تفسير سورة التحريم

معاني القرآن

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله جلّ وعز :﴿ يأَيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾.
نزلت في ماريَّة القبطية، وَكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل لكل امرأة من نسائه يوما، فلما كان يوم عائشة زارتها حفصة بنت عمر، فخلا بيتها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى مارية القبطية، وكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في منزل حفصة، وجاءت حفصة إلى منزلها فإذا الستر مرخى، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتكتمين علي ؟ فقالت : نعم، قال : فإنها عليّ حرام يعني مارية، وأخبرك : أن أباك وأبا بكر سيملكان من بعدي، فأخبرت حفصة عائشة الخبر، ونزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فدعا حفصة فقال : ما حملك على ما فعلتِ ؟ قالت له : ومن أخبرك أني قلت ذلك لعائشة ؟ قال :«نبأني العليم الخبير » ثم طلق حفصة تطليقة، واعتزل نساءه تسعة وعشرين يوما. ونزل عليه :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ من نكاح مارية.
ثم قال :﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ﴾ يعني : كفارة أيمانكم، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم رقبة، وَعاد إلى مارية.
قال [ الفراء ] : حدثني بهذا التفسير حِبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ثم قال :«عرف بعضه » يقول : عرف حفصة بعض الحديث ؛ وترك بعضاً، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عَرَف » خفيفة.
[ حدثنا محمد بن الجهم ] حدثنا الفراء قال : حدثني محمد بن الفضل المروزي عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي «عَرَف » خفيفة.
حدثنا الفراء، وحدثني شيخ من بني أسد يعني الكسائي عن نعيم عن أبى عمرو عن عطاء عن أبي عبد الرحمن قال : كان إذا قرأ عليه الرجل :«عَرَّف بعضه » بالتشديد حصبه بالحصباء، وَكأن الذين يقولون : عرَف خفيفة يريدون : غضب من ذلك وَجازى عليه، كما تقول للرجل يسيء إليك : أما والله لأعرفن لك ذلك، وقد لعمري جازى حفصة بطلاقها، وهو وجه حسن، [ وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ عرف بالتخفيف كأبي عبد الرحمن ].
وقوله :﴿ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ﴾.
يعنى : عائشة وحفصة، وذلك : أن عائشة قالت : يا رسول الله، أما يوم غيري فتتمه، وأما يومي فتفعل فيه ما فعلت ؟ فنزل : إن تتوبا إلى الله من تعاونكما على النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ﴾ زاغت ومالت ﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ﴾ تعاونا عليه، قرأها عاصم وَالأعمش بالتخفيف، وقرأها أهل الحجاز :«تظَّاهرا » بالتشديد ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ ﴾ : وليه عليكما ﴿ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ مثلُ أبي بكر وعمر الذين ليس فيهم نفاق، ثم قال :﴿ وَالْمَلائكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ بعد أولئك، يريد أعوان، ولم يقل : ظهراء، ولو قال قائل : إن ظهيراً لجبريل، ولصالح المؤمنين، والملائكة كان صوابا، ولكنه حسن أن يجعل الظهير للملائكة خاصة، لقوله :( والملائكة ) بعد نصرة هؤلاء ظهير.
وأما قوله :﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فإنه موحد في مذهب الجميع، كما تقول : لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا سياسة للحرب فقد أمر بالمجيء واحداً كان أو أكثر منه، ومثله :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ﴾، هذا عامٌّ [ ٢٠١/ب ] وليس بواحد ولا اثنين، وكذلك قوله :﴿ والَّلذانِ يأْتِيَانِها مِنكُمْ فَآذُوهما ﴾، وكذلك :﴿ إنّ الإِنْسَانَ لَفي خُسْرٍ ﴾، و ﴿ إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾، في كثير من القرآن يؤدى معنى الواحد عن الجمع.
وقرأ عاصم والأعمش :«أنْ يُبْدلَهُ » بالتخفيف، وقرأ أهل الحجاز، «أن يبَدِّله » [ بالتشديد ] وكلٌّ صواب : أبدلت، وبدّلت.
وقوله :﴿ سَائحاتٍ ﴾.
هنّ الصائمات، قال : ونرى أن الصائم إنما سمّي سائحا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد، فكأنه أخذ من ذلك. والله أعلم.
والعرب تقول للفَرس إذا كان قائما على غير علف : صائم، وذلك أن له قُوتَيْن. قُوتاً غدوة وقوتا عشية ؛ فشبه بتسحر الآدمي وإفطاره.
وقوله :﴿ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾.
علِّموا أهليكم ما يدفعون به المعاصي، علموهم ذلك.
وقوله :﴿ تَوْبَةً نَّصُوحا ﴾.
قرأها بفتح النون أهلُ المدينة والأعمش، وذكر عن عاصم والحسن «نُصُوحا »، بضم النون، وكأن الذين قالوا :«نُصوحا » أرادوا المصدر مثل : قُعودا، والذين قالوا :«نَصوحا » جعلوه من صفة التوبة، ومعناها : يحدّث نفسه إذا تاب من ذلك الذنب ألاّ يعود إليه أبداً.
وقوله :﴿ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ﴾.
لا يقوله كل من دخل الجنة، إنما يقوله أدناهم منزلة ؛ وذلك : أن السابقين فيما ذكر يمرون كالبرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كالفرس الجواد، وبعضهم حَبْوًا وَزحفاً، فأولئك الذين يقولون :﴿ رَبَّنا أتْمِمْ لَنا نُورَنا ﴾ حتّى ننجو.
ولو قرأ قارئ :«ويدخلْكم » جزماً لكان وجهاً ؛ لأن الجواب في عسى فيضمر في عسى الفاء، وينوي بالدخول أن يكون معطوفاً على موقع الفاء، ولم يقرأ به أحدٌ،
ومثله :﴿ فَأَصَّدَقَ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحِين ﴾.
ومثله قول الشاعر :
فأبلوني بليتكُم لعلى أصالحكم، واستدرجْ نَويَّا
فجزم لأنه نوى الرد على لعلى.
وقوله :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
هذا مثل أريد به عائشة، وحفصة فضرب لهما المثل، فقال : لم ينفع امرأة نوح وامرأة لوط إيمانُ زوجيهما، ولم يضر زوجيهما نفاقُهما، فكذلك لا ينفعكما نُبوُّة النبي صلى الله عليه وسلم لو لم تؤمنا، ولا يضره ذنوبكما.
ثم قال :﴿ وضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْن ﴾ فأمرهما أن تكونا : كآسية، وكمريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها. والفرج ها هنا : جيب درعها، وذكر أن جبريل : صلى الله عليه وسلم وسلم نفخ في جيبها، وكل ما كان في الدرع من خرْق أو غيره يقع عليه اسم الفرج. قال الله تعالى :﴿ وَمالَها مِنْ فُرُوجٍ ﴾ يعني السماء من فطور ولا صدوع.
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).