تفسير سورة التحريم

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
وهي مدنية. وفيها موضعان.

– قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك…. ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ :
اختلف في سبب ١ هذه الآية. فروي عن عكرمة وابن عباس أنها نزلت بسبب أم شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها نزلت بسبب العسل الذي شربه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له من دنا منها : أكلت مغافير. والمغافير : صمغ العرفط، وهو حلو ثقيل الرائحة، ففعلن ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ولكني شربت عسلا ". فقلت له : جرست نخله العرفط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أشربه أبدا ". وكان يكره أن يوجد منه رائحة ثقيلة. وروي أنه حلف، وروي أيضا أنه حرم العسل، والآية تدل على ذلك. فدخل بعد ذلك على زينب فقالت : ألا نسقيك من ذلك العسل ؟ قال : " لا حاجة لي به ". قالت عائشة : فقالت سودة حين بلغها امتناعه : ولقد حرمناه. قلت لها : أسكتي ٢. وروي عن زيد بن أسلم وغيره في سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى إليه المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية. فلما كان في بعض الأيام – وهو يوم حفصة بنت عمر، وقيل بل كان يوم عائشة – جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت لزيارة أبيها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته، فقال معها، فجاءت حفصة فوجدتها، فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت. فدخلت حفصة غيرى متغيرة فقالت يا رسول الله : أما كان في نسائك أهون عليك مني ؟ أفي بيتي وعلى فراشي ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم متراضيا : " أيرضيك أن أحرمها ؟ " قالت : نعم. فقال إني قد حرمتها ٣ قال بعضهم ولم يقل مع ذلك : والله لما أطأها وذلك مذكور عن أبي بكر وعمر وابن عباس. وقال ابن عباس : بل قال مع ذلك : " والله لا أطأها أبدا ". ثم قال لها لا تخبري بهذا أحدا. فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة قال : استكتمها خوفا من غضب عائشة وحسن عشرته لها. ومن قال بل كان في يوم حفصة قال : استكتمها لنفس الأمر. ثم إن حفصة رضي الله تعالى عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة وأخبرتها لتسرها بالأمر ولم تر في إفشائه إليه حرجا. فأوحى الله تعالى إلى نبيه ونزلت الآية. وهذا القول أصح الأقوال في سبب الآية. وقيل إن هذا كان سبب تظاهر حفصة وعائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن لا يدخل على نسائه شهرا حين طلبن منه النفقة ٤. وقد اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه طعاما أو شرابا أو أمته أو أم ولده أو شيئا أحله الله تعالى له ما عدا الزوجة. فقالت طائفة لا يحرم عليه ذلك وعليه كفارة يمين، قاله أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي. وقال مالك والشافعي : لا يحرم عليه وليس عليه كفارة وأن التحريم في ذلك ليس بشيء. والحجة لهذا القول حديث عائشة أن الآية نزلت في شرب العسل ولم يذكر في ذلك كفارة. وحجة من أوجب الكفارة حديث زيد بن أسلم في تحريم الجارية. قال بعض رواته : كفر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التحريم وأصاب جاريته. قال جماعة فمن ذهب إلى هذا ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لا أطأها ". قال إسماعيل بن إسحاق : الحكم في ذلك واحد لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق بالتحريم فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب. ولعل القصتين قد كانتا جميعا في وقتين مختلفين غير أن أمر الجارية في هذه أشبه لقوله تعالى :﴿ تبتغي مرضات أزواجك ﴾ ولقوله تعالى :﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ﴾ فكان ذلك في الأمة أشبه لأن الرجل يغشي أمته في ستر ولا يشرب العسل في ستر ولأن تحريم الأمة فيه مرضاة لهن. وقد اختلف في تكفير النبي صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم : حرم فأمر بالكفارة. وقال بعضهم : حرم وحلف فلذلك أمر بالكفارة، وقد يمكن أن يكون حرمها وحلف ٥ وقد زعم بعض من رأى في تحريم الأمة كفارة يمين أن الزوجة مثل الأمة في ذلك وأن من حرم زوجته فعليه كفارة ٦ وزعم أيضا بعض من لا يرى في الأمة كفارة أنه لا كفارة أيضا في تحريم الزوجة ولا يلزم فيه شيء كما لا يلزم في الأمة ولا غيرها. قالوا إنما عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في التحريم للأمة. واختلف فيمن حرم زوجته اختلافا كثيرا حتى قالت طائفة إنه ليس بشيء. قالوا وإنما عاتب الله تعالى نبيه وذلك على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله : " قد حرمتها والله لا أطأها أبدا ". وقال مسروق : ما أبالي أحرمتها يعني الزوجة أو قصعة من ثريد. كذلك قال الشعبي : ليس التحريم بشيء قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ﴾ [ النحل : ١١٦ ] وقال :﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾ ٧ [ المائدة : ٨٧ ] ومحرم زوجته مسمى حراما ما جعله الله تعالى حلالا. ومحرم ما أحل الله تعالى له. وقد مر الكلام على هذه المسألة وتحصيل الخلاف فيها مستوعبا فلا معنى لإعادته. وظاهر الآية يقتضي أن صيام الدهر مكروه لأن فاعل ذلك محرم على نفسه ما أحل الله تعالى له من أكل النهار وغيره من المباحات المفسدة للصوم. وقد اختلف فيمن حلف بصيام الدهر، فقال مالك يصوم ما عاش. وقال ابن القاسم يصوم سنة. وقال أشهب يصوم ستة أشهر. وقال ابن حنبل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. وقال الأوزاعي : لا شيء عليه لأن الله جل ثناؤه هو الدهر. وقال الشافعي وغيره من أهل العلم عليه كفارة يمين وكانوا يأخذون بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة يمين ما لم يكن فيه عتق أو طلاق ٨ وكان مالك رحمه الله تعالى رأى أن الصوم وإن كان مكروها لظاهر الآية فإنه من ألزم نفسه شيئا لزمه لقوله تعالى :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ٩ [ المائدة : ١ ].
١ "سبب " كلمة ساقطة في (ب)، (ح)، (د)، (هـ)..
٢ وقد ذكر هذا السبب القرطبي في تفسيره نقلا عن صحيح مسلم فراجعه ١٨/ ١٧٨. وقال فيه ابن عاشور: هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. راجع التحرير والتنوير ٢٨/ ٣٤٤..
٣ ذكره ابن عاشور في التحرير والتنوير نقلا عن ابن القاسم في المدونة ٢٨/ ٣٤٤. وذكره أيضا الواحدي في أسباب النزول ص ٣٢٥، والسيوطي في لباب النقول ص ٧٨٤، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٧٩..
٤ راجع أسباب نزول هذه الآية في التفسير الكبير ٣٠/ ٤١ وفي أسباب النزول للواحدي ص ٣٢٥، وفي أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٨٣٢، ١٨٣٣، وفي أحكام القرآن للجصاص ٥/ ٣٦٢، وفي الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٧٧- ١٧٩..
٥ قال ابن عباس: فك النبي صلى الله عليه وسلم يمينه وضمها إلى نفسه. راجع تنوير المقباس ص ٤٧٧..
٦ "زعم بعض... إلى: كفارة" كلام ساقط في (ح)..
٧ وأضاف القرطبي ربيعة وأبا سلمة وأصبغ. راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٠..
٨ الحديث ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة نقلا عن شرح الرسالة للفاكهاني ص ٢٧٣..
٩ راجع هذه المسائل في أحكام القرآن لابن العربي ٤/١٨٣٣- ١٨٣٩..
– وقوله تعالى :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ :
اختلف في تأويله. فقال قوم هذه إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم : والله لا أطأها أبدا. وقال آخرون هي إشارة إلى حلفه عليه الصلاة والسلام أن لا يدخل على نسائه شهرا فأمره الله تعالى بكفارة الإيلاء وأحال بقوله تعالى في هذه الآية :﴿ تحلة أيمانكم ﴾ على الآية التي في كفارة اليمين لله تعالى ١.
١ راجع التفسير الكبير ٣٠/ ٤٣، والجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٥، ١٨٦..
– قوله تعالى :﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ﴾ :
اختلف في معناه. فقال الجمهور : هو إشارة إلى أمر مارية. وقال آخرون بل إلى قوله إنما شربت عسلا. وقال ميمون بن مهران ١ الحديث الذي أسره ٢ إلى حفصة أنه قال : " أبشري فإن أبا بكر وعمر يملكان أمر أمتي من بعد خلافتي " ٣.
وقوله تعالى :﴿ عرف بعضه ﴾ :
من قرأ بالتخفيف فمعناه جازى بالعتب واللوم كما تقول لمن يؤذيك : قد عرفت لك هذا ولا أعرفن لك هذا. أي لا أجازينك عليه، ونحوه في المعنى قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم ﴾ [ النساء : ٦٣ ] فعلم الله كفيل مجازاتهم. ومن قرأه بالتشديد فمعناه أعلم به وابن عليه.
قوله تعالى :﴿ وأعرض عن بعض ﴾ :
أعرض تكرما وحياء وحسن عشرة. وقال الحسن ما استقصى كريم قط. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها. وروي أنه عاتبها ولم يطلقها ٤.
١ ميمون بن مهران: هو أبو أيوب ميمون بن وهران. فقيه. انظر تذكرة الحفاظ ١/ ٩٣..
٢ "الذي أسره" كلام ساقط في (ح)، (ز)..
٣ قال القرطبي: وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي. راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٦..
٤ قال القرطبي: فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك. راجع الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٨٧..
– قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾ :
في هذه الآية التأكيد في أمر الجهاد. والمعنى : دم على جهاد الكفار بالسيف والمنافقين بزجرهم وإقامة الحدود عليهم في كل ما اجترموه. وقال قوم : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أذن له في قتال المنافقين وقتلهم وذلك حين كثر المسلمون. وقد تقدم كثير من نحو هذه الآية وتكلمنا عليه.
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).