تفسير سورة التحريم

تفسير النسفي

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي.
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة التحريم مدنية وهي اثنتا عشرة آية

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١)
﴿يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ﴾ روى أن رسول الله ﷺ خلا بمارية في عائشة رضي الله عنها وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين وقيل خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال راجعها فانها صوامة وإنها لمن نسائك في الجنة وروى أنه
شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة وقالنا له إنا نشم منك ريح المغافير وكان يكره رسول الله ﷺ النقل فحرم العسل فمعناه تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين
503
أو من العسل ﴿تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك﴾ تفسير لتحرم أو حال أو استئناف وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله ﴿والله غَفُورٌ﴾ قد غفر لك ما زللت فيه ﴿رَّحِيمٌ﴾ قد رحمك فلم يؤاخذك به
504
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)
﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم﴾ قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة أو شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول إن شاء الله عقيبها حتى لا يحنث وتحريم الحلال يمين عندنا وعن مقاتل أن رسول الله ﷺ أعتق رقبة في تحريم مارية وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين ﴿والله مولاكم﴾ سيدكم ومتولي أموركم وقيل مولاكم أولى بكم من أنفسكم فكانت نصيحته أنفع لم من نصائحكم أنفسكم ﴿وَهُوَ العليم﴾ بما يصلحكم فيشرعه لكم ﴿الحكيم﴾ فيما أحل وحرم
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣)
﴿وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه﴾ يعني حفصة ﴿حَدِيثاً﴾ حديث مارية وإمامة الشيخين ﴿فَلَمَّا نبأت به﴾ أفشته إلى عائشة رضي
504
الله عنها ﴿وأظهره الله عليه﴾ واطلع النبي ﷺ على إفشائها لحديث على لسان جبريل عليها السلام ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾ أعلم ببعض الحديث ﴿وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ﴾ فلم يخبر به تكرماً قال على لسان جبريل عليه السلام ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾ أعلم ببعض الحديث ﴿وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ﴾ فلم يخبر به تكرماً قال سفيان ما زال التغافل من فعل الكرام عَرَّفَ بالتخفيف عليّ أي جازي عليه من قولك الشيء لأعرفن لك ذلك وقيل المعروف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية وروي أنه قال لما ألم أقل لكم اكتمي عليّ قالت والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها ﴿فلما نبأها به﴾ نبأ لنبي حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة ﴿قالت﴾ حفصة النبي ﷺ ﴿مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم﴾ بالسرائر ﴿الخبير﴾ بالضمائر
505
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
﴿إِن تَتُوبَا إِلَى الله﴾ خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ ي معاتبتهما وجواب الشرط محذوف والتقدير إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ودل على المحذوف ﴿فَقَدْ صَغَتْ﴾ مالت ﴿قُلُوبُكُمَا﴾ عن الواجب في مخالصة رسول الله ﷺ من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه ﴿وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ بالتخفيف كوفي وإن تعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه﴾ وليه وناصره وزيادة إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته ﴿وَجِبْرِيلُ﴾ أيضاً وليه ﴿وصالح الْمُؤْمِنِينَ﴾
ومن صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحا وقيل من برئ من النفاق وقيل الصحابة وقبل واحد أريد به الجمع كقولك لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد الجنس وقيل اصله صالحوا المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ ﴿والملائكة﴾ على تكاثر عددهم ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين ﴿ظَهِيرٍ﴾ فوج مظاهر له فما يبلغ بعد ذلك تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥)
﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ﴾ يُبْدِلَهُ مني وأبو عمرو فالتشديد للكثرة ﴿أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ﴾ فان قلت كيف تكون المبدلات خيرا منها ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين قلت إذا طلقهن رسول الله ﷺ لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة وكان غيرهم من الموصوفات بهذه الأوصاف ﴿خيرا منكن مسلمات مؤمنات﴾ مقرات مخلصات
505
﴿قانتات﴾ مطيعات فالقنوت هو القيام بطاعة الله وطاعة الله في طاعة رسوله ﴿تائبات﴾ من الذنوب أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله ﴿عابدات﴾ لله ﴿سائحات﴾ مهاجرات أو صائمات وقيل للصائم سائح لأن سائح لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في أمساكه إلى ان يجئ وقت إفطاره ﴿ثيبات وَأَبْكَاراً﴾ إنما وسط العاطف بين الثيبات والابكاردون سائر الصفات لأنهما صفتان متنافيتان بخلاف سائر الصفات
506
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦)
﴿يا أيها الذين آمنوا قُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ بترك المعاصي وفعل الطاعات ﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾ بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم ﴿نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ نوعاً من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب ﴿عليها﴾ بلى أمرها وتعذيب أهلها ﴿ملائكة﴾ يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم ﴿غِلاَظٌ شِدَادٌ﴾ في أجرامهم غلظة وشدة أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله﴾ في موضع الرفع على النعت ﴿مَا أَمَرَهُمْ﴾ في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره كقوله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى أولا يعصونه فيما أمرهم ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ وليست الجملتان في معنى واحد إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عليه ولا يتوانون فيه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)
﴿يا أيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
﴿يا أيها الذين آمنوا تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾
صادقة عن الاخفش رحمه الله وقيل خاصلة يقال عسل ناصح إذا خلص من الشمع وقيل نصوحاً من نصاحة الثوب أي توبة ترفوا خروقك في دينك وترم
506
خللك ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها وبضم النون حماد ويحيى وهو مصدر أي ذات نصوح أن تنصح نصوحاً وجاء مرفوعاً إن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع وعن حذيفة بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم لا ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع وعن حذيفة بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب يعود فيه وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي الاستغفار وباللسان والندم بالجنان والإقلاع بالإركان ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم﴾ هذا على ما جرت به عادة الملوك من الاجابة بعسى ولعل ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ ونصب ﴿يَوْمَ﴾ يدخلكم ﴿لا يخزي الله النبي والذين آمنوا مَعَهُ﴾ فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر ﴿نُورُهُم﴾ مبتدأ ﴿يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم﴾ في موضع الخبر ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾ يقولون ذلك إذا انطفأ نور المنافقين ﴿واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قدير﴾
507
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
﴿يا أيها النبى جاهد الكفار﴾ بالسيف ﴿والمنافقين﴾ بالقول الغليظ والوعد البليغ وقيل باقامة الحدود عليها ﴿واغلظ عليهم﴾ على الفريقين فيما نجاهدهما به من القتال والمحاجة باللسان ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وبئس المصير﴾
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ
مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)
﴿ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين﴾ مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة ولا بنفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبين من النسب والمصاهرة وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بإفشاء أسرارهما فلم يغن الرسولان عنهما أي عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج اغناء ما من عذاب الله وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١)
﴿وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون﴾
هي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الأربعة ﴿إِذْ قَالَتِ﴾ وهي تعذب ﴿رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة﴾ فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك ﴿وَنَجّنِى من فرعون وعمله﴾ أي منعمل فرعون أو من نفس فرعو الخبيثة وخصوصاً من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جزم ﴿وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين﴾ من القبط كلهم وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء اليه ومسئلة الخلاص عند المحن والنوازل من سير الصالحين
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)
﴿وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ من الرجال ﴿فَنَفَخْنَا﴾ فنفخ جبريل بأمرنا ﴿فِيهِ﴾ في الفرج ﴿مِن رُّوحِنَا﴾ المخلوقة لنا {وَصَدَّقَتْ بكلمات
508
رَبَّهَا} أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ﴿وَكُتُبِهِ﴾ بصري وحفص يعني الكتب الأربعة ﴿وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على أناثه ومن للبعيض ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من الفائتين لأنها من أعقاب هرون أخي موسى عليهما السلام ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم لا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمى المؤمنين بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه إشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم
509
سورة الملك مكية وهي ثلاثون آية وتسمى الوقعية والمنجية لأنها تقي قارئها من عذاب القبر وجاء مرفوعاً من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب

بسم الله الرحمن الرحيم

510
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).