تفسير سورة التحريم

جامع البيان في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة التحريم مدنية
وهي اثنتا عشرة آية وفيها ركوعان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يا أيها النبي لم تحرم١ ما أحل الله لك ﴾ من العسل، ففي الصحيحين وغيرهما، عن عائشة أنه عليه السلام كان يمكث عند زينب، ويشرب عسلا، فتواطئت أنا وحفصة، أنا نقول له : نجد منك ريح مغافير، فدخل على أحدهما. فقالت له ذلك، فقال :" لا بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا "، وكان يبتغي بذلك مرضاة أزواجه، فنزلت. ومغافير : شبيه بالصمغ، لها رائحة كريهة ﴿ تبتغي مرضات٢ أزواجك ﴾ مستأنفة أو حال ﴿ والله غفور رحيم ﴾ فلم يؤاخذك بما صدر منك وقد روى٣ أنه عليه السلام أصاب أم إبراهيم في بيت حفصة فعلمت فقالت : أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فحرمها على نفسه، وقال :" والله لا أطؤها، ولا تذكري ذلك لأحد "، فذكرته لعائشة، فعوتب في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين، ذكره كثير من السلف
١ معنى تحرم تمنع لا التحريم الشرعي وهذا كما قال الله تعالى:﴿وحرمنا عليه المراضع﴾[القصص: ١٢] أو حرمه بالحلف كما في النذر والمحرم بهما هو الله وهو الذي عين الكفارة كما هو مبين في كتب الفقه، لكن شأنه العظيم وقدره السّنية أن يكون جميع أموره صلى الله عليه وسلم لوجه الله وبإذن من الله وإن كان هذا التحريم والحلف لتطييب خاطر أهله لحسن العشرة الذي هو أحسن عند الناس/١٢ وجيز..
٢ وشأنك أن تبتغي في أمورك مرضات الله/١٢..
٣ روى عن كثير من السلف كإبن عباس رضي الله عنهما وعمر بن الخطاب وغيرهما وقال المحدثون: إسناده إلى عمر صحيح/١٢ وجيز. [وقال ابن كثير في "تفسيره" (٤/٣٨٦): وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج].
﴿ قد فرض ﴾ شرع ﴿ الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ تحليلها بالكفارة وهي ما ذكر في سورة المائدة ﴿ والله مولاكم وهو العليم الحكيم ﴾ فلا يأمركم إلا بما هو صلاحكم
﴿ وإذ أسر النبي ﴾ منصوب باذكر ﴿ إلى بعض أزواجه ﴾ حفصة ﴿ حديثا ﴾ تحريم العسل أو مارية ﴿ فلما نبأت به ﴾ أخبرت حفصة بالحديث عائشة ﴿ وأظهره الله عليه ﴾ أطلع الله نبيه على إنبائها ﴿ عرف بعضه ﴾ أي عرف عليه السلام حفصة بعض ما فعلت ﴿ وأعرض عن بعض ﴾ ولم يعرفها بعضها على وجه التكرم. عن الحسن ما استقصى١ كريم قط، أو جازيها على بعضه بتطليقها، أو إرادة تطليقها، وتجاوز عن بعض، وعن بعض أسر إليها شيئين تحريم الأمة، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وعمر، فأخبرها ببعض ما أفشت، وهو تحريم الأمة، وأعرض عن ذكر الخلافة ؛ كراهة الانتشار ﴿ فلما نبأها به قالت ﴾ حفصة ﴿ من أنبأك هذا ﴾ أي : إني قلت٢ لأحد ﴿ قال نبأني العليم الخبير ﴾
١ وعن سفيان لا يزال التغافل من فعل الكرام والله أعلم أن المعرض عنه أي شيء قيل إن المعرف حديث العسل والذي أعرض عنه حديث مارية وأما ما روى أنه أسر إليها بشيئين تحريم أمته وتبشيرها بخلافة أبي بكر وعمر بعده فأفشت شيئين وأعرض عن ذكر الخلافة كراهة الانتشار فقال الشيخ أبو الفداء ابن كثير: في إسناده نظر/١٢ وجيز..
٢ وأفشيت سرك فإنها ظنت عائشة فضحتها/١٢ وجيز..
﴿ إن تتوبا ﴾ يا حفصة وعائشة ﴿ إلى الله ﴾ خطاب لهما من الله ﴿ فقد صغت قلوبكما ﴾ أي : إن تتوبا فقد حق لكما ذلك، فإنه قد عدلت عن الحق قلوبكما، وصدر منكما ما يوجب التوبة ﴿ وإن تظاهرا ﴾ تعاونا ﴿ عليه ﴾ فيما يسوءه ﴿ فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ﴾ فلم يعدم هو من يظاهره من الله، وجبريل رأس الكروبيين، وصلحاء المؤمنين، فيكون جبريل عطف على محل اسم إن ﴿ والملائكة ﴾ أجمعون ﴿ بعد ذلك ظهير ﴾ متظاهرون ؛ جملة مستقلة معطوف على جملة ﴿ إن الله هو مولاه ﴾ الآية
﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ﴾ عن١ عمر- رضي الله عنه- اجتمع- في الغيرة عليه السلام- نساؤه، فقلت : عسى ربه إن طلقكن، أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية ﴿ مسلمات مؤمنات ﴾ منقادات ﴿ قانتات ﴾ مواظبات على الطاعات ﴿ تائبات عابدات ﴾ قيل معناه : متذللات لأمر الرسول عليه السلام ﴿ سائحات ﴾ صائمات، وفي الحديث :" سياحة هذه الأمة الصيام٢. أو مهاجرات ﴿ ثيبات وأبكارا ﴾ وسط العاطف٣ بينهما لتنافيهما
١ كما في البخاري/١٢..
٢ [ورد موقوفا ومرفوع والموقوف أصح كما قال ابن كثير في "تفسيره" (٢/٢٩٣)]..
٣ يعني هما صفتان متنافيتان لا يجتمعان فلا بد أن يتوسط بينهما العاطف بخلاف الصفات المتقدمة/١٢ منه..
﴿ يا أيها١ الذين آمنوا قوا أنفسكم ﴾ بترك المعاصي ﴿ وأهليكم ﴾ بالنصح والتأديب ﴿ نارا وقودها ﴾ ما يوقد بها ﴿ الناس والحجارة ﴾ حجارة من كبريت ؛ فإنها أشد وأنتن، أو حجارة الأصنام ﴿ عليها ملائكة ﴾ هي خزنة النار ﴿ غلاظ شداد ﴾ ليس في قلوبهم مثقال ذرة من الرحمة والشفقة، ومنظرهم مزعج ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ﴾ فيما مضى، وما أمرهم بدل من لفظ الله ﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾ فيما يستقبل، أو لا يمتنعون ويفعلون، فإن عدم الامتناع لا يدل على الفعل، فإنه ربما لا٢ يقدر
١ ولما وعظ أهل البيت موعظة خاصة اتبع ذلك بموعظة عامة فقال:﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ الآية/١٢ وجيز..
٢ وقيل: كرر توكيدا/١٢ وجيز..
﴿ يا أيها١ الذين كفروا ﴾ أي يقال لهم ذلك ﴿ لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ﴾ في الدنيا.
١ ولما وعظ المؤمنون بوقاية أنفسهم وأهليهم عن النار ذكر ما يقال لأصحاب النار عند دخولها: فقال:﴿يا أيها الذين كفروا﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ﴾ وصفت التوبة بالنصح بالمجاز وهو في الحقيقة صفة التائب، فإنه ينصح نفسه بالتوبة، أو معناه خالصة، يقال : ناصح، أي خالص من الشمع، أو توبة تنصح، وتخيط ما خرق الذنب، وهي ترك الذنب، والعزم على عدم العود والندم، ثم إن كان الحق لآدمي رده. وعن الحسن هو أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته، وعن بعض المحققين أن عدم المؤاخذة بالذنب الذي تاب منه إذا لم يعد إليه فإذا عاد إليه فقد يؤاخذ به وفي الحديث الصحيح :" من أحسن في الإسلام١، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء فيه أخذ بالأول والآخر٢ " ﴿ عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات نجري من تحتها الأنهار ﴾ فيه إشعار بأن العبد ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء، وأنه تفضل لا يجب عليه شيء ﴿ يوم لا يخزي الله النبي ﴾ ظرف ليدخلكم ﴿ والذين ٣ آمنوا معه ﴾ عطف على النبي، أو مبتدأ خبره قوله :﴿ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ على الصراط، يقولون حين يرون أن نور المنافقين قد طفئ ﴿ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ﴾
١ التأويل بأن المراد بالإساءة النفاق بعيد جدا/١٢ وجيز..
٢ أخرجاه في الصحيحين..
٣ والذين آمنوا بالموافقة، في الحديث إنه- صلى الله عليه وسلم الله- تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه إن شئت جعلت حسابهم إليك فقال: يا رب أنت أرحم بهم فقال الله: إذن لا أخزيك فيهم وأما قوله:﴿ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته﴾ [آل عمران: ١٩٢] فالمراد دخول الخلود لا دخول التطهير /١٢ وجيز..
﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار ﴾ بالسيف ﴿ والمنافقين ﴾ بالحجة وإقامة الحدود ﴿ واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير١ جهنم
١ ولما قال:﴿يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا﴾ كأن فيه تعريض لغيرهم فصرح أنهم أهل الخزي كما قال:﴿من تدخل النار فقد أخزيته﴾[آل عمران: ١٩٢]/١٢ وجيز..
﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ﴾ أي جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلا لهم، أو مثل لهم مثلا مثل امرأة نوح في أن قرابة أحد وإن كان نبيا لا ينفع مع الكفر، قيل : هذا تخويف لعائشة وحفصة ﴿ كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ﴾ بإظهار الإيمان مع إسرار الكفر لا بالفاحشة١ ﴿ فلم يغنيا ﴾ النبيان ﴿ عنهما من الله شيئا ﴾ من الإغناء ﴿ وقيل ﴾ لهما يوم القيامة ﴿ ادخلا النار مع الداخلين ﴾ مع سائر الكفرة
١ عن ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم/١٢ منه..
﴿ وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة١ فرعون ﴾ في أن وصلة الكافر أي٢ كافر كان لا تضر مع الإيمان ﴿ إذ قالت ﴾ بدل من امرأة فرعون ﴿ رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون ﴾ من نفسه ﴿ وعمله ونجني من القوم الظالمين ﴾ نقل أنه٣ لما تبين لفرعون إسلامها أوتد لها فشد يديها ورجليها. فقالت : رب ابن لي عندك بيتا، فأبصرت بيتها في الجنة فضحكت فقال : ألا تعجبون من جنونها، فقبض الله روحها رضي الله عنها
١ جعل الله تعالى حال امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعات والتمسك بالدين والصبر في الشدة وأن صولة الكفر لا تضرهم كما لم تضر امرأة فرعون وقد كانت تحت أكفر الكافرين وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم وفيه دليل على أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان/١٢ فتح..
٢ رأى وصلة كانت/١٢ وجيز..
٣ نقل هذا المعنى أبو يعلي والبيهقي بسند صحيح مع اختلاف يسير/١٢ كذا في الدر المنثور..
﴿ ومريم ابنت عمران ﴾ عطف على امرأة فرعون ﴿ التي أحصنت فرجها ﴾ صانته ﴿ فنفخنا فيه من روحنا ﴾ أي بواسطة جبريل كما مر في سورة الأنبياء ﴿ وصدقت بكلمات ربها ﴾ بما أوحى الله إلى الأنبياء ﴿ وكتبه ﴾ جنس الكتب المنزلة ﴿ وكانت من القانتين ﴾ من الرهط المطيعين لله ؛ لأن عشيرتها أهل صلاح، أو من عداد المواظبين على الطاعة، والتكذيب للتغليب، وفيه إشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين.
والحمد لله والمنة.
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).