة. وَهُوَ مَأْخُوذ من النصح وَهُوَ الْخياطَة، كَأَن التَّوْبَة ترقع خرق الذَّنب فيلتئم، كالخياط يخيط بالشَّيْء فيلتئم. وَقُرِئَ: " نصُوحًا " بِضَم النُّون أَي: ذَات نصح.
وَقَوله: ﴿عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ﴾ قد بَينا أَن عَسى من الله وَاجِبَة.
وَقَوله: ﴿ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار﴾ أَي: بساتين.
وَقَوله: ﴿يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي﴾ أَي: لَا يهينه وَلَا يَفْضَحهُ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى كَرَامَة فِي الْآخِرَة؛ يَعْنِي: يُكرمهُ ويشرفه فِي ذَلِك الْيَوْم، وَلَا يهينه، وَلَا يذله.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين آمنُوا مَعَه﴾ أَي: كَذَلِك يَفْعَله بالذين آمنُوا مَعَه.
وَقَوله: ﴿نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم﴾ هُوَ نور الْإِيمَان يكون قدامهم على الصِّرَاط يَمْشُونَ فِي ضوئه. وَفِي التَّفْسِير: أَن لأَحَدهم مثل الْجَبَل، وَلآخر على قدر ظفره ينطفئ مرّة ويتقد أُخْرَى.
وَقَوله: ﴿وبأيمانهم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وبأيمانهم كتبهمْ، وَالْآخر: وبأيمانهم نورهم كالمصابيح.
وَقَوله: ﴿يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا﴾ وَفِي [التَّفْسِير] : أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك حِين يخمد وينطفئ نور الْمُنَافِقين، فَيَقُولُونَ ذَلِك إشفاقا على نورهم.
وَقَوله: ﴿واغفر لنا إِنَّك على كل شَيْء قدير﴾ أَي: قَادر.
477
﴿شَيْء قدير (٨) يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (٩) ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امرأت نوح وامرأت لوط كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا﴾
478
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار﴾ أَي: بِالسَّيْفِ.
وَقَوله: ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ أَي: بِاللِّسَانِ، وَيُقَال: بالغلظة عَلَيْهِم. قَالَ ابْن مَسْعُود: أَن يلقاهم بِوَجْه مكفهر. وَيُقَال: بِإِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم، ذكره قوم من التَّابِعين.
وَقَوله: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير﴾ أَي: المنقلب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط﴾ فِي بعض التفاسير: أَن اسْم (إحديهما) كَانَت والهة، وَالْأُخْرَى كَانَت والغة.
وَقَوله: ﴿كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين﴾ أَي: نوح وَلُوط عَلَيْهِمَا السَّلَام.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ اخْتلف القَوْل فِي هَذَا؛ فأحد الْأَقْوَال: أَنه الْخِيَانَة بالْكفْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْخِيَانَة بالنفاق، كَانَتَا تظهران الْإِيمَان وتسران الْكفْر.
وَالْقَوْل الثَّالِث: بالنميمة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُنُون لنوح، وَالدّلَالَة على الأضياف للوط، فَكَانَت امْرَأَة نوح تَقول لمن يقْصد نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، ليسمع كَلَامه: إِنَّه مَجْنُون، وَامْرَأَة لوط كَانَت تدل قَومهَا على أضياف لوط لقصد الْفَاحِشَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت بِالنَّهَارِ ترسل، وبالليل تدخن وتوقد نَارا ليعلموا. قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا بَغت امْرَأَة نَبِي قطّ أَي: مَا زنت.
وَقَوله: ﴿فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا﴾ أَي: لم (يدْفَعَا) نوح وَلُوط عَنْهُمَا
478
﴿وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين (١٠) وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امرأت فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين (١١) وَمَرْيَم ابنت عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا﴾ أَي: عَن امرأتيهما. وَالْمرَاد تحذير عَائِشَة وَحَفْصَة، يَعْنِي: أنكما إِن عصيتما رَبكُمَا لم يدْفع رَسُول الله عنكما شَيْئا، كَمَا لم يدْفع نوح وَلُوط عَن امرأتيهما.
وَقَوله: ﴿وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين﴾ أَي: قيل للمرأتين.
479
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن﴾ وَهِي آسِيَة بنت مُزَاحم، وَكَانَت آمَنت بِاللَّه وبموسى عَلَيْهِ السَّلَام سرا ثمَّ أظهرت، فعذبها فِرْعَوْن وعاقبها، وَفِي الْقِصَّة: أَنه وتدها بأَرْبعَة أوتاد من حَدِيد، وَفِي الْقِصَّة: أَن أول من آمَنت امْرَأَة خَازِن فِرْعَوْن، وَيُقَال: ماشطة بنت فِرْعَوْن، فعذبها فِرْعَوْن فَصَبَرت على ذَلِك، فأظهرت حِينَئِذٍ آسِيَة إيمَانهَا.
وَقَوله: ﴿إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة﴾ أَي: دَارا.
وَقَوله: ﴿ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: من شركه، وَالْآخر: من المضاجعة مَعَه. وَيُقَال: من الْجِمَاع.
وَقَوله: ﴿ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين﴾ أَي: من قوم فِرْعَوْن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَرْيَم ابْنة عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا﴾ أشهر الْقَوْلَيْنِ أَنه الْفرج بِعَيْنِه. وَالْعرب تَقول: أحصنت فُلَانَة فرجهَا إِذا عفت عَن الزِّنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْفرج هَاهُنَا هُوَ الجيب. قَالَ الْفراء: كل خرق فِي درع أَو غَيره فَهُوَ فرج، وَيُقَال: فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " فنفخنا فِي جيبها من رُوحنَا "
وَقَوله: ﴿فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا﴾ فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نفخ فِي جيب درعها فَحملت بِعِيسَى، وَرُوِيَ أَنه دخل عَلَيْهَا فِي صُورَة شَاب أَمْرَد جعد قطط، وَهِي فِي مدرعة صوف. قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: فِي مدرعتها. وعَلى القَوْل الأول إِذا
479
﴿وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتبه وَكَانَت من القانتين (١٢) ﴾ قُلْنَا إِنَّه الْفرج بِعَيْنِه يصير النفخ فِي جيب درعها كالنفخ فِي فرجهَا بِعَيْنِه.
وَقَوله: ﴿وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا﴾ وَقُرِئَ: " بِكَلِمَة رَبهَا " فَمَعْنَى الْكَلِمَات مَا أخبر الله تَعَالَى من الْبشَارَة بِعِيسَى وَصفته وكرامته على الله وَغير ذَلِك. وَيُقَال: بِكَلِمَات رَبهَا أَي: بآيَات رَبهَا. وَأما قَوْله: ﴿بِكَلِمَة رَبهَا﴾ هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: ﴿وَكتابه﴾ أَي: الْإِنْجِيل، وَقُرِئَ: " وَكتبه " أَي: التَّوْرَاة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: ﴿وَكَانَت من القانتين﴾ فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ ﴿من القانتين﴾ وَلم يقل: " من القانتات "؟ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب مَعْنَاهُ: كَانَت من قوم قَانِتِينَ. والقنوت هُوَ الطَّاعَة على مَا بَينا. وَيُقَال: قنوتها هَاهُنَا هُوَ صلَاتهَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَهُوَ أَيْضا فعل القانتين على هَذَا القَوْل، وَالله أعلم.
480

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك﴾
تَفْسِير سُورَة الْملك
وَهِي مَكِّيَّة
روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: " إِن سُورَة من الْقُرْآن ثَلَاثُونَ آيَة شفعت لصَاحِبهَا حَتَّى غفر لَهُ، وَهِي ﴿تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك﴾ ".
وروى أَبُو الزبير عَن جَابر أَن النَّبِي كَانَ لَا ينَام حَتَّى يقْرَأ: ﴿الم تَنْزِيل الْكتاب﴾، و ﴿تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك﴾ قَالَ طَاوس: يفضلان سَائِر السُّور بسبعين حَسَنَة.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا ضرب خباءه على قبر وَهُوَ لَا يحْسب أَنه قبر، فَسمع قَارِئًا: ﴿تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك﴾ حَتَّى ختم السُّورَة، فَأتى النَّبِي فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: " هِيَ المنجية، هِيَ الْمَانِعَة، تنجيه من عَذَاب الْقَبْر " ذكر هَذِه الْأَخْبَار أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِإِسْنَادِهِ.
وَفِي غَيره أَن الزُّهْرِيّ روى عَن حميد ابْن عبد الرَّحْمَن أَن النَّبِي قَالَ: " سُورَة الْملك تجَادل عَن صَاحبهَا يَوْم الْقِيَامَة ".
5
﴿وَهُوَ على كل شَيْء قدير (١) الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا﴾
وروى مرّة الْهَمدَانِي عَن عبد الله بن مَسْعُود: أَن رجلا أَتَى فِي قَبره من جوانبه، فَجلت سُورَة من الْقُرْآن تجَادل عَن صَاحبهَا حَتَّى الْجنَّة.
قَالَ مرّة: فَنَظَرت أَنا وخيثمة فَإِذا هِيَ سُورَة الْملك، وَالله أعلم.
6
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).