تفسير سورة التحريم

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ رُوي في سبب نزول الآية وجوه، أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب ويأكل عند زينب، فتواطأت عائشة وحفصة على أن تقولا له نجد منك ريح المغافير، قال :" بَلْ شَرِبْتُ عِنْدَها عَسَلاً ولَنْ أَعُودَ لَهُ "، فنزلت :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾. وقيل : إنه شرب عند حفصة، وقيل عند سودة، وأنه حرم العسل ؛ وفي بعض الروايات :" والله لا أَذُوقُهُ ". وقيل : إنه أصاب مارية القبطية في بيت حفصة، فعلمت به فجزعت منه، فقال لها :" أَلاَ تَرْضِين أَنْ أُحَرِّمها فلا أقْرَبها " ؟ قالت : بلى ؛ فحرّمها وقال :" لا تَذْكُري ذَلِكَ لأَحَدٍ "، فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه وأنزل عليه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ الآية ؛ رواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب بذلك.
قال أبو بكر : وجائز أن يكون الأمْرَانِ جميعاً قد كانا من تحريم مارية وتحريم العسل، إلا أن الأَظْهَرَ أنه حَرَّمَ مارية وأن الآية فيها نزلت ؛ لأنه قال :﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾، وليس في ترك شُرْبِ العَسَل رِضَا أزواجه، وفي ترك قُرْبِ مارية رضاهنّ. فرُوي في العسل أنه حرّمه، ورُوي أنه حلف أن لا يشربه. وأما مارية فكان الحسن يقول : حرّمها ؛ ورَوَى الشعبي عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلَى وحَرَّمَ، فقيل له : الحرام حلال وأما اليمين فقد فرض الله لكن تِحَلَّةَ أيمانكم. وقال مجاهد وعطاء :" حرَّم جاريته "، وكذلك رُوي عن ابن عباس وغيره من الصحابة. وأما قول من قال إنه حرم وحلف أيضاً، فإن ظاهر الآية لا يدل عليه وإنما فيها التحريم فقط، فغير جائز أن يُلْحَقَ بالآية ما ليس فيها، فوجب أن يكون التحريم يميناً لإيجاب الله تعالى فيها كفارة يمين بإطلاق لفظ التحريم.
ومن الناس من يقول : لا فرق بين التحريم واليمين، لأن اليمين تحريم للمحلوف عليه والتحريم أيضاً يمين ؛ وهذا عند أصحابنا يختلف في وجه ويتفق في وجه آخر، فالوجه الذي يوافق اليمين فيه التحريم أن الحنث فيهما يوجب كفارة اليمين، والوجه الذي يختلفان فيه أنه لو حلف أنه لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه لم يحنث، ولو قال :" قد حرّمت هذا الرغيف على نفسي " فأكل منه اليسير حنث ولزمته الكفارة ؛ لأنهم شبَّهوا تحريمه الرغيف على نفسه بمنزلة قوله والله لا أكلتُ من هذا الرغيف شيئاً، تشبيهاً له بسائر ما حرَّمه الله من الميتة والدم أنه اقتضى تحريم القليل منه والكثير.
واختلف السلف في الرجل يحرّم امرأته، فرُوي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر :" أن الحرام يمين "، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وطاوس. ورُوي عن ابن عباس روايةً مِثْلُه، ورُوي عنه غير ذلك. وعن عليّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت روايةً وابن عمر روايةً وأبي هريرة وجماعة من التابعين قالوا :" هي ثلاث ". ورَوَى خَصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام بمنزلة الظهار. ورَوَى منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" النذر والحرام إذا لم يسمَّ مغلظة، فتكون عليه رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً ". وروى ابن جبير عن ابن عباس أيضاً :" إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفّرها، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ! " وهذا محمول على أنه إذا لم تكن له نيّة فهو بمنزلة يمين، وأنه إن أراد الظهار كان ظهاراً.
وقال مسروق :" ما أُبالي إيّاها حرمتُ أو قصعة من ثريد ". وعن أبي سلمة بن عبدالرّحمن :" ما أبالي حرمتُ امرأتي أو ماءً فُراتاً ". قال أبو بكر : وليس فيه دلالة على أنهم لم يَرَوْهُ يميناً ؛ لأنه لا جائز أن يكون قولهما في تحريم الثريد والماء أنه يمين، فكأنهما لم يريا ذلك طلاقاً ؛ وكذلك نقول إنه ليس بطلاق إلا أن ينويه، فلم تظهر مخالفة هذين لمن ذكرنا قولهم من الصحابة واتفاقهم على أن هذا القول ليس بلَغْوٍ وأنه إما أن يكون يميناً أو طلاقاً أو ظهاراً.
واختلف فقهاء الأمصار في الحرام، فقال أصحابنا :" إن نَوَى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً، وإن لم يَنْوِ طلاقاً فهو يمين وهو مُولٍ ". وذكر ابن سماعة عن محمد :" أنه إن نوى ظهاراً لم يكن ظهاراً ؛ لأن الظهار أصله بحرف التشبيه ". وروى ابن شجاع عن أبي يوسف في اختلاف زفر وأبي يوسف :" أنه إن نوى ظهاراً كان ظهاراً ". وقال ابن أبي ليلى :" هي ثلاث ولا أسأله عن نيته ". وقال مالك فيما ذَكَرَ عنه ابن القاسم :" الحرامُ لا يكون يميناً في شيء إلا أن يحرّم امرأته فيلزمه الطلاق، وهو ثلاثٌ، إلا أن ينوي واحدة أو ثنتين فيكون على ما نَوَى ". وقال الثوري :" إن نوى ثلاثاً فثلاثٌ، وإن نوى واحدة فواحدةٌ بائنةٌ، وإن نوى يميناً فهي يمين يكفّرها، وإن لم يَنْوِ فرقة ولا يميناً فليس بشيء هي كذبةٌ ". وقال الأوزاعي :" هو على ما نَوَى، وإن لم يَنْوِ شيئاً فهو يمين ". وقال عثمان البتي :" هو بمنزلة الظهار ". وقال الشافعي :" ليس بطلاق حتى ينوي فإذا نَوَى فهو طلاق على ما أراد من عدده، وإن أراد تحريمها بلا طلاق فعليه كفّارة يمين وليس بمُولٍ ".
قال أبو بكر : قد جعل أصحابُنا التحريم يميناً إذا لم تقارنه نيةُ الطلاق إذا حرّم امرأته، فيكون بمنزلة قوله لها :" والله لا أقربك " فيكون مُولِياً، وأما إذا حرّم غير امرأته من المأكول والمشروب وغيرهما فإنه بمنزلة قوله :" والله لا آكل منه ووالله لا أشرب منه " ونحو ذلك، لقوله تعالى :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ ثم قال :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾، فجعل التحريم يميناً، فصارت اليمين في مضمون لفظ التحريم ومقتضاه في حكم الشرع، فإذا أطلق كان محمولاً على اليمين إلا أن ينوي غيرها فيكون ما نَوَى، فإذا حرم امرأته وأراد الطلاق كان طلاقاً لاحتمال اللفظ له ؛ وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فإنه متى أراد به الطلاق كان طلاقاً، والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لركانة حين طلّق امرأته البتّة :" بالله ما أَرَدْتَ إِلاّ وَاحِدَةً " فتضمن ذلك معنيين، أحدهما : أن كل لفظ يحتمل الثلاث ويحتمل غيرها فإنه متى أراد الثلاث كان ثلاثاً، لولا ذلك لم يستحلفه عليها. والثاني : أنه لم يلزمه الثلاث بوجود اللفظ وجعل القول قوله للاحتمال فيه، فصار ذلك أصلاً في أن كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره أنّا لا نجعله طلاقاً إلا بمقارنة الدلالة لإرادة الطلاق. ومما يدلّ على أن اللفظ المحتمل للطلاق يجوز إيقاع الطلاق به وإن لم يكن طلاقاً في نفسه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة :" اعْتَدِّي " ثم راجعها فأوقع الطلاق بقوله :" اعتدّي " لاحتمال له، ولا نعلم أحداً من السلف منه إيقاع الطلاق بلفظ التحريم، ومن قال منهم هو يمين فإنما أراد به عندنا إذا لم تكن له نية الطلاق ولم تقارنه دلالة الحال. وزعم مالك أنّ من حرم على نفسه شيئاً غير امرأته أنه لا يلزمه بذلك شيء وأن ذلك ليس بيمين، وقد ذكرنا ما اقتضى قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ من كونه يميناً، لقوله تعالى :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾، وأنه لا يجوز إسقاط موجب هذا اللفظ من الكون الحرام يميناً برواية من رَوَى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يشرب العسل، إذْ غير جائز الاعتراض على حكم القرآن بخبر الواحد ؛ ولأن من رَوَى اليمين يجوز أن يكون إنما عَنَى به التحريمَ وحده إذ كان التحريم يميناً. ويدلّ من جهة النظر على أن التحريمَ يمينٌ أن المحرّم للشيء على نفسه قد اقتضى لفظه إيجاب الامتناع منه كالأشياء المحرمة، وذل في معنى النذر وقول الله :" لله عليَّ أن لا أفعل ذلك "، فلما كان النذر يميناً بالسنّة واتفاق الفقهاء وجب أن يكون تحريم الشيء بمنزلة النذر فتجب فيه كفارة يمين إذا حنث كما تجب في النذر.
مطلب : يجب علينا تعليم أولادنا وأهلينا
وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ﴾ ؛ رُوي عن عليّ في قوله :﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾ قال :" علموا أنفسكم وأهليكم الخير ". وقال الحسن :" تعلمهم وتأمرهم وتنهاهم ". قال أبو بكر : وهذا يدل على أن علينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يُسْتَغْنَى عنه من الآداب، وهو مثل قوله تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ [ طه : ١٣٢ ]، ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ]. ويدل على أن للأقرب فالأقرب منا مَزِيّة به في لزومنا تعليمهم وأمرهم بطاعة الله تعالى، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم :" كُلّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "، ومعلوم أن الراعي كما عليه حِفْظُ من اسْتُرْعِيَ وحمايته والتماس مصالحه فكذلك عليه تأديبه وتعليمه ؛ وقال عليه السلام :" فالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ والأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال : حدثنا محمد بن عبدالله بن حفص قال : حدثنا محمد بن موسى السعدي عن عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً خَيْراً مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا الحضرمي قال : حدثنا جبارة قال : حدثنا محمد بن الفضل عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" حَقُّ الوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ويُحْسِنَ أَدَبَهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا محمد بن ربيعة قال : حدثنا محمد بن الحسن بن عطية قال : حدثنا محمد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذَا بَلَغَ أَوْلادُكُمْ سَبْعَ سِنِينَ فَعَلِّمُوهُمُ الصَّلاةَ، وإِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المَضَاجِعِ ".
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾. قال الحسن :" أكثر من كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون، فأمر أن يغلظ عليهم في إقامة الحد ". وقيل :" جهاد المنافقين بالقول وجهاد الكفار بالحرب ". وقال أبو بكر : فيه الدلالة على وجوب الغِلْظَةِ على الفريقين من الكفار والمنافقين ونَهْيٌ عن مقارنتهم ومعاشرتهم، ورُوي عن ابن مسعود قال :" إذا لم تقدروا أن تنكروا على الفاجر فالْقَوْهُ بوجه مُكْفَهِرّ ".
قوله تعالى :﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾، قال ابن عباس :" كانتا منافقتين ما زنت امرأة نبيّ قَطّ " ؛ وكانت خيانتهما أن امرأة نوح عليه السلام كانت تقول للناس إنه مجنون، وكانت امرأة لوط عليه السلام تدل على الضيف.
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).