تفسير سورة التحريم

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ ؛ " وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَسَّمَ الأَيَامَ بَيْنَ نِسَائِهِ وَكَانَ لَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَكَانَ لِكُلِّ امْرَأةٍ مِنْهُنَّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ إنَّ حَفْصَةَ زَارَاتْ أبَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ ذلِكَ الْيَوْمُ لِعَائِشَةَ، فَدَخَلَ النَّبيُّ ﷺ ذلِكَ الْيَوْمَ بَيْتَ حَفْصَةَ فَوَجَدَ فِيْهِ جَاريَتَهُ مَاريَّةُ فَأَخْلاَ بهَا، فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ إلَى مَنْزلِهَا، وَقَفَتْ حَفْصَةُ عَلَى ذلِكَ الْبَاب فَلَمْ تَدْخُلْ حَتَّى خَرَجَتْ مَاريَّةُ، ثُمَّ دَخَلَتْ فَقَالَتْ لِلنَّبيِّ ﷺ : إنِّي قَدْ رَأيْتُ مَنْ كَانَ مَعَكَ فِي الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَأى النَّبيُّ ﷺ الْغَيْرَةَ وَالْكَآبَةَ فِي وَجْهِهَا قَالَ :" اكْتُمِي عَلَيَّ، وَلاَ تُخْبرِي عَائِشَةَ بذلِكَ " ثُمَّ قَالَ :" هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ " يَعْنِي مَاريَّةَ، فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْنِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَ النَّبيَّ بذلِكَ، فَدَعَا النَّبيُّ ﷺ حَفْصَةَ وَقَالَ لَهَا :" مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ ؟ " قَالَتْ : وَمَنِ الَّذِي أخْبَرَكَ ؟ قَالَ :" أخْبَرَنِي الْعَلِيمُ الْخَبيرُ ".
فَغَضِبَ النَّبيُّ ﷺ عَلَى حَفْصَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَمَكَثَ سَبْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً يَنْتَظِرُ مَا يَنْزِلُ فِيْهنَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذهِ الآياتِ. ومعناها : يا أيُّها النبيُّ لِمَ تحرِّمُ ما أحَلَّ اللهُ لكَ، ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾ ؛ طالباً رضَى أزواجِكَ، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ ؛ لِمَا كان منكَ من التحريمِ، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بكَ حيث رخَّصَ لك الخروجَ منه بالكفَّارة، فأعتقَ رسولُ الله ﷺ رقبةً وعادَ إلى ماريَّة ".
ورُوي :" أنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اسْتَأْذنَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي زيَارَةِ أبيهَا فِي يَوْمِهَا، فَأَذِنَ لَهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهَا، فَمَضَتْ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ ﷺ إلَى جَارِيَتِهِ مَاريَّةَ الْقِبْطِيَّةَ فَأَدْخَلَهَا فِي حِضْنِهِ، وَكَانَ ذلِكَ فِي يَوْمِ حَفْصَةَ، فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتْ بَابَ بَيْتِهَا مُغْلَقاً، فَجَلَسَتْ عَلَى الْبَاب حَتَّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقاً وحَفْصَةُ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا :" مَا يُبْكِيكِ ؟ " قَالَتْ : إنَّمَا أذِنْتَ لِي بالزِّيَارَةِ مِنْ أجْلِ هَذا ؛ أدْخَلْتَ أمَتَكَ بَيْتِي وَوََقَعْتَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي ؟ مَا رَأيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقّاً، مَا قَطُّ صَنَعْتَ هَذا بامْرَأةٍ مِنْ نِسَائِكَ ؟ فَقَالَ ﷺ :" هِيَ جَارِيَتِي فَلاَ أحَلَّهَا اللهُ، اسْكُتِي هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ، ألْتَمِسُ بذلِكَ رضَاكِ، وَلاَ تُخْبرِي بذلِكَ امْرَأةً مِنْهُنَّ، وَهَذِهِ أمَانَةٌ عِنْدَكِ ".
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَامَتْ حَفْصَةُ عَلَى الْجِدَار الَّذِي كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهَا : ألاَ أبَشِّرُكِ يَا عَائِشَةُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ حَرَّمَ جَاريَتَهُ مَاريَّةَ، وَقَدْ أرَاحَنَا اللهُ مِنْهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ مُتَصَافِيَتَيْنِ مُتَظَاهِرَِتَيْنِ عَلَى سَائِرِ أزْوَاجِ النَّبيِّ ﷺ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ، فَغَضِبَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَالَ :" مَا حَمَلَكِ عَلَى ذلِكَ "، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ أي وجبَت لكم كفَّارةُ أيمانِكم، ﴿ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ ﴾ ؛ أي مُتولٍّ أُمورَكم وهو أولى أن يُؤثِرُوا مَرضَاتَهُ، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ ﴾ ؛ بما فيه صلاحُ خَلقهِ، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ ؛ في تدبيرِ أمرهِ. وإنَّما سُميت الكفَّارَةُ تَحِلَّةً ؛ لأنَّها تجبُ عند انحلالِ اليمين، قال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : قَدْ بَيَّنَ اللهُ لَكُمْ كَفَّارَةَ أيْمَانِكُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَأمَرَ نَبيَّهُ ﷺ أنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَيُرَاجِعَ جَاريَتَهُ مَاريَّةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً ﴾ ؛ يعني إسرارَهُ إلى حفصةَ، فلمَّا أخبرت عائشةَ به أطلَعَ اللهُ نَبيَّهُ عليه السلام على ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ﴾ ؛ " وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ كَانَ عِنْدَمَا رَأى الْكَآبَةَ فِي وَجْهِِهَا وَالْغَيْرَةَ أسَرَّ إلَيْهَا شَيْئَيْنِ : تََحْرِيمُ الْجَاريَةِ، وَقَالَ :" أُخْبرُكِ يَا حَفْصَةُ أنَّ أبَاكِ وَأبَا بَكْرٍ سَيَمْلِكَانِ أُمَّتِي بَعْدِي " فلمَّا أظهرَهُ اللهُ عليه أخبرَ حفصةَ بما قالت لعائشةَ من تحريمِ الجاريةِ، وأعرضَ عن ذكرِ خلافة أبي بكرٍ وعمرَ ".
وقرأ الحسنُ البصري والكسائي وقتادة (عَرَفَ بَعْضَهُ) بالتخفيفِ أي غَضِبَ على حفصةَ مِن ذلك وجَارَاها فطلَّقَها، من قولِ القائل لِمَن أساءَ إليه : لأَعْرِفَنَّ لكَ ما فعلتَ ؛ أي لأُجازينَّكَ عليه، فجَازَاها رسولُ اللهَ ﷺ بأنْ طلَّقَها، فلما عَلِمَ عمرَُ رضي الله عنه بذلك قالَ : لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّاب خَيْرٌ لَمَا طَلَّقَكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَنَزَلَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبيِّ ﷺ يَقُولُ لَهُ : رَاجِعْهَا فَإنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ إحْدَى نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ، فَرَاجَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال مقاتلُ :(لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَفْصَةَ، وَإنَّمَا هَمَّ بهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ لَهُ : لاَ تُطَلِّقْهَا فَإنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَهِيَ مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَةِ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا)، وكان سفيانُ الثوريُّ يقول :(مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطٌّ، وَمَا زَالَ التَّغَافُلُ مَنْ فِعْلِ الْكِرَامِ، عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا فَعَلَتْ، وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ ﴾ ؛ أي لَمَّا أخبرَ حفصةَ بما أظهرَهُ اللهُ عليه، ﴿ قَالَتْ ﴾ ؛ لَهُ :﴿ مَنْ أَنبَأَكَ هَـاذَا ﴾ ؛ أي من أخبَركَ أنِّي أفشيتُ سِرَّكَ ؟ ﴿ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ معناهُ : إنْ تَتُوبَا إلى اللهِ من إظهار الغَيرَةِ وإيذاءِ النبيِّ ﷺ والتعاوُنِ عليه، ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ ؛ أي مَالَتْ إلى الإثمِ وعَدَلَتْ عن الحقِّ، وهو أنَّهما أحبَّتا ما كَرِهَ رسولُ الله ﷺ، ﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ﴾ أي تعَاوَنا عليه بالإيذاءِ وإظهار الغَيْرَةِ عليه من الجاريةِ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ ﴾ ؛ يتولَّى حِفْظَهُ ونَصرَهُ ودفعَ الأذيَّةِ عنهُ، ﴿ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أبُو بكرٍ وعُمرُ يتولَّيانهِ وينصُرانهِ على مَن عاداهُ، ﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ ؛ أعوانهُ وأنصارهُ.
وعن ابنِ عبِّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال :(حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخطَّاب رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبيُّ ﷺ نِسَاءَهُ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأنَا أرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَقَّ عَلَيْكَ مِنْ أمْرِ النِّسَاءِ ؟ فَإنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإنَّ اللهَ مَعَكَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَأنَا وَأبُو بَكْرٍ وَالْمَؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأحْمَدُ اللهَ بكَلاَمٍ، إلاَّ رَجَوْتُ أن يَكُونَ اللهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أقُولُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ ).
وعن ابنِ عبَّاس قالَ :(سَأَلْتُ عُمَرَ رضي الله عنه فَقُلْتُ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَا عَلَى النَّبيِّ ﷺ ؟ قَالَ : عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ).
ثُمَّ أخَذ عُمَرُ رضي الله عنه يَسُوقُ الْحَدِيثَ قَالَ :(كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قُوْماً نَغْلِبُ نِسَاءََنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْماً تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ : فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأتِي فَإذا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فأَنْكَرْتُ أنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ : وَمَا يُنْكَرُ أنْ أُرَاجِعَكَ ؟ فَوَاللهِ إنَّ أزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. قَالَ : فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ : أتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، قُلْتُ : وَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللِّيْلِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ، قُلْتُ : أفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أنْ يَغْضَبَ اللهُ لِغَضَب رَسُولِهِ فإذَا هِيَ هَلَكَتْ؟! لاَ تُرَاجِعِي رَسُولَ اللهِ ﷺ وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّكِ إنْ كَانَتْ جَارَتَكِ هِيَ أوْسَمُ وَأحَبُّ إلَى رَسُولِ اللهِ مِنْكِ) يَعْنِي عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
قرأ أهلُ الكوفة (تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) بالتخفيفِ، وقرأ الباقون بالتشديدِ.
وقولهُ تعالى :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ ﴾ ؛ هذا إيعادٌ وتخويفٌ لِحَفصةَ وعائشةَ وسائرِ أزواجِ النبيِّ ﷺ، وعدَ النبيَّ ﷺ بخيرٍ منهُنَّ إنْ أحوجنَهُ إلى مفارقتِهن، و ﴿ عَسَى ﴾ من اللهِ واجبَةٌ، ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ﴾ ؛ نعتٌ للأزواجِ اللاتِي كان يَبدِّلهُ لو طلَّقَ نساءَهُ، ومعنى ﴿ مُسْلِمَاتٍ ﴾ أي خاضعاتٍ للهِ بالطاعة، مسلماتٍ لأمرِ الله وقضائه، أي مصدِّقاتٍ مؤمناتٍ بتوحيدِ الله الأَلسُنِ والقلوب، ﴿ قَانِتَاتٍ ﴾ ؛ أي طائعاتٍ لله والنبيِّ ﷺ، ﴿ تَائِبَاتٍ ﴾ ؛ أي راجعاتٍ إلى ما يحبُّه اللهُ، ﴿ عَابِدَاتٍ ﴾ ؛ للهِ متَذلِّلاتٍ لله ولرسولهِ، ﴿ سَائِحَاتٍ ﴾ ؛ أي صائماتٍ، ﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾ ؛ ظاهرُ المرادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ ؛ أي يا أيُّها الذين آمَنُوا ادفَعُوا عن أنفُسِكم وأهلِيكُم ناراً، ﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾، حطَبُها الناسُ والحجارةُ، يعني حجارةَ الكبريتِ، والمعنى : اعمَلُوا بطاعةِ الله وانتَهُوا عن معصيتهِ، وعلِّموا أولادَكم وأهليكم الاجتنابَ عما تجبُ لهم به النارُ. وعن عمرَ رضي الله عنه :" أنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ نَقِي أنْفُسَنَا، فَكَيْفَ لَنَا بأَهْلِنَا ؟ قَالَ :" تَنْهَوْهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللهُ عَنْهُ، وَتَأْمُرُوهُمْ بمَا أمَرَكُمُ اللهُ بهِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ﴾ ؛ أي على النار ملائكةٌ غِلاَظُ الأخلاقِ شِدَادٌ أقوياءُ الأخذِ والعقوبةِ، يدفعُ الواحدُ منهم في الدفعةِ الواحدة سبعين ألْفاً في جهنَّمَ، لم يخلُقِ الله فيهم شيئاً مِن الرحمةِ، ﴿ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ ﴾ ؛ من تعذيبٍ أهلِها، ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ؛ من ذلك، جعلَ اللهُ سُرورَهم في تعذيب المعذبين كما جعلَ سُرورَ المؤمنين في الجنَّة. وجاء في الخبرِ :" أنَّ الْمَلَكَ مِنْهُمْ يَكْسِرُ عِظَامَ الْمُعَذب، فيَقُولُ لَهُ : ألاَ تَرْحَمُنِي ؟ فَيَقُولُ لَهُ : كَيْفَ أرْحَمُكَ وَأرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لَمْ يَرْحَمْكَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ ﴾ ؛ أي لا تَعَتذِرُوا اليومَ فيما قدَّمتُم لأنفُسِكم، إنه لا تُقبَلُ منكم الأعذارُ، ﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ في الدُّنيا، ولا تُظلَمون بزيادةٍ على ما تستحقُّون من العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(التَّوْبَةُ النَّصُوحُ : هِيَ النَّدَمُ بالْقَلْب، وَالاسْتِغْفَارُ باللِّسَانِ، وَالإقْلاَعُ بالْبَدَنِ، وَالإضْمَارُ عَلَى أنْ لا يَعُودَ). " وعن معاذِ بن جبلٍ قالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ ؟ قَالَ :" أنْ يَتُوبَ التَّائِبُ ثُمَّ لاَ يَرْجِعُ فِي ذلِكَ، كَمَا لاَ يَعُودُ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ " ".
قَالَ ابنُ مسعودٍ :(التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أنْ تُكَفِّرَ كُلَّ سَيِّئَةٍ)، وقال أبو ذرٍّ :(النَّصُوحُ : الصَّادِقَةُ) أي يتُوبوا توبةً صادقةً، يقالُ : نَصحتُه أي صدَّقتُه. وَقِيْلَ : النَّصُوحُ المستقيمةُ الُمُتْقَنَةُ التي لا يلحقُها النقصُ والإبطالُ. وقال الفُضيل :(التَّوْبَةُ النَّصُوحُ : أنْ يَكُونَ الذنْبُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ)، وقال أبُو بكرٍ الورَّاقُ :(هُوَ أنْ تَضِيقَ الأَرْضُ عَلَيْكَ بَما رَحُبَتْ، وَتَضِيقَ عَلَيْكَ نَفْسُكَ كَتَوْبَةِ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). وقال الدقَّاقُ :(هِيَ رَدُّ الْمَظَالِمِ، وَاسْتِحْلاَلُ الْخُصُومِ، وَإدْمَانُ الطَّاعَاتِ).
وقال ذو النُّون :(عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةُ أشْيَاءٍ : قِلَّةُ الْكَلاَمِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ، وَقِلَّةُ الْمَنَامِ). وقال بعضُهم : هي أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح وقلبٌ من المعاصِي جموحٌ، فإذا كان كذلك فيه توبةٌ نصوحٌ.
وقال فتحُ الْمَوْصِليُّ :(عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةٌ : مُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ، وَمُكَابَدَةُ الْجُوعِ وَالظَّمَأ). وقال شقيقُ الْبَلْخِيُّ :(هِيَ أنْ يُكْثِرَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ الْمَلاَمَةَ، وَلاَ يُقْلِعُ مِنَ النَّدَامَةِ). وقال الجنيدُ :(هِيَ أنْ يَنْسَى مَا سِوَى اللهِ، وَلاَ يَذْكُرُ إلاَّ اللهَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ ؛ هذا وعدٌ من اللهِ لأنَّ ﴿ عَسَى ﴾ من الله واجبَةٌ، والصَّلواتُ الخمسُ كفَّاراتٌ لما بينهنَّ ما اجتُنِبَتِ الكبائرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ ﴾ ؛ أي يُكرِمُ اللهُ تعالى المؤمنين بهذه الكرامةِ في يومٍ لا يسوءُ اللهُ النبيَّ ولا يُخجِلُهُ وَلا يسوء ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ ؛ والمعنى : لا يُدخِلُهم اللهُ النارَ.
وقوله :﴿ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ ؛ ليدلهم في الجنَّة، ﴿ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾ ؛ يعني نورَ كتابهم الذي يُعطونَهُ بها، ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾ ؛ أي يقولون ذلك بعدَ ما ذهبَ نورُ المنافقِين، والمعنى : أتْمِمْ لنا نُورَنا على الصِّراطِ إلى أن ندخلَ الجنة، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَآ ﴾ ؛ ما سَلَفَ من ذُنوبنا، ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ من إتْمَامِ النور والمغفرة، فيجيبُ الله دعاءَهم ويفعلُ ذلك لَهم، فيكون الصِّراطُ على المؤمنين كما بين صنعاءَ والمدينة، يمشِي عليه بعضُهم مثلَ البرقِ، وبعضُهم مثلَ الريحِ، وبعضهم كعَدْو الفرسِ، وبعضهم يمشِي وبعضهم يزحفُ، ويكون على الكافرين كحدِّ السيف مذهبه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ ؛ أي جاهِدِ الكفارَ بالسَّيف، والمنافقين باللِّسان بالزَّجرِ والوعظِ حتى يُسلِمُوا، وسَمَّاهما جِهَاداً لاشتراكِها في بذلِ الجهد، ﴿ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي على الفَرِيقين بالفعلِ والقول، ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ وبيِّنْ أنَّ مصيرَهم في الآخرةِ إلى النار.
وقال الحسنُ :(كَانُوا أكْثَرَ مَنْ كَانَ يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ الْمُنَافِقُونَ، فَأَمَرَ اللهُ أنْ يُغْلِظَ عَلَيْهِمْ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ). وعن ابنِ مسعود قال :(إذا لَمْ تَقْدِرُوا أنْ تُنْكِرُوا عَلَى الْفَاجِرِ - فـ - بوُجُوهٍ مَكْفَهِرَّةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ ؛ أي فخَالفَتاهما في الدِّين، قال ابنُ عباس :(مَا بَغَتِ امْرَأةُ نَبيٍّ قًطُّ، فَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأةِ نُوحٍ، فَإنَّهَا قَالَتْ لِقَوْمِهِ : إنَّهُ مَجْنُونٌ فَلاَ تُصَدِّقُوهُ، وَأمَّا خِيَانَةُ امْرَأةِ لُوطٍ فَإنَّهَا كَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهُ عَلَى أضْيَافِهِ، كَانَ إذا نَزَلَ بلُوطٍ ضَيْفٌ باللَّيْلِ أوْقَدَتِ النَّارَ، وَإذا نَزَلَ بالنَّهَار أدْخَنَتْ لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أنَّهُ قَدْ نَزَلَ بهِ ضَيْفٌ). وقال الكلبيُّ :(أسَرَّتَا النِّفَاقَ، وَأظْهَرَتَا الإيْمَانَ) ولأنَّ الخيانةَ في الفراشِ لا يجوزُ أن تكون مُرادَةً في هذه الآيةِ ؛ لأنَّها عيبٌ يرجعُ إلى الزوجِ فينَفِرُ الناسُ عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ ؛ أي لم يَدفَعَا عنهما عذابَ اللهِ، أعلَمَ اللهُ تعالى أنَّ أحداً لا يُجزِي عن أحدٍ شيئاً، وأنَّ الإنسان لا ينجُو إلاّ بعملهِ، وقطعَ الله بهذه الآيةِ طمعَ مَن رَكِبَ المعصيةَ، ورجَا أن ينفعَهُ صلاحُ غيرهِ، وأخبرَ الله تعالى أن معصيةَ غيرهِ لا تضرُّه إذا كان مُطيعاً وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ﴾ ؛ وهي آسيَةُ بنتُ مزاحم، كانت قد آمَنت بموسَى عليه السلام، فلمَّا عَلِمَ فرعون بإسلامِها وتَّدَ لها أربعةَ أوتادٍ في يدَيها ورجلَيها، ومدَّها للعذاب وشدَّها على الأرضِ بالأوتادِ، وألقَى على صدرها صخرةً عظيمةً وألقاها في الشمسِ.
فكانت الملائكةُ تُظِلُّها بأجنحتِها وأبصَرتِ الجنَّة وهي كذلكَ فقالَتْ :﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ﴾، فاستجابَ اللهُ دعاءَها وألحقَها بالشُّهداء، ولم تجدْ ألَماً من عذاب فرعون لأنَّها قالت :﴿ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي الكافرين أهلِ دين فرعون. وليس في هذه الآيةِ أنَّ فرعون قتلَها، وقد اختُلِفَ في ذلك، والأقربُ أنه أجابَ اللهُ دعاءَها فنجَّاها من فرعون وقومهِ.
وفي قولهِ تعَالَى في الآيةِ الأُولى ﴿ وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ تخويفٌ لحفصةَ وعائشة، كأنه قالَ لعائشةَ وحفصة لا تَكُونا بمنْزِلة امرأةِ نوحٍ ولوط في المعصيةِ، وكُونا بمنْزِلة امرأةِ فرعون ومريمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ ؛ عطفَ مريمَ على امرأةِ فرعون، وإحصانُ الفَرْجِ إعفافُهُ وحِفظُهُ عن الحرامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ ؛ أي في جيب دِرعِها، وذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام مدَّ جيبَ درعِها بإصبعهِ، ثم نفخَ في جيبها فحمَلت، وبالكنايةِ عن غير مذكور.
وقولهُ تعالى :﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾ ؛ والشرائعِ التي شرَعَها اللهُ في كُتبه المنَزَّلة، وقرأ عيسى الجحدري والحسن (بكَلِمَةِ رَبهَا) على التوحيدِ يعنُونَ عيسَى عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ ؛ أي وصدَّقت بكُتب الله تعالى وهو التوراةُ والإنجيل والفرقانُ وصُحف ابراهيم وموسى وداودَ، وقرأ أبو عمرٍو ويعقوب (وَكُتُبهِ) بالجمعِ، وتفسيرهُ ما ذكرناه، وقرأ الباقون (وَكِتَابهِ) على الواحدِ، والمرادُ به الإنجيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ ؛ أي من الْمُطِيعِينَ للهِ، وقال عطاءُ :(مِنَ الْمُصَلِّينَ، كَانَتْ تُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ) تقديرهُ : وكانت من القَوْمِ القَانتِين، ولم يقُل منَ القانتاتِ ؛ لأنَّ متعبَّدَها كان في المسجدِ مع العُبَّادِ.
وعن رسول الله ﷺ أنه قال :" كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمَلْ مِنْ النِّسَاءِ إلاَّ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَآسْيَةُ أمْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " وقال ﷺ :" سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أهْلِ الْجَنَّةِ أرْبَعٌ : مَرْيَمُ وَآسْيَةُ وَخَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ ".
وعن معاذِ بن جبلٍ قال :" دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ تَجُودُ بنَفْسِهَا فَقَالَ :" أتَكْرَهِينَ مَا نَزَلَ بكِ يَا خَدِيجَةُ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي الْكَرْهِ خَيْراً كَثِيراً، فَإذا قَدِمْتِ عَلَى ضَرَّاتِكِ فَأَقْرِئيهِنَّ مِنِّي السَّلاَمَ " قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ هُنَّ ؟ قَالَ :" مَرْيَمُ بْنتُ عِمْرَانَ، وَآسْيَةُ بنْتُ مُزَاحِمٍ، وَكَلِيمَةُ بنْتُ عِمْرَانَ أُخْتِ مُوسَى "، فقَالَتْ : بالرَّفَاهِ وَالْبَنِينِ ".
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).